لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله“دولنا الوطنية “
سيعجب بعض المتفلسفة من تفضيلي التعريف القرآني للحد الفاصل بين الإنسان والحيوان بالقدرة على التسمية على تعريفه الفلسفي بالنطق كلاما وعقلا. والاعتراض غير وجيه لعلتين: 1. التسمية أوسع من اللسان والمنطق إذ هما بعض منها 2. تحدد كل وظائف الترميز لسانيا كان أو غير لساني: نيابة المسمى. ونيابة المسمى تحدد 1. أبعاد الرمز 2. والعلاقة بينه وبين الوجود 3. وعلاقاتها بعضها بالبعض 4. وعلاقاتها بالمرموز 5. وعلاقاتها بالمتواصلين بها النيابة: 1. علاقة الطبيعة بين النائب والمنوب 2. العلاقة الوظيفية بينهما 3. علاقة النواب 4. وعلاقة النواب بالمنوبين 5. كل ما تقدم بين المتواصلين بافلوف بيّن وجود النيابة عند الحيوان بالتعود بالمؤثر الشرطي: الرفلاكس. فالكلب تفرز معدته برؤية الغذاء وكذلك بما ينوبه من مصاحباته المعتادة. لكنه لم يثبت ولن يثبت أحد أن الكلاب تتواصل بنائب ما يتعلق به التواصل فتكون لها منظومة رموز (نواب) شاملة لحضارة أو عالم مواز لعالمها الطبيعي. والأهم من ذلك ما بعد اللغة: فالإنسان يسمي الاشياء والأفعال ويسمي أسماءها. له القدرة على تسمية الاسم أيضا فيرمز للرمز ولرمز الرمز بلا حد. وتراكب الترميز وتشاجنه ومثله نيابة المرموز بلا حد هو التعريف الفلسفي الدقيق للثقافة أو لما يعمل الإنسان ليصبح ذا عالمين طبيعي وثقافي. وهذه الخاصية من الوظائف التي لا يشارك فيها الإنسان أي حيوان آخر ومن ثم فالحد الذي وضعه أرسطو يبقى صامدا ولم يستطع التطوريون الحسم فيه. واستحالة تجاوزه تتدعم بتعريف القرآن لتميز الانسان وعلة أهليته للاستخلاف في مقابل ما وصفته به الملائكة من مشترك مع الحيوان نافيا للأهلية. لكن أعضاء الترميز أي الكيان المادي لوظيفة الترميز متطور. فاللغة العربية مثلا لم تكن قادرة على قول المفهومات الفلسفية والعلمية اليونانية. ولم لم تكن من حيث الوظائف مثلها مثل أي لغة تستطيع أن تسمي المعاني بإبداع أسماء (أعضاء) جديدة لاستحال على العرب أن يتعلموا علوم اليونان. وما يضحكني كثيرا هو غباء من يبحث في القرآن عن الكلمات المستعارة من اللغات الأخرى. فهذا دليل سخف وغباء: فما يستعار يعرب فيخضع لقوانين العربية. وهو لا يحافظ على شيء من الأصل إلّا ما هو مادي وعضوي. أما الوظيفة المتمثلة في تسمية المعاني فكونية في كل الألسن رغم اختلاف اساليب التسمية. وسأخصص بحثا لأساليب التسمية التي هي من المميزات الأساسية للألسن والتي تبين طبيعة رؤية العلاقة بين الرمز والمرموز المميزة لحضارة عن حضارة. وسأعلل إضافة البعدين الآخرين إلى علوم الدلالة والسنتاكس والتداول لدراسة الألسن بل لابد من البعد انطولوجي لطبائع الألفاظ والتلفظ ووظيفتيهما. لا يخلو لسان مهما كان بدائيا من نفس طبائع الألفاظ والتلفظ ووظائفهما وهي في آن شروط العلاقتين الأفقية والعمودية: بين الناس وبينهم وبين العالم. وأفهم جيدا ألا يهتم علماء اللسان بهذين البعدين لأنهما فلسفيان خالصان يصعب صوغهما علميا لكنهما مضمران في تأسيس علوم اللسان الثلاثة العادية. وإن شاء الله سأفرغ لبيان ذلك قريبا حتى يفهم القارئ علة تفضيلي التعريف القرآني للإنسان على التعريف الفلسفي لأن هذا جزء من ذاك الأعم منه. ولأشر إلى معنى كونه جزءا من كل: فالإنسان ناطق فلسفيا: أي متكلم وعاقل. وهذا لا يكفي. فالأبكم يسمي والمجنون يسمي. والكلام والعقل يسميان ذاتيهما. فالكلام يتكلم على ذاته ويعقل العقل ذاته. التعريف القرآني يفهمناه بخلاف التعريف الفلسفي. فقدرة التسمية تنوب المسمى والمسمي: علمه الأسماء كلها. و”كلها” هنا مفهومية وليست ماصدقية: فالكل الماصدقي لا متناه ولا يمكن أن يتعلم. والكل المفهومي هو الكلي فيتعلم كقدرة على التسمية بإطلاق. بمثال عامي: لا أستطيع أن اعطيك كل سمك البحار رغم أنها متناهية لكني يمكن أن اعلمك صيدها. فكيف إذا كان الامر متعلقا بلامتناه مثل الأسماء كلها. وهذا لا يعني عجزا في المعلم بل قصور في المتعلم: لو كان الإنسان قادرا على الإحاطة لاستطاع أن يتعلم الكل الماصدقي. قدرة التسمية كلي مفهومي. والكلي المفهومي يسمى اللامتناهي لكنه لا يحيط بماصدقه الذي هو كل ما يقبل التسمية خاصة وهو بالمنظور القرآني كلمات الله أو مخلوقاته كلها. وتوجد خاصية أنطولوجية للألسن تلاحظها علوم اللسان الثلاثة وتتسلمها ولا تستطيع تعليلها خاصية تابعة لمسألة طبائع الالفاظ والتلفظ ووظائفهما. فكل الألسن تخضع للتقطيعين الأول (صرفي: الحروف وتواليفها المتناهية) والثاني (نحوي: المفردات المحدودة وتوليفها اللامتناهية): مجالا الرياضيات. وهو ما يعني أن الألسن مثل الطبيعة ذات قوانين رياضية فالنائب من جنس المنوب قرآنيا: الوجود متاهي العناصر لا متناهي التواليف ومثله الأسماء. أعتقد أن هذا كاف عينة مما سأكتب حول الالسن والترميز ولما أضمره في علاجي لمسألتنا ولحسم الخيار بين أحياز الوجود ومقومات العمل في علاجها. سأبدأ بأحياز الوجود: المكان والزمان وعلاقة الأول بالثاني والثاني بالأول والأصل الجامع للأربعة الأولى فروعا منه واساسا لوحدتها في كل جماعة. والمشكل هو كيف ينقل العمل الإنساني المكاني إلى الجغرافي والزماني إلى التاريخي والتفاعلين إلى التراث والثروة وأصلها مرجعية روحية رمزية. وهذا هو موضوع الفصل الرابع المقبل فيكون جامعا بين الأحياز والعمل وكيف يتحقق كيان الإنسان في الأعيان والأذهان علاقة بين طبيعة وثقافة. والفصل الأخير يدرس ما حققته المحميات مما عجز عنه الاستعمار من ضرر في الأحياز والأعمال إي في كيان الأمة بدنها (الأحياز) وروحها (الأعمال). ولست أشك لحظة واحدة من أن المسؤولين عما حصل من ضرر ليسوا كلهم فعلوه عن سوء نية أو قصد بل عن لعل الجهل ما حاولنا بنيانه هو العلة الأولى. فبعيد عني أن أشكك في وطنية الجميع او في اخلاصهم. صحيح أن المرء أحيانا وتعبيرا عن الغضب يتهمهم بالعمالة والخيانة. وبعضهم لا يخلو منهما. ولهذه العلة طبعا مع الدافع العلمي والنظري اضطر أحيانا إلى وضع نظريات تيسر فهم العلاقات المعقدة بين الحضارة وتاريخها وكيفية حفظ ذاتها بقوة. وأذكر أني مرة اضطررت لإيراد نظرية نيتشة في أصناف التاريخ ومزاياها: المتحفي والمعلمي والنقدي (وهو أول نص ترجمته منه ومعه التنوير لكنط). وكان الهدف بيان ما يتناساه محاربي الحضارة العربية الإسلامية بدعوى تشبه تقديم نيتشه للتاريخ النقدي وأهميته للحياة. وهو ما أردت تنسيبه. ذلك أن المتحفي والمعلمي ضروريان مثل النقدي وأحيانا أكثر بحسب الظروف: ذلك أن النقد من دونهما يتحول إلى ما نراه عند كاريكاتور التحديث. النقدي عند نيتشه ليس تعويضا لتقليد الذاتي بتقليد المستورد من الجاهز بل هو عنده إبداع ما به تتجاوز اي حضارة ذاتها وليس محاكاة حضارة أخرى. ولا يمكن لحضارة أن تبدع إذا لم يكن لها علاقة متحفية ومعملية بتاريخها: فالمتحفي علاقة حب الإنسان لحضارته والمعلمي علاقة بنماذج عليا منها. فقدان الإنسان حب حضارته وفقدان نماذجها في البطولة والرجولة والإبداع العلمي والفني تجعل النقد تهديميا وتلك هي خاصية كاريكاتور التحديث. والأمة تعاني منه لظنه حضارتها ممثلة بكاريكاتور التأصيل يدعي الرد عليه بكاريكاتور التأصيل ورفض الحداثة لظنه كاريكاتور التحديث ممثلا للحداثة.