“دولنا الوطنية” محميات استعمارية تعوق النهوض والاستئناف

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله “دولنا الوطنية “

مسألة محيرة لا يمكن ألا يكون قد صادفها أي مهتم بنهوض الامة واستئناف دورها التاريخي الكوني في بحثه عن علل تعثرها منذ أكثر من قرنين. ولأصغها بمفارقة عجيبة: لماذا فشل أعداء الأمة رغم كل محاولاتهم قبل الاستعمار وخلاله في تحقيق هذه العقبات منذ تأسيس محميات يسمونها دولا وطنية؟ أما لماذا اعتبرت صوغها بهذه الصورة مفارقيا، فلأن كل ما قصدته النخب التي حققت ما عجز عنه الأعداء كان في الأغلب بحسن نية هادفا إلى النهوض. وسأضرب مثالين واضحين شديد الوضوح: – عام ويتعلق بظاهرة أتاتورك ومثلها البورقيبية وما يبشر “العتيبيون” المعادين للثورة – خاص هو عمران الخليج فهذان الأمران في ظاهرهما كلاهما سعي للتحديث والنهوض لكنه كان في حقيقته سعي معيق للنهوض. فهي نتائج دون مقدماتها وثمرات عقيم دون مثمراتها. مسألة تحيرني وأريد أن أدرس العامل الذي حال دون الأعداء وتحقيقها لما كان بيدهم السلطان المباشر في أرض العرب وحققها عملاؤهم بعدهم للتعثير. وسأحاول علاجها باستعمال نظريتين سبق لي أن وضعتهما واستعملتهما لشرح فنيات استراتيجية تبتلع بها حضارة قوية حضارات نال من قوتها الانحطاط والضعف. ومبدأ النسبة بين القوتين الحضاريتين الذي ذكرته وهو قابل للرد بنحو ما لمبدأ ابن خلدون حول تقليد المغلوب للغالب لا يكفي لفهم تنوع ما حدث. ذلك أن ما حصل ليس محاكاة مباشرة لسلوك المستعمر بل هي محاولة لإعادة تأسيس الهوية بطريقتين: من له ماض تليد خاص في الامة ومن ليس له مثله. حتى يفهم قصدي: فلا يمكن لليمني أو للعراقي أو للمصري مثلا أن يعجز عن اكتشاف ماض يخصه يجعله ليس مضطرا مثل الخليجي لعمارة أمريكية. وهذا يصح على المغربي والتونسي وكل ما أصبح يسمى دولة وطنية لم تحدث عن عدم لأنه كان ذا هوية خاصة بارزة ضمن الهوية الإسلامية العامة وقبلها. فالأمر ليس محاكاة فحسب بل معها دافع آخر هو التميز عن المشترك الإسلامي بماض متقدم عليه حتى يضفي الشرعية المحمية التي تسمى دولة وطنية. فيجتمع لبعض العرب عاملان: متقدم على الإسلام ولاحق عن الوحدة الحضارية التي يراد التميز عن المشترك فيها عند من كان له ماض حضاري عظيم. ودون أن يكون في كلامي مفاضلة بين العرب فإن الخليجي ليس في هذا الوضع لأنه متشبث بالحضارة الإسلامية وليس له ما تقدم عليها يمكنه أن يفاخر به. لذلك فالدولة الوطنية فيه تقتصر على العامل المتأخر عن الإسلام ومن ثم فعمرانها سيكون غربيا خالصا ولا يظنن أحد أن ذلك بسبب الإمكانات فحسب. فلا تركيا ولا تونس لهما ما يعتد به حضاريا قبل الإسلام. تركيا ليس لها دور حضاري قبل الإسلام وتونس ليست قرطاج ولا روما. لذلك فالقطيعة التي تحتاجان إليها للتميز عن الحضارة الإسلامية كانت بأخذ ما تأخر عن دور حضارة الإسلام الكونية. والرمز القطع الكتابة واللغة. مهدنا لدرس الظاهرة بالنظريتين المشار إليهما: 1. نظرية الأحياز 2. ونظرية الذوق والعلم في مستوييهما ووحدة دورها في الوحدة الحضارية لأي جماعة فالمسألة المحيرة تحددت الآن بوصفها شروط تأسيس دولة وطنية بسيادة مغايرة لما كانت عليه قبل حصول التغير في مقومات التواصل الهووي بصنفيها. وصنفا التواصل الهووي هما صنف وحدة الاحياز الخمسة وصنف وحدة التواصلات الخمسة بمستويي الوجود في الأعيان وفي الاذهان لواحم للجماعة أساسا للهوية. لا أحد يدعي أن دار الإسلام كانت دولة واحدة. ولا أحد يدعي أن الأقطار الحالية ليس لها قبل سقوط الخلافة نوع من الاستقلال إزاء الخلافة. وأكثر من ذلك لا أحد ينفي أن بعض الأقطار كانت محميات حتى في عهد الخلافة الاخيرة. ومع ذلك فإن الأقطار لم تكن تبحث عن القطيعة مع الوحدة الحضارية. فلكما قوي قطر من الأقطار كان طموحه في أن يصبح هو الخلافة أو الدولة الواحدة للأمة. وإذن فالجديد هو عكس هذا الطموح: كل قطر يريد شرعية خاصة. وكل قطر كان ذا حضارة يعتد بها قبل الإسلام صار يطلب الشرعية للدولة القطرية إما منها أو من وحدة “قومية” وليس إسلامية. وهذا هو أصل المعيقات. ويتضح ذلك خاصة بين العرب: فالعراق لم يعاد الحضارة الإسلامية ولكنه اعتبره مرحلة ينبغي تجاوزها بالعلمانية ووصلها بالتاريخ الوثني السابق عنها. ومثله مصر وسوريا وتونس إلخ…كل “الدول الوطنية”(المحميات) باستثناء الخليج تطلب أساسا لمشروعها الوطني إما فيما تقدم أو ما تأخر عن الإسلام. فالخليجي الساعي للعلمنة سيتخلى عن الأساس الإسلامي لدولته (المحمية) بنفس الموقف الأتاتوركي والبورقيبي: ليس له ما قبل الإسلام ينطلق منه. تركيا والخليج لو عادا إلى ما قبل الإسلام لكانت العودة إلى قبلية ضئيلة الحضارة التي يمكن أن تضاهي التأسيس على حضارة الإسلام او حضارة الغرب. وتتميز تركيا وتونس بأن الأتاتوركية والبورقيبية تنازلتا عن أساس حضاري متين ولا بديل لهما من الماضي فاستعارتا ما تظناه أعظم: حضارة الغرب بنهم. فصارتا في قطيعة مع تاريخهما المجيد وهو سر فشلهما لأن تغيير ثقافة أي شعب من أعسر المهام وما كانت تكوينيته بالقرون لا يمكن أن يزال بالعقود. وهذا ما يجعلني أتوقع لدعوة العلمانية في الخليج: فلعلها هي التي ستعيده لإسلام يتجاوز الشعائر والنفاق إلى الإسلام الذي يحرر روحيا وسياسيا. ومعنى ذلك أن ضديتهم للثورة مؤقتة ذلك أن ما يحصل في السعودية مثلا رغم الآلام سيكون بداية فعلية لحركة شعبية تفسد على العلماء كل مشروعاتهم. ولما كنت واثقا أن سياسة القوميات والعرقيات والطائفيات ستقضي على اصحابها فإن مصير الأمة وأقصد غالبيتها السنية هو الاستئناف الحتمي لدورها. وعندئذ سيتبين أن الانظمة القومية للعرب والأتراك والطائفية لإيران وتوابعها لن تصمد أمام الجني الذي أخرجته من القارورة: الانفجار أو التعالي. والتعالي هو العودة إلى ما يحاول الجميع التفصي منه: المقومات المشتركة للإقليم حتى يقود الامة فتستأنف دورها التاريخ الكوني كما بدأ أول مرة. وهذا هو هدفي من محاولة الفهم لفلسفة الدين والتاريخ القرآنيتين منذ نعومة أظافري: خطأ الفهم السائد المتكلم على غرابة الإسلام بداية ونهاية. غرابته لا تعني إلا شيئا واحدا: لما بدأ بشر بأمر غريب في الثقافات السائدة وهو قد استوعبها بمنطق التصديق والهيمنة: نفس غرابته في العولمة. وهو إذن سيستأنف ليستوعبها بنفس المنطق: فموقف الإسلام يعتمد على وحدة الإنسانية وأخوتها ولا يعتبر ويتعامل مع الآخرين بمنطق التصديق والهيمنة. فمن الغباء تصور الإسلام قابلا لأن يستأنف دوره الكوني بالقطع مع منجزات الإنسانية التي تقدمت أشواطا عندما انحطت حضارته: لا بد من استيعابها. وكما استوعب المسلمين كل ما تقدم عليهم من إنجاز حضاري ديني وفلسفي بعلومهما وأعمالهما بمنطق التصديق والهيمنة فسيستوعب كل ما تأخر عن منجزاته. ولهذه العلة سأبحث في معيقات هذا الاستيعاب المتجاوز بمنطق التصديق والهيمنة ما يجعل الإسلام الدين الخاتم ليس عقدا فحسب بل كحضارة كونية.

الكتيب

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي