دور الترميز في كل ماهو انساني طبيعي أو تاريخي – الفصل الرابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله دور الترميز في كل ماهو انساني طبيعي او تاريخي

ليس القرآن من نوع الإبداع الرياضي والفني أو ما يمكن تسميته بالتقديرات الذهنية (مصطلح تيمي) ولا هو من نوع علم الموجود الطبيعي والموجود التاريخي بمعنى أن موضوعه خارجي مثل العلم الفعلي للموجود الخارجي (مصطلح تيمي).

فما هو إذن؟ هل نكتفي بهذا التعريف السالب؟

التعريف السالب لا يقول ما الشيء بل يقول ما ليس هو. وعندما نستعمل التعريف السالب فقد يكون القصد تحديد ما ليس هو باستثنائه استثناء مطلقا أو ببيان الفرق مع المحافظة على ما يمكن أن يكون مشتركا لأن كون القرآن خطابا للإنسان لا بد أن يكون فيه ما من دونه لا يمكن للإنسان أن يفهمه.

ولذلك فالذين تعاملوا مع القرآن بمنظور علم الموجود الخارجي سواء كان علما طبيعيا أو تاريخيا فلموقفهم بعض الوجاهة ومن تعاملوا مع بوصفه علم مقدرات ذهنية سواء كان فنا رياضيا أو فنا أدبيا فلموقهم بعض الوجاهة لكنها في الحالات الأربع وجاهة ناتجة عن اعتبار الشكل دون المضمون.

ذلك هو لغز الاسترماز القرآني الذي يعرف نفسه بكونه رسالة خاتمة وتذكيرا أخيرا للإنسانية. فما موضوع هذا التذكير الاخير الذي يوجه للإنسانية كلها والذي يخلو من المعجزات بالمعنى المتعارف في الرسالات السابقة والذي لا ينفيه لكنه يعتبره للتخويف وليس للإفهام أو للإقناع.

وهذا هو الأمر الغريب الذي جعل التحريف يحصل: لم يكن في وسع المسلمين أن يفهموا دينا مختلفا تماما عن كل الأديان الاخرى وكتابا ليس له مثيل بين كتبها ومع ذلك فهو لا ينفي ما تقدم عليه حتى وإن كان مليئا بنقد مآلاتها في سياسة الكونين الطبيعي والتاريخي وصلتهما بما ورائهما: فعاملوه مثلها.

وكان ذلك أول شكل من التفسير بالأثر الذي ملأ القرآن بالإسرائيليات وبكل ما يمكن للخيال العامي أن يضيفه بمعنى التعظيم لأنه لم ير حقيقة العظمة التي فيه والتي هي نوع فريد من الاسترماز أو من الصوغ الرمزي للرسالة بوصفها إشارات وتنبيهات إلى شروط الاستعمار في الارض بقيم الاستخلاف.

وكون الرسالة تصف نفسها بكونية كونية للإنسانية كلها بل ولكل الموجودات -وخاصة لنوعيها اللذين لم يخلقا إلا للعبادة الحرة لأنهم أحرار ومكلفين -الانس والجان-من عجائب هذه الرسالة: ذلك أن كل الرسالات الأخرى كانت لقوم الرسول دون سواهم ومن ثم فكونها بلسانهم أمر مفهوم.

ومن ثم فالمشكل الترميزي في القرآن هو هذا التقابل بين المخاطب بالرسالة -كل الإنسانية على الاقل – واستعمال لسان خاص بقوم منها. لذلك فلا بد من التسليم بأحد أمرين:

  1. الترجمة المطابقة بإطلاق حتى يتساوى المرسل إليهم في العلاقة بالرسالة.

  2. للقرآن وراء اللسان لسان كوني هو نوع استرمازه.

وفي الحقيقة حتى لو سلمنا بأن الترجمة المطابقة بإطلاق ممكنة -وهو أمر عسير التسليم-فإن المشكل يبقى أن شرط ذلك أن تكون الرسالة في لسانها الاول مفهومة بإطلاق وأن اللغات تشترك في هذه القدرة بحيث يكون مضمونها قابلا لأن يتجاوز ما بين اللغات من أساليب تنظيم موضوع بلاغها من مختلف.

فتكون هذه القدرة هي ما يمكن أن يمثل اللسان الكوني الذي استعمله القرآن والذي هو اللساني في كل لسان فتكون كونية القرآن بوصفه رسالة خاتمة وتذكيرا أخيرا لا تفهم من دون هذا الشرط بمعنى أنها مشروطة باللسانية عامة أو بما سمته سورة الرحمن “البيان” علمه البيان وهو مشروط بالاستبيان.

فنحصل على المعادلة التالية: كونية الرسالة تعني الديني في الاديان قابليتها للفهم رغم أنها متعينة في لسان من دون بقية الألسن يعني أن لها لسانا وراء اللسان الطبيعي هو اللساني في الألسن. ويكون الحل الوحيد المقبول عقلا سواء سلمنا بالترجمة التامة أو لم نسلم هو جعل المضمون نفسه يتكلم.

فيكون مضمون الرسالة هو المتكلم في الرسالة. والمضمون المتكلم فيها هو المرسل والمرسل إليه وما بينهما من تواصل مباشر وغير مباشرة بتوسط مقومي المخاطب بها أعني كونه مستعمرا في الأرض (العلاقة العمودية) وكونه مخيرا بين الاستعمار فيها بقيم الاستخلاف أو بما ينافيها: وتلك هي الدراما الكونية.

ولذلك يمكن رد القرآن كله إلى فعلين: سبابة تشير إلى أين ينبغي النظر لفهم الرسالة التي هي ما يتبين للإنسان من حيث هو إنسان من حقيقته بوصفه كائنا مكلفا بشروط طبيعية وتاريخية علمها والعمل على علم بقوانين الأولى وبسنن الثاني هو مجال الاختبار الذي يمر به الإنسان كمكلف.

أما ما وراء هذه الدراما الكونية فهو جزؤها الذي هو الغيب لكنه غيب كيف الوجود وليس غيب الوجود بمعنى أن التذكير هو بالوجود وبما يماثله مما يجري في عالم الشهود مع حرز أنه لا يشاركه الكيف لكن وجوده أكثر كثافة من وجوده بل هو الوجود الحقيقي وما الوجود الشاهد إلا من أعراضه أو من مظاهره.

وأهم ما في المضمون بهذين الوجهين هو العلاقة بينهما: فالعلاقة شرطية. لا يكون الوجود الشاهد مطابقا لسلامة مقومي الإنسان أعني الاستعمار في الارض بقيم الاستخلاف إلا إذا كان عالم الشهادة مأخوذا بوصفه مشروطا بعالم الغيب. وعالم الشهادة ليس المشهود فحسب بل هو الشاهد على صحة هذه العلاقة.

ولأني فهمت الأمر على هذا النحو سميت محاولة قراءة القرآن الفلسفية بـ”استراتيجية التوحيد القرآنية” أعني توحيد الإنسان بما فيها من إنساني لتجاوز الخصوصيات الثقافية والعرقية وأضفت إليها و”منطق السياسة المحمدية” بمعنى أن الرسول كلها بتحقيق عينة من وحدة الإنسانية في الممارسة الفعلية.

فكان ذلك في صحابته وفي دستوره في مراسلته لملوك عصره في تصور القبلة التي بشر بها القرآن {أينما تولوا فثم وجه الله} واعتبار الأرض كلها دار الإسلام بالقوة وهي مصلى كوني للإنسان من حث هو إنسان وتجاوز العرقية والقبلية والطبقية والجنسية (بين الرجل والمرأة) ووضع “كل يأتي ربه فردا”.

وبتلو عن ذلك أن المسؤولية الخلقية فردية بإطلاق وكذلك القانونية وذلك في عالمي الشهادة والغيب ويتبع ذلك وضع الدستورين اللذين هما سلبا نفي الوساطة الروحية (لا كنسية) ونفي الوصاية السياسة (لا حق إلهي في الحكم) وهما إيجابا علاقة مباشرة بين المؤمن وربه وعلاقة مباشرة بين الجماعة وأمرها.

والعلاقة المباشرة بين المؤمن وربه هي دستور المعرفة مضمونا ومنهجا العلاقة المباشرة بين الجماعة وأمرها هي دستور السياسة ببعديها حكما وتربية. فيكون الإسلام بذلك قد نفذ إلى جوهر الإنساني في الإنسان أي ما يعبر عن شروط الأهلية للاستخلاف وهي خمسة شروط هي مقومات كيانه.

فكون الإنسان أهلا للاستخلاف مشروط بكونه أولا مجهزا للاستعمار في الارض وحر في أن يحقق شروط الأهلية للاستخلاف أو أن يرفضها فيتحمل مسؤولية هذا الرفض لكأنه سقط في امتحان الحرية الذي هو في آن امتحان الأهلية للاستخلاف ومن دونها يحيا بالاستعمار دون الاستخلاف.

لكن الاستخلاف مستحيل من دون الاستعمار في الأرض لأن هذا شرط الوجود المضطر وذات شروط الوجود الحر. أما المقومات التي هي عين كيان الإنسان فهي خمسة ولها شبه بصفات الذات الإلهية ولعلها هي ثمرة النفخة من الروح التي هي تعبير رمزي عنها وعن تماثلها معها.

فلا يوجد إنسان ليس له إرادة حرة مهما استعبد وليس له علم مهما قل وليس له قدرة مهما ضؤلت وليس له حياة وذوق مها تبدى وليس له رؤية مهما كان أعمى البصيرة. فهذا الصفات مقومة للذات. وهي مراوحة بين العنفوان والخمول وابن خلدون تكلم على الخمول عند فساد معاني الإنسانية وهو يعنيها حقا.

وما يؤيد أنه يعنيها قوله إن الإنسان الذي تفسد فيه معاني الإنسانية بسبب العنف في التربية والحكم يفقد غاية انسانيته والمعلوم أن الغاية هي العلة الغائية أي علة الوجود ذاته ولذلك ختم قوله بأن الإنسان الذي تفسد فيه معاني الإنسانية يفقد طلب الفضائل فيرد أسفل سافلين.

وذلك هو مفهوم الخسر الذي اعتبرته سورة العصر حال الإنسان التي لا يخرج منها إلا بالوعي بها وتحقيق ثمرات هذا الوعي بشروط الحريتين الروحية والسياسية: فللحرية الروحية شرطان وهما علامتان في آن الإيمان والعمل الصالح وللحرية السياسة شرطان وهما علامتان في آن: التواصيان.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي