دور الترميز في كل ماهو انساني طبيعي أو تاريخي – الفصل الثاني

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله دور الترميز في كل ماهو انساني طبيعي او تاريخي

إذا الإنسان من دون الاسترماز أو الصوغ الرمزي للطبيعة وللتاريخ ليعالج علاقتيه العمودية بالطبيعة والافقية بالتاريخ شرطي الاستعمار في الارض والاستخلاف فيها فينبغي أن نفهم دور الاسترماز الذي اشار إليه القرآن بتعليم آدم الأسماء كلها معتبرا ذلك مؤهلا له لسكنى الأرض والاستخلاف فيها.

وليس هو مؤهلا له للاستعمار في الارض والاستخلاف فيها بل فيه كذلك علاج للداءين اللذين أشارت إليه الملائكة في المشهد الرمزي للاستخلاف أعني الفساد في الارض وسفك الدماء. ذلك أن هذين الدائمين الناتجين عن قصور الإدراك يصبحان في متناوله بالإسترماز الذي هو المسافة الممكنة من الوعي بهما.

وهذا الوعي الناتج عن المسافة التي تمكن الإنسان من الخروج من الغرق في الاحداث والتسامي عليها حتى يراها من عل لما بين الأسماء والمسميات من فسحة تمكن من التعامل مع هذه بتلك فيكون الإنسان قادرا على الإمساك بمجرى الاحداث واستباقها بالنظر ليضفي عليها نسقية ونظاما لقوانينها وسننها.

فالمسمى في الشاهد هو الآفاق ولأنفس بمعنى أن البحث العلمي فيه ممكن لأن امتحانه ممكن بما يراه فيهما من آيات (قوانين وسنن) لكنه لا يرى آيات ربه في الغيب لأنها محجوبة ومن ثم فلا يمكن البحث فيه ولا امتحان ما يفرضه تفسيرا فيكون الكلام كله مجرد آراء لا دليل عليها وهي رجم بالغيب.

ولما كان الرجم بالغيب لا يمكن حسمه بالاحتكام إلى تجربة ممكنة لم يبق لحسم الخلافات إلا ما تكلمت عليه آل عمران 7: الفتنة والحسم بين الآراء بالقوة والعنف وهو ما حديث حول أمور غيبية لا أحد يعلمها حقيقتها وكان ينبغي تجنبها كما جاء في نهي آل عمران 7. وعلينا أن نحدد نوعي الاسترماز.

أشرت إليهما عندما تكلمت على الحقيقة (العلم) وعلى الجمال والجلال الفن. نوعان من الاسترماز (طلب الرمز من المرموز) بالترميز. فنحن نسترمز باكتشاف لغة العلم التي تصور الوقائع الطبيعية والتاريخية ونسترمز باكتشاف لغة الذوق التي تصور نوع التواصل الروحي بين الإنسان والموجودات والمنشودات.

والموجودات التي نتواصل معها روحيا هي الجمال الطبيعي وحتى عنفوان النفس والحياة فينا وفي الجنس المقابل لكن الأهم هو ما نعبر به على ذلك فنبدع المنشود جماليا ونتجاوز إبداع الطبيعة لنبدع ما لا تستطيع الطبيعة إبداعه أعني التعبير عن هذا التواصل الوجداني مع الكون وما بعده وجلاله وجماله.

سأحاول تعريف هذين النوعين وأن اميز بينهما مع بيان ما يشتركان فيه. وهي قضية جوهرية عالجتها في كلام على أنطولوجيا الترميز وسبق أن درستها في ندوة حول “الحكم” بمعنى فعل العقل كما في القضية الحالية وبمعنى الحكم في الشريعة وبمعنى الحكم السياسي وبمعنى فعل الحكام بين الخصمين.

ذلك أن أمر الإبداع يتعلق بالفرق بين الحكمين المعرفي والذوقي سواء تعلق بالموجودات أو بالمنشودات. والأولى الحكم فيها بنوعيه حكم علي أمر موجود في حين ان لثانية حكم في أمر معدوم. فالمنشود ليس بعد موجودا فيكون الحكم فيه ليس مجرد تقييم بل هو إيجاد كذلك للموضوع المقوم. فيه خلق عن عدم.

وهو ما يعني بخلاف الاعتقاد السائد أن الإبداع الجمالي إذا كان بحق ابداع لمنشود وليس تقليدا لموجود أعسر وأهم وأكثر عمقا من الإبداع العلمي إلا إذا اعتبرناه من جنسه عندما يكون غير مقصور على قول الموجود بل إيجاد المعدوم كالحال في الرياضيات وفي التقدير الذهني بلغة ابن تيمية.

وبهذا المعنى يكون الإبداع العلمي فرعا من الإبداع الجمالي والجلالي أو التعبير عن إدراك النظام الذي هو من حيث الظهور ليس في متناول الحواس بل هو في متناول الحوادس: فكل حاسة لها وراءها حادسة في علاقة البصيرة بالبصر. وقد سميتها الحوادس: البصيرة والسميعة والشميمة والذويقة واللميسة.

مثال ذلك أن المبدع الموسيقي أعطاه الله -وطبعا قواها بالعمل عليها- قدرة موسيقية شبه فطرية تجعله يدرك الجميل في المسموع وهو غير مسموع للسمع العادي. ومثله الرياضي يدرك الجميل في المرئي وهو غير مرئي للبص العادي. فعلاقة الأشكال المرسومة ذهنيا مثلها في الهندسة الفضائية مصدر حدوس قوية.

ولعل المصدر الاول للهندسة الإسقاطية على الأقل قبل أن تصبح علما كان بصيرة رؤية ما لا يرى إلا برسمه في الخيال فيكون المهندس الذي وضع نظريات الهندسة الاسقاطية قد “خلق” مفهوم الأشكال الإسقاطية ولم يكن له وجود كما خلق اصحاب الهندسات الإقليدية فضاءات لم تكن في متناول الإدراك الحسي.

وإذن فالرياضيات بكل أصنافها على الاقل من حيث أفكارها المؤسسة هي من الإبداع الفني وليست من الأبداع العلمي رغم أنها أساس كل ابداع علمي لأنها هي التي تمكن من العبارة العلمية على القوانين العلمية فتكون من في العلوم علما مساعدا أو لغة الإبداع الفني هو أصلها.

ودور المنطق فيها لا يغير من الامر شيئا: فمن يتوهم أن الفنون ممكنة من دون المنطق لم يذق معنى الفن. فالفنان الأصليان والمقومان لكل فن هما الرسم والموسيقي أو نظام المكان ونظام الزمان. وكلاهما له نظام هو منطقه لأن المنطق ليس مقصورا على ما هو لساني بل هو نظام على عبارة على النظام.

لما عرف ديكارت الرياضيات بكونها علم القيس والترتيب لم يخطئ لأن الأول يبدون مقصورا على الكم لكن الثاني يتجاوزه إلى الترتيب وقد يشمل الكيف. لكنه في الحالتين يفترض أن موضوعه سابق عليه فيكون من جنس العلم الذي لا يبدع موضوعه. الرياضيات مثل الفن تبدع موضوعها وتعمل عليه: خلق تام.

لكنها مثل الفن كذلك بمجرد أن تبدع الموضوع وقواعد العمل عليه يصبح الموضوع كائنا موضوعيا خارج إرادة الرياضي لأنه حتى يقتدم يحافظ على الخصائص العامة التي وضعها للموضوع الذي أبدعه وعلى القواعد العامة التي وضعها للتعامل معه والعلم عليه. فيصبح بعد ذلك وكأنه فيزيائي لعالم مستقل عنه.

وهذا يذكرني بالخلاف بين لايبنتز ونيوتن حول طبيعة العلاقة بين الله الخالق والعالم المخلوق: هل هذه العلاقة من جنس صانع الساعات ما أن يتم صنعها حتى تصبح مستقلة عنه تعمل بما فيها من قوانين أم إنه كما يرى ديكارت يبقى وكأن رؤيته اشعرية تكون علاقته علاقة خلق مستمر؟

علاقة الله بالعالم من الغيب وليس عندي فيها جواب. لكن الرياضي والفنان لما يبدعون موضوعهم يكون الموضوع في علاقة بهما كعلاقة الساعة بالساعاتي. يصبح الموضع مستقلا تماما عن مبدعه وله أحكامه التي لا يمكن توقعها خلال خلقه. وخلقه يتواصل باحترام حدوده العنصرية وقوانين تفاعلها كأكسيومية.

وهذا هو المشترك بين الإبداعين الجمالي والرياضي. لكن الاختلاف بينهما هو الأهم وهو سر نوعي العلاقة بالوجود الوجدانية للجماليات والفرقانية للعلميات.

  1. علاقة روحية

  2. وعلاقة مادية.

  3. تدرك شيئا من سائل شبه سحري بين روح الإنسان والوجود

  4. وتدرك قوانين تفاعل الأشياء شبه المادي

وصفت تفاعل الاشياء بالمادي ولا أقصد أنه مادة بل أقصد أنه علاقة ليس لمدركها دور في مجراها بل هي ما به تجري الأشياء وتفاعلاتها لأنه القوانين ليست عبارتها التي نضعها وإلا لتوهمنا أننا نحن الذين نحرك الافلاك وليس الجاذبية مثلا. القانون له معنيان: عبارة الجاذبية والجاذبية.

ما يحرك الأفلاك هو الجاذبية وليس عبارتها الرياضية. والجاذبية هي نسبة فعلية بين المتجاذبات وهي قوة محركة جذبا ودفعا تعبر عنها نسبة قوى حقيقية أو هكذا نفترضها لأنها تمكن من معرفة سلوكها وتوقعه وهي غير عبارتنا عنها التي هي ترجمة بلغة رياضية للعلاقة: إنها العقل في الفلسفة القديمة.

وهو النوس الذي يعلل غائيا فيكون المحرك الاول عند أرسطو والمثال عند أفلاطون وبصورة عامة هو قوة محركة فعليا ويعتبر الجوهر الأسمى وهو في الدين الله أو الرب أو هو كلاهما لأن الأول يتعلق هو إله الكائنات المكلفة والثاني هو إله الكائنات المضطرة. والمؤمن الحق: إلاه ومربوب.

والآلهية فعل والمربوبية انفعال. فتكون الآلهية حركة من الإنسان نحو الله وتكون الربوبية حركة من الله نحو الإنسان أو هكذا تتصور العلاقة بين الضرورة والحرية بمعنى أن الإنسان من حيث كائن طبيعي هو خاضع للضرورة في عالم الخلق والطبائع ومن حيث هو كائن خلقي هو حر في عالم الأمر الشرائع.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي