دولة المافيات، بين سقراط وكاليكلاس: هل هي دولة أم مصنع إرهاب؟

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله دولة المافيات بين سقراط وكاليكلاس: هل هي دولة أم مصنع إرهاب؟

أورد أحد الفلاسفة من أصدقائي -محمد علي التواتي- عبارة نسبها لأحد أصدقائي منهم كذلك -فتحي المسكيني- لو قرئت على حرفيتها لما صدقت الراوي ولا المروي عنه. ذلك أني أعلم أنهما من النابهين ولا يمكن أن يصدر عنهما ما يؤيد التشويه الذي يجعل مقاومة الإرهاب إرهابا وسلطة المافيات دولة. فحتى لو كان الكلام على داعش أي بتعيين ما يطابق دلالة الإرهاب فإن نصف القولة لا يصدق، لأن ما يوجد في الهلال -سواء العراق أو سوريا أو إيران أو إسرائيل- وفي سلوك الراعي له -أي روسيا وأمريكا- لا يمثل مفهوم الدولة إلا بمعنى دولة الإرهاب الدولي الذي يعامل البشر كلهم كعبيد؛ والدولة للحرية. وما أظن أحدا من الراوي والمروي عنه بحاجة لأن يعلمه أحد بما يبدو من المسلمات في نظرية الدولة ولا من المشاهدات في ما يجري. لذلك رأيت أن أتساءل عن ورود هذه الجملة التي دفعتني لكتابة هذا التعليق: لماذا وردت هكذا دون تعيين للإرهاب هدام الدول، ما هو؟ وما علاقته بمافيات العالم والإقليم؟ فما أظن المسكيني ولا التواتي يشككون في الطابع المافياوي لما يسمى دولا في الإقليم ولما يرعاها من الدول ذات الطول في العالم وما أظنهما يجهلان أن الإرهاب الذي حصل في الإقليم لم يكن ممثلا للثورة بل كان من صنع المخابرات التي عملت على اختراق الثورة وإفسادها. والألة لا تكاد تتناهى. والإشكالية كلها -كما هو معلوم- في شكلها الحالي، بعد شكلها الأول الذي نتج عن صنع القاعدة في حرب القطبين بالوكالة في افغانستان، يمكن اعتبارها تونسية بامتياز لأنها انطلقت ضد محاولة الشباب بجنسيه التحرر بثورة سلمية سلاحها الوحيد كان المقاومة المدنية بالمظاهرات والشعارات في الساحات. ورغم أنها عمت وتعينت استراتيجيات إفشالها في خمسة أشكال أعلاها كان في سوريا وأدناها في تونس وبين الاثنين مصر واليمن وليبيا، فإن الحسم النظري ينبغي أن يعود إلى البداية أعني إلى تونس التي ما تزال ولله الحمد في المستوى السلمي حتى وإن بدأ التهديد بأرهبتها واختراق اجهزة السلطة فيها. ولولا ذلك لاكتفيت باستعمال الهاتف للتواصل مع الزميلين للاستفسار عن دلالة الكلام العام في قضية تحتاج إلى الكثير من التعيين والتحديد حتى لا يُظن أن فلاسفة تونس أصبحوا من جنس بعض مثقفيها ممن يصفقون للتصفية البدنية باسم حق يراد به الباطل: “قداسة” الدولة دون مطابقتها للمسمى. ولنبدأ بالشكل الأعلى من الأرهبة المخابراتية في “الدولة” الاسمية أي في سوريا: أليس الجميع يعلم أن داعش لم تحارب النظام العراقي ولا السوري بل حاربت الثورة السلمية فيهما كليهما أي إنها لم تحتل إلا ما حرره شباب الثورة بمظاهراته وبجيشه الحر الذي يحمي المظاهرات ولا يحارب النظام؟ هل ينكر أحد أن مليشيا نصر الله لما ساندت النظام لم تحارب داعش وهي على الحدود اللبنانية بل تركتها وذهبت لتحارب الشباب الذي كان يتظاهر سلميا بدعوى حماية شعب سوريا أولا ثم بدعوى حماية المقاومة ثم بدعوى منع قدوم الإرهاب إلى لبنان وفي النهاية هي التي رحّلت داعش إلى بادية سوريا؟ وهل يجهل أحد أن أمريكا هي التي تحمي بطيرانها الحشد الشعبي؟ وهي التي تسلح وتحمي اليسار الكردي الذي يقسم سوريا والعراق ويهدد تركيا؟ وهل يجهل أحد الآن أن إسرائيل تشترط بقاء النظام السوري الذي حماها أكثر من عمرها وتقبل تصفية الجيش الحر والمقاومة الشعبية من أجل الحرية والكرامة؟ ثم فلنمر إلى الشكل الأدنى في تونس حاليا: عندما تسمع أصحاب الرز بالفاكية يعبرون عن استعدادهم للتضحية بعشرين ألف تونسي من أجل عودة النظام القديم وتسمع متفلسفات النظام القديم مثل ألفة يوسف وبن سلامة وهلم جرا يعبرن عن فرحتهن بنهاية التوافق مهما كلّف فَمَن يُعِدُّ للإرهاب ولأي دولة؟ فإذا تكلمت على الأشكال الثلاثة الوسطى وبدأت من تونس إلى غاية المشرق أي ليبيا ومصر واليمن فماذا تلاحظ؟ مع من يعمل حفتر ومن هم جنوده وميليشياته؟ هل هم شباب ليبيا الذي حررها من القذافي أم بقايا مليشيات القذافي ومن جندتهم السعودية والإمارات ومصر من سلفيي ا لمخابرات؟ ولماذا تقاتل “الليجيون اترنجار” الفرنسية مع حفتر؟ ولماذا يقاتل الطيران المصري والإماراتي مع حفتر؟ هل هؤلاء يمثلون دولة شرعية أم مافيات ومليشيات مأجورة لحماية شركات بترولية ومنع حركة التحرر التي بدأت في تونس بعد أن أخمدوها في الجزائر قبل ذلك بعقدين؟ لا أتصور التواتي أو المسكيني يعتقدان أن الفلسفة هي العبارة الجميلة التي تبدو صوغا أنيقا لحكمة وهي في الحقيقة إن بقيت مجردة دون تعيين في ما تصفه من مجربات الأحداث قابلة لأن تعتبر من “الحقيقة التي يراد بها الباطل”. وهي مجانسة لراي قدامى الفقهاء الذين عللوا نظام التغلب بحجة منع الفوضى. لم يكونوا يدرون أن نظام التغلب هو الفوضى النسقية التي هي عين النظام المافياوي الذي يجعل الإنسان يرتد إلى القانون الطبيعي فيسمّي دولةً سلطان القوة العمياء للأقوياء على الضعفاء وليس سلطان الشرعية التي لا يكون فيها العنف قابلا للاستعمال إلا في خدمة الشرعية: تلك هي الدولة التي غابت. وهي غابت لأنها تحولت إلى الحكم بالإرهاب الذي تصنعه لتعلل الحاجة إلى ارهابها الذي تسميه دولة. ولست آتي بالجديد فهذا هو جوهر استدلال أفلاطون على معنى “النوس” في الوجود من حيث علاقته بالدولة في المقالة العاشرة من النواميس: فلا يمكن فهم رد سقراط على كاليكلاس من دون القانون الخلقي. دولة القانون الطبيعي لا تختلف عن النظام الحيواني الذي يخضع لسلطان القوة وللصراع من أجل البقاء. وهذه ليست دولة إنسانية بل هي “دولة” حيوانية بالمعنى العربي لكلمة دولة من دال يدول أي تتوالى العصبيات والمافيات على استعمال أجهزة “الدولة” لاستعباد بقية الشعب من أجل “رفاه” قلة مستقرة. ويصعب أن أصدق أن يكون التواتي الذي زاملني في الدراسة والتدريس والمسكيني الذي كان من بين تلاميذي النجباء وزاملني في التدريس أن يكونا من مدرسة كاليكلاس. فهما أولا من طبقة شعبية ومن مناطق محرومة ويعلمان حال الضعفاء ما هي في “دولة” المافية وهما أقرب إلى سقراط منهم إلى كاليكلاس. وقد أفهم أن يبقيا محايدين في المعارك الجارية إما باسم “تعالي” الفلاسفة عن المعارك التاريخية التي لعلها في رأيهم من مشاغل العامة “لتفاهتها” أو باسم حسابات الله وحده يعلم ما وراءها لكن الاقوال في اللحظات الحرجة أفعال خاصة إذا كانت ملتبسة المعنى ومجردة من كل تعيين لدلالة الأسماء. والتعيين في هذه الحالة يقتضي التمييز بين مقاومة الإرهاب المافياوي التي هي بداية ثورة الشباب بجنسيه من تونس إلى مصر فليبيا فسوريا فاليمن وصنع الإرهاب الذي جُعل لاختراق الثورة وإفسادها إما مباشرة كما في سوريا أو بعد أن يحصل انقلاب كما في مصر واليمن وكما يسعون إليه في ليبيا وتونس. كما إن الكلام على الدولة من دون بيان الفرق بين الدولة التي تحمي الحريات والحقوق والدولة التي تحمي الاستبداد والفساد والتهريب والتخريب وبيع الأوطان والتخلي عن ثرواتها وثقافتها لخدمة قلة مترفهة تعتبر الدولة وظيفتها أن تحقق فترينة لبعض الوجهاء يعيشون في ظلها ويلمعون صفحتها.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي