دور الترميز في كل ماهو انساني طبيعي أو تاريخي – الفصل الأول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله دور الترميز في كل ماهو انساني طبيعي او تاريخي

عندما بينت أن كل المقومات الخمس لكيان الفرد الإنساني (الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود) تخضع لبنية اقتصادية عميقة هي مقومات الانتاج سواء كان ماديا أو رمزيا (الفكرة والاستثمار والتمويل والعمل والاستهلاك) لم يكن القصد فهما ماركسيا يرد الامر إلى بعد مادي.

ذلك أن الاقتصادي ليس ماديا إلا عند من يرده إلى أحد ابعاد العمل المنتج للبضائع أو للخدمات سواء كانت مادية أو رمزية لكنه في الحقيقة هو جوهر التبادل بين البشر وبينهم وبين الطبيعة المشروط بالتواصل في الحالتين. وإذن فهو هذه العلاقة بين النظر والعمل وما بينهما من وسائط تصل الاول بالثاني.

لذلك وتقريبا في نفس الوقت كتبت تعليقا على أصحاب القراءة الماركسية للتاريخ لبيان هذا المعنى انطلاقا من نظرية القيمة التي ما كان فهمها التبادلي ليختلف عن فهمها الاستعمالي لو لم يكن الثقافي مقدما على المادي في الاقتصاد. ومن ثم فيمكن أن نبين أن أساس القيم المادية رمزي ومتقدم عليها.

وكان الداعي للتعليق الرد على مقال لسمير أمين صدر في مجلة مركز الدراسات العربية ونشر مقالي حينها وفيه عرضت هذه الرؤية التي تلغي كل وهم ماركسي يزعم أصحابه أنهم قلبوا الهيجلية التي كانت تمشي على راسها ليجعلوها تمشي على رجليها. وفي الحقيقة القلب في الجدل فاقد لمعناه.

لست من القائلين بالمنطق الجدلي ولكني لا أفهم مفاضلة القائل بين رأس ورجلين فقطبا العلاقة بين حدي الجدل أو المتناقضين ليسا كيانين من طبيعتين مختلفتين بل هما وجها نفس الأمر بحيث إن التناقض مقوم للكيان الواحد الذي لا يمكن أن نفاضل فيه بين متقدم ومتأخر: ولا يمكن قلب هيجل ليصبح ماركس.

وأقصد بنفس الوقت وقت الخلاف الذي حصل بين الأستاذ حنفي وبيني حول مسألة العلاقة التراتبية بين النظر والعمل. وللأمرين علاقة مهمة ينبغي شرحها لنفهم القصد بما كتبته في أنطولوجيا الترميز وبما أقصده بالاسترماز أو صوغ الأشياء التي هي موضوع التبادل والتواصل سواء كانت بضاعة أو خدمة رمزيا.

والتبادل والتواصل ليسا مقصورين على ما بين البشر بل إن الحي عامة والإنسان خاصة لا يقوم من دون تبادل وتواصل مع الآفاق والأنفس أي مع الطبيعة والتاريخ وما بعدهما لعلاج العلاقتين العمودية مع الطبيعة والأفقية مع الإنسان. نتبادل مع الطبيعة ونتواصل ولولا ذلك لما علمنا قوانينها واستعملناها.

ولست استعمل التبادل والتواصل مع الطبيعة استعاريا ومجازا بل حقيقة: فلا يمكن للإنسان أن يعلم قوانين الطبيعة من دون أمرين جوهرهما التبادل والتواصل. فالتبادل ماديا حاصل وهو ما نأخذه من الطبيعة من شروط قيامنا وعيشنا وهي تأخذ منها مثل ما نأخذ منها على الأقل جثثنا عندما نموت.

فجثثنا مواد أخذناها منها جامدها وحيها ثم حولناها إلى كيانات حية تعيد إلى الطبيعة فضلات ما أخذته وآخر فضلة هي جثاميننا عندما نموت. وكل ذلك يصبح من سماد الطبيعة في دورتها الطبيعية التي تتكون بها كائنات حية سواء كانت نباتا أو حيوانا. ما لا يشكك في القارئ هو التواصل.

وما أزعمه هو أنه لولا التواصل مع الطبيعة لاستحال العلم والفن. فالعلم يبدأ لما يكتشف الإنسان لغة التواصل مع الطبيعة أي ما وصفه جاليلي بعبارة جميلة “الله تتكلم هندسيا”. ونجد في القرآن عبارة أجمل وهي {كل شيء خلقناه بقدر} وهو أشمل من الهندسي رغم أن المعنى واحد: الطبيعة تتكلم الرياضيات.

وتواصلها مع العلماء هو بنعم أو لا: العالم يطرح عليها سؤال رياضي حول قوانينها فتجيبه بالتجربة التي تؤيد أو تنفي فرضياته التي هي أسئلة يوجهها لها وطبعا فليس كل جواب بلا أو بنعم دليل صحة إذ لا بد من أن تتكرر اللا والنعم الطبيعيتين حتى يتأكد العالم من حزره صحة الجواب عن سؤاله.

لكن للإنسان تواصل أعمق مع الطبيعة وهو سر كل الفنون سواء الطبيعة التي في كيان الإنسان وخاصة بين الجنسين أو في كيان الطبيعة الخارجية وخاصة بين الذوق وما في الطبيعة من أمور تستجيب للذوق إما بمعناه المادي كالغذاء أو بمعناه الرمزي كالجمال أو الجلال اللذين توحي لنا بهما.

وكل أمة مات فيها هذان النوعان من التواصل تصبح صماء بكماء عمياء لا ترى آيات الله في الآفاق وفي الانفس ومن ثم فهي تكون أعجز الجماعات على علاج العلاقة العمودية والعلاقة الافقية المبنية عليها: فلا يمكن لمن لا يفهم سر التبادل مع الطبيعة وفهمه هو ثمرة التواصل معها أن يكون إنسانا بحق.

ومن هنا نعود إلى القيمتين الاقتصاديتين التبادلية والاستعمالية كلتاهما لا معنى لها من دون القيمتين الجديدتين اللتين عرفناهما في التواصل مع الطبيعة: قيمة الحقيقة وقيمة الجمال في العلاقة العمودية ومنهما تشتق قيمة الحقيقة وقيمة الجمال في العلاقة الافقية إذ تصبح أداة تواصل بين البشر.

لكن الأهم من ذلك أنها تصبح أداة إبداع لما لم تبدعه الطبيعة وأداة تواصل مع ما يعتبر ما بعد الطبيعة أعني كل الرؤى الوجودية التي تستنتج من الحقيقة أو من الجمال والجلال لفهم معنى الوجود بالاشرئباب إلى ما يوسعه بالمنشود الذي لا يرضي إلا باللامتناهي واللامحدود ليخرج من ضيق العالم.

فنكون بذلك قد اكتشفنا ثلاث أصناف أخرى من القيم بعد التبادلية والاستعمالية وجدنا الحقيقة والجمال والجلال إما منسوبين إلى الطبيعة والتاريخ أو إلى ما ورائهما مما يضفي المعنى والدلالة عليهما لئلا يكون الإنسان حبيس المتناهي والفاني وحينها تصبح القيمتان الاوليان ماديتين.

وبفضل هذا الاكتشاف يسقط المنطق الجدلي: لا شيء يتألف من وجهين ضدين إلا إذا فصل عن الطبيعة وما وراءها والتاريخ وما وراءه وما يوحد ذلك كله في وجدان الإنسان توحيدا من دون لا يصل إلى “النفس المطمئنة” أي إنه يبقى متقطعا بحثا عن النظام في الوجود شرطا لقيامه المطمئن.

ولا أنكر أن البعض يرضى بالفهم الفيورباخي لهذا الاشرئباب فيفسر به ما يتعالى به الإنسان على الطبيعة والتاريخ إلى ما بعدهما جاعلا منه خالق غاية هذا الاشرئباب أعني وخالطا بين كون الإنسان لا يستطيع تصور غاية الاشرئباب إلا بمقياسه (الانثوروبومورفية) وبين رد المتصور إلى التصور.

وحتى وهو راض بهذا التفسير فهو في الحقيقة يقول بعكسه لأنه يؤله الطبيعة لينسب إليها ما ينسبه “العامي” إلى الله ويعتبر ما يدور في وجدان الإنسان من أوهامه على ذاته التي يؤلهها ولا يرى أنه بذلك يطلق حكمه دون نقد فيعد للنقلة من الهيجلية إلى الماركسية بحكم ليس عليه دليل عقلي مقنع.

لذلك فالنتيجة ليس فيها أدنى تقدم فلسفي لأن العملية كلها ترد إلى وضع الإنسان في موضع الله فيصبح ما يسمى بالفكر الحديث مجرد علم كلام جديد كل ما كان ينسب إلى الإله صار ينسب إلى الإنسان وما يقدم على أنه تحرر من أوهام الانسان انتهى إلى اطلاقها فتحولت الفلسفة إلى إيديولوجيا تدعي رفضها.

وفي النهاية تم الاعتراف بهذا الانقلاب: فما يسمى بما بعد الحداثة هو اكتشاف ما حققته الحداثة ما بعد هيجل أي تحويل الفلسفة والدين إلى ميثولوجيا بطلها الإنسان سواء كان في الصورة الماركسية للجماعة أو في الصورة النيتشوية للفرد أو في العدمية المطلقة التي سادت في وجوديات المأزق الوجودي.

ولنعد الآن إلى الرمزين: دور الاسترماز هو الذي جعل التاريخ الإنساني كله يدار برمزين هما الكلمة والعملة. والكلمة هنا ليست لسانية فحسب بل هي كل الأسماء العلمية غير العلمية التي تنوب مسمياتها في عملة الفكر مادة للتواصل والتبادل بين الإنسان وكل الموجودات الأخرى.

والكلمة بهذا المعنى دورها في التواصل يناظر دور العملة في التبادل وخاصة في التبادل بين البشر ولكن حتى بينهم وبين الطبيعة. وهذا شديد الغرابة. لكن لما كان المجتمع بتقسيم العمل جعل الفرد لا يتبادل مع الطبيعة مباشرة بل تكون الجماعة وسيطا بينه وبينها والعملة هي المحققة لهذه الوساطة.

ولأبسط الأمر: فوالدي مثلا لا ينتج الغذاء بل يشتريه من تاجر يتوسط بينه وبين المزارع. وهذه سلسلة طويلة من الوسطاء. المهم أني آكل من الطبيعية بفضل ما لدي من عملة أدفعها للتاريخ الذي يدفعها للمزارع الذي يدفعها لمن يبيعه مواد السماء والطاقة وآلات الزراعة إلخ. فتصبح العملة مثل الكلمة.

بل إن العملة أوقى أثرا من الكلمة لأن الكلمة نفسها بضاعة أو خدمة تشترى بالعملة: ومعنى ذلك أن الخبير مثلا في الهندسة الفلاحية يبيح “نوو هاو” أو خبرة وهي كلمات علمية تصبح خدمة فتقدر قيمتها العملة. لكن العملة نفسها تنتجها كلمة علمية تمكن من قوانين الطبيعة ومناهج استخراج ثرواتها.

عندنا إذن رمزان كافيات لتفسير معنى الاسترماز ودوره: الكلمة والعملة والأولى للتواصل خاصة والثانية للتبادل خاصة وهما علميتان تساعدان على علاج العلاقتين العمودية للاستعمار في الارض والافقية للاستخلاف فهيا وهما لا ينفصلان والفصل بينهما يؤدي إلى وهم قيام أحدهما دون الثاني.

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي