دور الترميز في كل ماهو انساني طبيعي أو تاريخي – الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله دور الترميز في كل ماهو انساني طبيعي او تاريخي

ماذا تفعل السبابة التي تشير إلى ما ينبغي التوجه إليه لفهم الاسترماز القرآني؟ هي تشير إلى أنه استرماز مباشر يخاطب الأنسان بوصفه مجهزا بما يمكنه من تلقي الآيات التي يريه الله إياها في الآفاق (الطبيعة والتاريخ) وفي نفسه أي في كيانه كله (وليس النفس بمعنى موضوع علم النفس) ليتبين حقيقته. وإذن فآيات القرآن آيات لآيات. هي آيات مباشرة لا تفهم إلا بالآيات التي تبين حقيقتها بجعل عالم الشهادة شاهدا بمعنى المؤيد “شبه” التجريبي” بما فيه من قوانين طبيعية هي رياضية الجوهر (كل شيء خلقناه بقدر) ومن سنن تاريخية هي سياسية الجوهر (بمعنى أنها تتجلى نتيجة لأفعال الإنسان نفسه). القرآن اذن ليس مدونة علوم أو سنن بل توجيه للإنسان كما هي وظيفة أي تذكير من صاحب السلطة الأولى لمن ينوبه بسلطة مثالها الاعلى هو السلطة الأولى حتى يكتشف مدونة العلوم والسنن التي هي ماثلة لمداركه. لذلك فكلام القرآن يدور دائما حول استعمال المدارك ولومه هو حول عدم استعمالها. العيب الأساسي على الإنسان في كلام هذا التذكير هو أنه له بصر لا يرى وسمع لا يسمع فيكون كالأصم والأعمى والابكم. ومن ثم هو الذي عطل مداركه لئلا يرى الآيات التي يريه الله إياها ليس في نص الرسالة بل فيما تحيل عليه الرسالة من الآفاق والأنفس وتنهاه عن طلب كيف ما ورائها لأنه من الغيب. تذكره بوجود الماوراء دون كيفه لكنه تقرب له العلاقة بمماثلة تناظرية: وجه الشبه فيها لا يدل على تشابه الحدين (عالم الغيب وعالم الشهادة) بل على تشابه النظامين دون تشابه عناصرهما: فكل مخلوق له نظام كنظام المخلوقات كلها هو الأمر أو نظام السياسة المثالية لأحكم الحاكمين: معين الآيات. فتكون الأنظمة في الوجود خمسة: 1. نظام السياسة المثالية لأحكم الحاكمين 2. نظام العالم الطبيعي 3. نظام العالم التاريخي 4. نظام منشود الإنسان السياسي 5. نظام موجود الإنسان السياسي وهو التاريخ الفعلي الحاصل من الأنظمة الأربعة السابقة وذلك عند أي إنسان حتى في حياته الخاصة. وليس بالضرورة أن تكون هذه الانظمة منفصلة في الإدراك الإنساني بل يمكن رد الأول للثاني والثالث للرابع ونسبة الفاعلية للطبيعة وللإنسان بل والتوحيد بينها جميعا كما يحصل إما في وحدة الوجود الطبعانية (سبينوزا) أو في وحدة الوجود التاريخانية (هيجل) أو في الوحدة المطلقة (التلمساني). والوحدة المطلقة يمكن اعتبارها فيورباخية مطلقة أي إن الله والطبيعة والتاريخ وأفعال الإنسان كل ذلك يصبح مجرد مدركات لإنسان مطلق هو في آن إله وطبيعة وتاريخ وإنسان. وهذه الرؤية تقبل بشرط اعتبار الانطواء المشروط فيها هو بدوره مدرك من صنع مدرك فيكون كل شيء مدرك بدون قيام لذات مدركة. وعلي أن أنبه إلى أمرين: 1. فاعتبار آيات القرآن آيات بمعنى أنها تدل بما تحيل عليه الذي هو بدوره آية وليس كائنا عينيا بل هو نظام الكائنات العينية طبيعية كانت أو تاريخية أو العلاقة بينهما في الاتجاهين: • لا يجعل الموقف منها باطنيا لأننا لا نزعم أن علم الغيب موجود لشخص يعلمه. 2. والأمر الثاني والأهم هو أن آيات الآيات شاهدة وحقيقية وليست مجرد ترجمة للعامة ولا تعلم إلا بعلم لدني للأيمة أو للمتصوفة الذين يكشف لهم الغيب بل هي كل محاولات الإنسان للبحث العلمي الاجتهادي الذي يحاول رؤيتها في الآفاق والانفس من ثم فهي غاية لاجتهاد يخطئ ويصيب وليست قطعيات مزعومة. فما يعني التذكير الاخير ليس المستحيل على الإنسان أي الوصول إلى العلم المطلق والمحيط بآيات الله في الآفاق والأنفس التي توجه الإنسان إليها آيات الرسالة بل أن يكون صادقا في طلبها بطرقها وذلك هو موضوع الجزاء لأن الواجب فيه هو واجب الوسيلة وليس واجب الغاية (بالمعنى القانوني). والفهم الشعبي يعبر عن هذا الفرق بعبارة جميلة جدا: “عليك بالحركة والله كفيل بالبركة”. ذلك أن الاجتهاد في النظر والجهاد في العمل هما المطلوب من الإنسان في علاقته بعالم الشهادة وطلبه شهادته على ما يفهمه من توجيهات الرسالة بالبحث العلمي في آيات الآفاق والانفس طلبا للقوانين والسنن. وهذه القوانين والسنن هي النظام الذي بمقتضاه يمكن للإنسان أن يتعامل مع الطبيعة التي هي مصدر قيامه العضوي خاصة ومع التاريخ الذي هو مصدر قيامه الروحي خاصة وخاصة تعني في المقام الأول ولا تعني حصرا فيه لأن كلا القيامين متفاعلان كل منهما شرط في فعل الثاني لعلاقة التبادل بالتواصل. ومن ثم فالأمر لا علاقة له بالموقف الباطني الذي يعتبر القرآن له ظاهر وباطن وأن الظاهر للعامة والباطن لذوي العلم اللدني أو لمن يزعمون راسخين في العلم وقادرين على تأويل المتشابه مثل الله (آل عمران7) لأن جعل “الواو” عطفية يؤدي إلى تكذيب وصف المؤول بمريض القلب وباغي الفتنة. ذلك أن فصلت لم تقل إن ما يرينه الله في الآفاق والانفس هو تأويل آيات القرآن فالعلاقة بين نوعي الآيات ليست علاقة تطابق مضموني: آيات القرآن توجيه للإنسان نحو محل طلب القوانين والسنن وليست عرضا لهذه القوانين والسنن بحيث يكون اكتشاف القوانين والسنن في العامل تأويلا لآي القرآن. ولأضرب مثالا مع الفارق طبعا: فالمعلم الذي يوجه الطالب إلى المراجع التي عليه دراستها لمعرفة الموضوع الذي يريد البحث فيه لا يعطيه معلومة هي ما سيجده الطالب في نهاية بحثه وكأنها باطن لظاهر كان سرا في توجيه المعلم للمتعلم. نوعان من الفعل: التوجيه نحو مجال البحث لا يحتوي على مضمونه. ومن ثم فالنوع الأول من الآيات (في النص) ليس مضمونيا ويصح تسميته بالإجرائي. وفيه تذكير بالمعادلة الوجودية وما بينها من علاقات هي عين كيان الإنسان مهما تهرب من ذلك: فالإنسان يشعر أنه قطب واع بأنه محاط بالطبيعة وبالتاريخ وأن للطبيعة والتاريخ ما وراء وليكن قوة ناظمة إن لم تكن خالقة. وهو حتى وإن لم يؤمن بوجودها فهو في نفيه لها لا يستطيع تصورها كفكرة إلى بالقياس إلى ذاته إن وجدت بمعنى أنها فكرة ذات واعية تعمل على علم ولها إرادة حرة وعلم وقدرة وحياة ووجود بمعنى أنه يسقط عليها صفاته المقومة ثم ينفيها أن نفى وجودها فيرد هذه القوة إلى الطبيعة والصدفة. ولذلك فالإلحاد مستحيل: لأنه في الحقيقة عودة إلى الوثنية أي إنه يعين القوة التي لا يستطيع نفيها لأنها مهما كذب على نفسه لا يمكن أن يدعى أنه هو هذه القوة فينسبها إلى الطبيعة وهي وثنية فيزيائية أو إلى التاريخ وهي وثنية انثروبولوجية: لا مفر من ثيولوجيا وثنية بنوع من الميثولوجيا. ومن ثم فالاسترماز أمر لا بد منه والقرآني منه يأخذ بعين الاعتبار كل هذه الفرضيات الاسترمازية ويدرسها نقديا ليبين أن المعلوم هو وجود الماوراء لكن كيفه وكيف فعله ليس قابلا للعلم ولم يقدم فيه القرآن علما بل سماه عالم الغيب واعتبر عالم الشهادة ليس تأويلا له بل شاهد على حقيقة ضرورته. والتوجيه إلى محل البحث الإنساني-عالم الشهادة الذي نرى فيه الآيات التي من الدرجة الثانية أو قوانين الطبيعة وسنن التاريخ الناظمين لمسارهما ولمصيرهما ليسا تأويلا للآيات التي من الدرجة الأولى (آيات القرآن) لأنها ليست مضمونية بل إجرائية للمعرفة والسياسة: الدستوران. فيكون ما سميته تحريفا في علوم الملة (تحريف دستور المعرفة) وأعمالها (تحريف دستور السياسة) ناتجا عن الخلط بين الإجراء والمضمون. آيات القرآنية اجرائية وليست مضمونية. والأجراء يوجه معرفة الإنسان وسياسته لعالمه الطبيعي والتاريخي بوصفه مستعمرا في الارض ومستخلفا فيها. ودستور المعرفة (علما ومنهجا) وستور السياسة (تربية وحكما) حرفا بعد الفتنة الكبرى ولم يكتمل ادراكهما قبلها ومن ثم فلا دستور المعرفة ولا دستور السياسة اكتمل في اجتهاد المسلمين النظري المعرفي ولا في جهادهم العلمي السياسي فغاب حل سورة العصر فبقينا في الخسر. وبكل تواضع فإن كل ما أقدمه هنا اعتبره محاولة لفهم عبارة ابن خلدون “فساد معاني الإنسانية” وخاصة لتعليله إياه بالعنف في بعدي السياسية أي في التربية وفي الحكم واعتباره مفقدا للإنسان طلب الفضائل وغاية انسانيته وترديه أسفل سافلين لكأنه يشرح سورة العصر. فسورة العصر التي اعتبرها الشافعي زبدة القرآن تعتبر الإنسان في خسر ما لم يؤمن ويعمل صالحا كفرد (دستور الحرية الروحية) ومالم يتواصى بالحق (النظر) ويتواصى بالصبر (العمل) كجماعة والعلامة هي المشاركة في التواصيين (دستور الحرية السياسة). والله أعلم. انتهى. تعليق ختامي: ذكرت أن الحديث -وخاصة ما تعلق منه بالتوقعات المستقبلية-ينبغي أن يقرأ بضمير شرطه. ومعنى ذلك أن صدقه لا صلة له بالمشروط فيه بل بعلاقة التالي بالمتقدم في شرطية هي كالتالي: إذا لم يحترم الإنسان التذكير الاخير-وغالبا هو لا يحترم-فسيكون ما توقعه التذكير من نتائج. ومعنى ذلك أن كل حديث يتكلم في غيب المستقبل لا يمكن فهمه على أن الرسول يعلم غيب المستقبل ويتوقعه بل هو يعلم علاقة التلازم في التشارط (If and only if) بمعنى ان ما جعله القرآن شرطا للفلاح أو للخسران متلازم مع مشروطه فلاحا أو خسرانا. حديث الرسول تحذير يعتمد هذا التلازم. وذلك هو معنى وصفه بكونه “بشيرا ونذيرا”. وبهذا أكون قد أفرغت كل دعاوى محاربي الحديث دعاواهم غير المتعللة بالبحث في كونه حقيقيا أو موضوعا وهذا امر شرعي بل المتعلقة بدلالة الصحيح منه: حربهم دليل جهلهم بهذه القضية التي بها أحسم جدلا جله تخريف وتكذيب للرسول متنكر.

ضميمة: لا ينبغي ترك الحق لأن مفسديه يريدون به الباطل. فالحق أن ما يجري باسم الإسلام لا يمثل الإسلام ومن ثم فكل من ينقد تحريف الإسلام أو استعمال الحق بإرادة الباطل ليس معاديا للإسلام بل هو خادمه الحقيقي. ومن ينقد علماء الإسلام في تاريخ فكرنا الديني ليس معاديا للفكر الديني بل ساع لإصلاحه. ولولا ذلك ما كتبت حرفا في هذه المسائل. فلا يمكن أن يردد علماء الدين أن الإسلام دين لا يفصل بين الدنيا والآخرة ثم يجعلون همهم لا يتجاوز الوعظ والإرشاد ويلغي تماما علوم الدنيا التي هي شرط الوصل بين الاستعمار في الارض (الدنيا) بقيم الاستخلاف(الأخرى): لا علم ديني من دون علم العلاقتين. وليس هذا فتوى أو اجتهاد أو فرضية بل هو منصوص عليه في القرآن وأكثر من كونه منصوصا فكل الاستدلال القرآني على الحقائق العقدية مبني على الإحالة إلى نظام الطبيعة ونظام التاريخ. ولا يمكن للأدلة القرآنية أن تكون مقنعة للمؤمن إذا لم يتحقق منهما بعلم الطبيعة وعلم التاريخ الحقيقيين. فمن دون علم الطبيعة أو المخلوقات الخاضعة للضرورة بقوانينها الرياضية ومؤيداتها التجريبية لا معنى للنظام الطبيعي دليلا في النظر والطبائع ومن دون علم التاريخ أو المأمورات الخاضعة للحرية بسننها السياسية ومؤيداتها الخلقية لا معنى للنظام التاريخي دليلا في العمل والشرائع. لذلك اعتبرت الأمة قد وقعت في مآزق نظرية علما ومنهجا ومآزق عملية حكما وتربية وأن تلك المآزق أدت إلى تحريف الدستورين أو نتجت عن تحريفهما وأن الامة عاشت بمقتضى ذلك حالة طوارئ سيطرت فيها القوانين الخاطئة وعطل الدستوران وتلك هي علة الانحطاط وفساد معاني الإنسانية.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي