دور الأمة الكوني، شروط تحريره من التزييف ومقوماته – الفصل الرابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله دور الأمة الكوني شروط تحريره من التزييف ومقوماته

بقي في المحاولة فصلان سأخصصهما لاعتراضين أهميتهما في ما تدلان عليه من سوء فهم لتفاعل ابعاد الزمان التاريخي الخمسة ولمنطق تقدم المعرفة الإنسانية. والأول سأخصص له الفصل الرابع والثاني الخامس لأثبت أن النهوض لم يبدأ مع مجيء نابليون بل منذ أن تم التوالج النقدي بين الديني والفلسفي. والتوالج النقدي الذي بدأ بفضل الغزالي في نهاية القرن الخامس كان بداية تجاوز صراع الكاريكاتورين الممثل أولهما للفلسفة التي صارت إيديولوجيا الباطنية والثاني الدين الذي صار إيديولوجيا الظاهرية وأصبح الصراع الايديولوجي حائلا دون الفعل الفكري المبدع في الدين وفي الفلسفة. فالصراع الإيديولوجي المعرفي رد العلاقة العميقة بين الإيمان والعلم (أو العقد والنظر) إلى علاقة بين الكلام والفلسفة في ما وراء لا يقبل العلم سواء كان كلاما في الغيب الآخروي أو في الغيب الدنيوي والصراع الإيديولوجي السياسي رد العلاقة العميقة بين الأخلاق والقانون (أو العلم والشرع) ردها إلى علاقة بين التصوف والفقه في ما يجانس العلاقة بين الكلام والفلسفة فأصبح الكلام والفقه وكأنهما ممثلان للدين والفلسفة والتصوف وكأنهما ممثلان للادين أو لتجاوز حدود الدين وصار الإسلام يعامل وكأنه دين من بين الأديان لا الديني في كل دين أو النقد الذي يحرر الديني من توظيف الأديان. هذه الوضعية التي سادت كان أول من حاول تجاوزها بتحقيق التوالج بين الثقافتين توالجا حقيقيا وليس بالطريقة التي كانت سائدة حيث إن كلا منهما يستعمل نفس الأدوات لنفي الثاني دون رؤية الحقيقة الواحدة التي يعالجانها في النظر والعمل هو صاحب الصدمة القصوى بينهما أعني كتاب التهافت. فبعد كتاب التهافت انتقل الفكر إلى البحث في المبادئ العامة التي يستند إليها الفكران ومناط الخلاف الذي صار من طبيعة ابستمولوجية ووجودية ولم يبق صراعا إيديولوجيا بين توظيف الدين والفلسفة في معركة بين مذهبين باطني يدعي العقل ويقول بالتعليمية وظاهري يدعي النقل وينفي التعليمية. وكان ذلك من مفارقات الوضعية: فالباطني يقول بالتعليمية وبعصمة الأيمة والعلم اللدني ويدعي العقلانية والظاهري ينفي التعليمية وعصمة الأيمة والعلم اللدني ويدعي النقل. وهذه المفارقات هي التي تحول دون فهم تاريخ الفكر الإسلامي إلى حد التهافت وتهافت التهافت من بعده. حوار التهافتين رغم القرن الفاصل بينهما (نهاية الخامس ونهاية السادس) يمثلان المنعرج الذي أحاول وصفه. فبعلاج قضايا الخلاف بينهما يمكن القول إن الفكر الاسلامي انتقل من الخطاب الإيديولوجي في الفكرين الديني والفلسفي ودخل في الفكر الديني والفلسفي لذاتهما بعلاج جوهر الإشكالية المشتركة وهذه الإشكالية المضاعفة هي التوالج بين أرشيتاكتونيك الفكر الديني الذي لم يبق مقابلا لأرشيتاكتونيك علوم الفكر الفلسفي مقابلة الأصيل والدخيل وما يصحبها من توظيف إيديولوجي بل صار الكلام فيهما فلسفيا ودينيا بأتم معنى الكلمتين حول علاقة الإيمان والعلم في النظر والأخلاق بالقانون في العمل. لكن ذلك لم يتحقق بصورة واعية بذاتها لأنه في نفس ذلك القرن -السادس-تكونت المدرسية المربعة التي يمكن وصفها بنسبتها إلى أربعة أعلام كبار هم: ابن رشد فقيه فيلسوف وابن عربي متصوف متكلم والسهروردي فيلسوف متصوف والرازي متكلم متفلسف. ومع ذلك فهذه المدرسية تمثل تمام توالج الثقافتين. ورغم أنه كان توالجا فاسدا لأنه كان فيها جميعا ناكصا إلى ما قبل الغزالي وبل وإلى ما قبل كل التراث الفلسفي والديني الإسلامي فإنه بذلك مثل الارضية التي ستجعل النقد الجذري لهم جميعا بداية الثورة النظرية التي أنسبها إلى ابن تيمية والثورة العلمية التي انسبها إلى ابن خلدون. كيف ذلك؟ أولا ماذا أعني بالتوالج الفاسد والمدرسية المربعة؟ ابن رشد عاد إلى أرسطو وتصوره نهاية العلم. السهروردي عاد إلى أفلاطون إلى المجوسية واعتبرها العلم النهائي ابن عربي عاد إلى الميثولوجيا الفلكية واعتبرها العلم النهائي والرازي عاد إلى السفسطة الكلامية وظنها علما لدنيا. ولست أعيب عليهم العودة إلى الماضي فليست كل عودة إلى الماضي نكوصا بل أعيب عليهم أنهم عادوا إليه متوهمين أنه خاتمة العلم وملغين كل ما حصل من بعده. ولو كنت أعيب العودة إلى الماضي لما فعلت ما أفعل هنا ولما أنوي كتابة الفصل الاخير للتمييز بين العودة المتجاوزة والعودة الناكصة. وصلت إلى نصف الفصل ولم أذكر الاعتراضين ولم أحددهما ما هما رغم الفصلين هذا والذي يليه مخصصان لهما. فلأذكرهما: الاعتراض الأول متعلق بسوء فهم منطق أبعاد التاريخ الخمسة. فهي متفاعلة دائما ومحتاجة إلى جبر الكسر بينها: الماضي بحدثه وحديثه والمستقبل بحدثه وحدثه وتلاقيها كلها في الحاضر. وهو اعتراض متعلق بموضوع الفكر الإنساني. والثاني يتعلق بمنهج استعادة الفكر لعنفوانه بفضل جبر الكسور التي تحول دون هذه الأبعاد والفعل لأنها لا تفعل إلا بفضل ما بينها من علاقات فيكون فعل الفكر الحاضر هو مراجعة الماضي حدثا وحديثا شرطا في بناء المستقبل حديثا وحدثا: وهو ما أحاوله. والاعتراضان هما من خصائص فكر ادعياء الحداثة السطحي: ويجمع بينهما “خلينا” من الماضي فهو قد مضى وانتهى ولنهتم بالحاضر والمستقبل. وطبعا الحاضر والمستقبل عندهم هو مجرد الاستيراد من حاضر غيرهم وماضيه لأن مستقبلهم هو مجرد استيراد ماضيه لأن مستقبله هو بدوره ليس بعد محددا فيحاكوه. وهو ما يعني أنهم ينبغي أن ينتظروا دائما ما يبدعه مستقبلا له فيكون ما يستعيرونه منه هو ماضيه لأنه يكون قد حققه فصار ماضيا. ومن ثم فهذا الموقف الذي يدعي الحداثة لا يختلف عن موقف السلفي المتخلف الذي يعتقد أن السلفية هي الماضي وليس الريادة في كل عصر: مستقبلهم هو الميت من التاريخ. ولا يهم إن كان الميت من مقابرنا أو من مقابر الغرب. هو ميت وكفى. لكن جبر الكسور في عملية البحث عن التفاعل الحي بين أبعاد الزمان التاريخي الخمسة يعتبر الحي في التاريخ هو هذا التفاعل بينها أي بين ماض بحدثه وحديثه وهو الموجود ومستقبل بحديثه وحدثه وهو المنشود: علاقة الموجود بالمنشود. وما الحاضر إلا السعي بين الموجود والمنشود. فمن يجهل الموجود لا يمكن أن يحقق المنشود. ومن يكون موجوده غير منقود يقيم في المقابر. ومن يكون منشوده مفقود لأنه يستورد ميت الموجود لا مستقبل له. وتلك هي صفات الكاريكاتورين مدعي التأصيل ومدعي التحديث بالتقليد: هم نزلاء المقابر. والغريب أن نزلاء المقابر هم من يتصورون الزمان التاريخي من جنس الزمان الطبيعي: ماض وحاضر ومستقبل ولا يرون الطابع المضاعف للماضي والمستقبل والأصل الخامس الذي هو الحاضر بوصفه دائما حضور حديث الماضي عن حدثه الحاصل بالفعل وحديث المستقبل المستعد للحصول بالقوة وعلاقة التأويل بالتحليل. فحضور الماضي في الحاضر هو حضور تأويلي لفهم حديثه عن حدثه وحضور المستقبل في الحاضر هو حضور تحليلي لحديثه عن تحقيق حدثه. والأول معضلة المعضلات النظرية والثاني معضلة المعضلات العملية. ويزداد الامر تعقيدا إذا لم ننس أن الماضي كان مستقبلا قبل حضوره وأن المستقبل سيصبح ماضيا بعد حضوره. ولذلك فحديث الماضي عن حدثه هو دائما علاقة بين حديثين قبل حضوره وبعده ومن ثم فهو أتم من حديث المستقل لأننا لا نعلم منه إلا ما يسبق حضوره دون ما يتلوه. فيكون التأويل أكثر تعقيدا بسبب كونه علاقة بين حديثين يتوسطهما حدث في والتحليل أبسط بسبب كونه فاقدا للحديث الثاني الموالي للحدث. وهذه البساطة هي التي تجعل أدعياء الحداثة أميل للكلام على المنشود دون اعتبار الموجود متوهمين أن ما في الأذهان مغن عما في الأعيان. وهم بهذا الموقف لا يمكن إلا أن يكون فكرهم هداما خاصة إذا كانوا يتصورون أن المنشود موجود وأنهم في غنى ابداعه فيكفي استيراده: مبادلة الخام بالمستورد. نفس عقلية كاريكاتور التأصيل: هذا يعتمد على بيع الخام واستيراد الحداثة المادية وذاك يعتمد على تهديم الخام واستيراد الحداثة الفكرية. كلاهما لا يبدع ولا ينتج بل يكتفي بالاستيراد. والاستيراد المادي من الغرب عند الأول يصحبه الاستيراد الفكري من ماضينا. والثاني يستوردهما من الغرب معا. عرضت الاعتراضين في شكل نظري عام وكأنهما مسألة فلسفية. لكن الحقيقة كانت اعتراضين على محاولاتي التي تتهم بالماضوية في مسألة جبر الكسور وفي مسألة اعتبار النهضة لم تبدأ مع نابليون بل منذ الصدمة الغزالية وخاصة منذ بداية التجاوز التيمي والخلدوني في النظر والعمل. وقد أطلت في علاج الاعتراضين في بعدهما الفلسفي العام ولم أتطرق إلى حد الان إلى توجههما إلي شخصيا. وهو ما سأحاول عمله في الفصل الموالي لبيان للرد على الاعتراضين متعينين بدقة: 1. كيف تريد بناء مستقبل الفكر بماضيه؟ 2. إذا تقدمت النهضة على نابليون فلم لم نر أثرها الحداثة إلا بعده؟ والاعتراض الأول حول دور ماضي الفكر في مستقبله عالجته عديد المرات وخاصة في ضميمة المثالية الالمانية التي ترجمتها وساعدني على بعض فصولها أنجب طالبين لي صارا زميلين في فكرنا الفلسفي الحديث وفي الجامعة: المسكيني (مختص في هيدجر) والعونلي (مختص في هيجل) وهما من أعلام الفكر الفلسفي عندنا. وسأوجز الكلام عليه في الفصل الموالي مع التركيز على الاعتراض الثاني: ماذا حصل بين القرن الثامن -الرابع عشر الذي اعتبره ذروة تجاوز الفلسفة القديمة والوسيطة في النظر والعمل وبداية النهضة الاساسية في عودة الأمة إلى الفاعلية التاريخية ومجيء نابليون إلى مصر بداية مزعومة للنهضة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي