لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهدور الترميز في كل ماهو انساني طبيعي او تاريخي
كانت بداية المحاولة في ندوة عقدت في المغرب الاقصى حول “الحكم” في مؤسسة العلماء وكان المرحوم العلواني بين الحاضرين فكانت فرصة لتعرفي عليه ومنذئذ صرنا صديقين إلى أن توفاه الله. وخلال تلك الندوة أعلنت عن العلاقة المتقابلة بين الإبداعين العلمي والفني بعلاقتهما بدور العيني والمجرد.
وكانت المقابلة مستندة إلى أسلوب القرآن الكريم المبني على المشاهد الدرامية والمبني على الاستدلال المنطقي في الحجاج الديني: وسميت الأول بأسلوب السرد الأمثولي والثاني بأسلوب الطرد المثالي. وقد وجدت في الأمرين ما يناقض خاصية الإبداع العلمي في الطرد وخاصية الإبداع الأدبي في السرد.
لكني حينها قابلت بين الطرد في الاستدلال والسرد في الدراما ولم أنتبه إلى تقابلهما مع الأسلوب العلمي والأسلوب الأدبي إذ اكتفيت بالأولين وخلطهما بالثانيين. لكنها كانت بداية أولية لم أمحصها. وهذه مناسبة لاستكمالها كما فعلت مع حواراتي الفلسفية المدونة في كتب مع حنفي والبوطي والتيزيني.
صحيح أني راجعت هذا العرض الأول حول العلاقة بين العلم المبدع ليس لطريقة العلاج فحسب بل وكذلك لموضوعه لأنه ليس له إحالة فى موضوع خارجي سابق على وضع النظرية-وهذه خاصية الرياضيات-وهي علة اعتباري إياها من جنس الفنون وليس من جنس العلوم التي موضوعها متقدم عليها.
وكنت كتبت هذه المراجعة خلال نشر كتاب أشياء من النقد والترجمة عندما عمقت المقابلة بين الأدب والعلم وزدتها تدقيقا. واليوم أنوي مواصلة هذا التدقيق ولكن بعد أن ضاعفت عناصر المعادلة وهي ابعاد الاسترماز الذي هو أصلها جميعا. ولأبدأ بأول مفارقة حيرتني: ولها صلة بالعلاقة بين المجرد والمعين.
فالرياضيات والادب كلاهما كما أسلفت ليس لهما مرجعية خارجية متقدمة عليهما بل هما اللذان ينتجان هذه المرجعية التي تصبح وكأنها موضوع مستقل عن واضعها الذي يتعالم معها وكأنها موجود فعلي. فيصبح لها عين التمنع الذي للموضوع السابق في العلوم التجريبية وفي الكتابة التاريخية.
وهنا تبرز المفارقة التي أشير إليها: فالرياضي كلما ارتفع في التدريج كان علمه أقرب لأن يلامس تعقيدات العلم التجريبي لكأن التجربة بصدد بيان أنها في الحقيقة تنحو نحو التحول إلى خلق لموضوعها مثلها أو لكأن الرياضيات تحولت إلى تلق لبنى الطبائع بوصفها أباديع تبدو من وحي الخيال.
والأدب على العكس من ذلك -وخاصة الرواية- التي تبدو مستمدة قابليتها للتصديق من قبل القارئ فتبدو له شخوصها وكأنهم أشخاص حقيقيين بمقدار ما يحاطون به من جزئيات وتدقيقات تضفي على مجريات العقدة والشخوص والافعال والأقوال ما يجعلها وكأنها تاريخ أو ترجمة ذاتية لأولئك الشخوص الخياليين.
وطبعا فأنا استثني من هذه الحيل الإبداعية في الرواية الترجمة الذاتية التي تحكي “الواقع” الفعلي أي التي لها مرجعية حادثة فعلا قبلها فتكون وكأنها كتابة تاريخية لحياة صاحبها. فهذا من أفسد طرق القص والسرد بل تحكي على قدرة عجيبة تجعل التعين المتخيل يجعل المعدوم موجودا قابلا للتصديق.
فيكون التعيين في السرد الأدبي مؤديا لوظيفة التجريد في الطرد الرياضي. وهذا هو المحير. وهو ما يمكن من فهم أسلوبي القرآن المعاكسين لهما: فسرده مجرد وطرده معين. ومعنى ذلك أن المبدع المطلق -الله-يبدع بطريقتين مختلفتين بل ومقابلتين للمبدع النسبي أو الإنسان. فما العلة؟ فلنبحث معا.
وينبغي أولا أن اثبت ما ادعي على اسلوبي القرآن ولست بحاجة لأثبت ما أدعي على أسلوب الرياضيات وأسلوب الأدب فعندي أنهما خاصيتان مفروغ منهما: فكلاهما يبدع موضوع وعلاجه لموضوعه وإلا فلا الأولى رياضيات ولا الثاني ادب. إذ يكون هذا قصا تاريخيا وتلك تنظيرا طبيعيا.
القرآن يشبه الطرد العلمي وهو ليس طبيعيا وليس رياضيا ويشبه السرد الأدبي لكنه ليس تاريخيا ولا هو أدبي. فما هو إذن وكيف يتواصل مع الإنسان لأنه رسالة بل ورسالة أخيرة وتذكير أخير وإذن فينبغي أن يكون بينا بنفسه وأقل خطاب محتاج للوسطاء بين متلقيه ومن يدعي تفسيره له.
ومتلقيه أو المرسل إليه هو الإنسان من حيث هو إنسان. فكيف حينئذ يكون بلغة معينة وهو يتوجه إلى الإنسان وكأن هذه اللغة كونية وما هي الكونية. رأيي وهو ما سأحاول بيانه أن ذلك هو سر هذا الأمر الذي يبدو مفارقا: فلا هو علم مبدع لموضوعه ولا هو علم منظر لموضوع سابق ولا هو أدب ولا هو تاريخ.
وهذه الانفاء الأربعة تجعله استرمازا أصلا يؤدي وظيفة كونية تجعل المتلقي الإنسان عامة هو المتلقي بصرف النظر عن لسانه الطبيعي أو العلمي. فأساليب التبليغ اللغوية (الأدب والتاريخ) والعلمية (الرياضيات والفيزياء) بل أدوات اخرى تجعل هذه الادوات هي ما المتلقي مخرجا للدراما الكونية.
وهذه الدراما الكونية تشبه رسوم الفن التجريدي الذي يوحي بأمور تبقى رهن الاخراج الذي يقوم به المتلقي لرسوم قابلة لما لا يتناهى من التأويلات التي هي مماثلات مع “الاسكيس” أو الخطاطة العامة التي تقرآ من خلال الآفاق والانفس فتتبين حقيقتها مكانها خطاب موجه لكل شخص كمحرج للدلالة والمعنى.
ولا يعدل هذا الأفق المفتوح بلا نهاية إلى ما يؤول في ضوئه ما يكتشفه الإنسان في آيات الله في الآفاق وفي الأنفس بحيث إن القرآن مناظيري في الرسالة التي تبلغ للمرسل إليه بالإضافة إلى رؤاه وتجاربه الروحية والتاريخية فيكون القرآن وكأنه رسم متحرك تتناغم دلالاته ومعانيه مع كيان الإنسان
وقد حاولت تلخيص هذه الدراما فيما سميته المعادلة الوجودية ذات القطبين والوسيطين والعلاقتين المباشرة بين القطبين وغير المباشرة بتوسط الوسطين اللذين هما علاقة الإنسان بالطبيعة وما وبما ورائها وعلاقته بالتاريخ وبما ورائه والماوراءان هما مضمون العلاقة المباشرة أو قاعدة فهمها وتأويلها.
وقاعدة الفهم والتأويل تشبه نظام المفاتيح التي تضفي المعنى على المعادلة الوجودية التي هي في آن كيان الإنسان: فمتاح القرآن هو كيان الإنسان. ولذلك فهو مقروء من أي إنسان بمجرد أن ترسم أمامه المشاهد التي تسرد والاستدلالات التي تطرد (الطرد يعني إطلاق القياس ومعه العكس).
والسؤال هو: لماذا يكون الإنسان المفتاح في حين أن علم الوسيطين الطبيعي وما ورائه والتاريخ وما ورائه هما مضمون العلاقة المباشرة بين القطبين أي الله والإنسان؟
لأن الإنسان مؤلف من الطبيعي والتاريخي والطبيعي فيه هو العلاقة العمودية والتاريخي هو العلاقة الأفقية.
ولو كان ذلك صحيحا لاستغنينا عن البحث العلمي ولكفى معرفة اللسان العربي. وهذا لعمري من أكبر ادلة السخف والغباء. كيف يمكن لرسالة كونية أن تتجوه للإنسانية بلغة من بين لغاتها والقرآن تكلم على الرسالات الجزئية السابقة بأنها تلكون لكل قوم بلسانه؟
الرسالة الخاتمة تتجاوز شرط اللسان.
تجاز شرط اللسان لا يعني الاستغناء عنه بل يعني أنه أحد حوامل المعنى والدلالة. لكنه ليس أهمها في القرآن لأنه ليس من جنس الرسم المحاكي بل هو من جنس الرسم المجرد الذي يشبه سبر حال الحال المريض النفس بأثار حبر سال على ورقة وهو يؤوله بما في نفسه من وجدان.
لكنه لا يؤثر بالرسم المرئي مباشرة بل بما يوحي به سماعه وما يرسمه خيال السامع من معان ودلالات فتكون موسيقى القرآن هي المؤثر الاول يليه الرسم الذي نتجه متخيل المشاهد المسرودة ثم بالتدريج يصبح قادرا على الدخول فيها فيكون وكأنه أحد المتفرجين ثم المشاركين في المشهد ثم في الاستدلال.
من لم يندمج في الدراما الكونية التي يمثلها نص القرآن ولم يخرج من اللساني إلى الآفاق والأنفس لن يفهم شيئا من القرآن فيرى فيه ما رآه المفسرون الذين فقدوا البصيرة فلم يعتمدوا ما أمر به القرآن وما نهى عنه في طريقة فهم معانيه ودلالاته التي تبين أنه الحق في الطبيعة والتاريخ ومابعدهما.
فقد رأوا في الخبر والبلاغة وما زعموه علما. وهو لا يخلو من ذلك بالطبع لكنه ليس خبرا ولا بلاغة ولا مدونة علوم بل هو دراما كونيه تجعل الإنسان المتلقي مخرجا لهذه الدراما بالاستناد إلى مفتاح المفاتيح أي مقومات الإنسان وما فيه من العلاقتين بينه وبين الطبيعة وبين التاريخ وما ورائهما.