ه
ملاحظة:
هذا فصل قصير هو في آن مقدمة لمحاولة الفصل بين المحكم والمتشابه وخاتمة.
النص
لما اضطررت لإضافة بعدين آخرين لعلوم اللسان – لئلا أكتفي بالسنتاكس والدلالة والتداول بل ضاعفت الدلالة بالمعنى والتداول ذا الدلالة بالتداول المعنوي باللساني لعدم وجود دلالة محددة – لم أكن أعلم أن ذلك له علاقة بما أضفته لعناصر اللسان قبل الاسم والفعل والحرف أعني الصوت المسمي لذاته والرسم المسمي لذاته. وقد استدركت بذلك على النحاة وعلى اللسانيين.
ففي الاستدراك على اللسانيين بينت أن المعنى بخلاف الدلالة لا يحيل إلى دلالة معينة وأحيانا إلى دلالة أصلا وقد تكون الإحالة مما يعتبر من المستحيلات. إذا قبلنا ذلك فلا يمكن للتداولية أن تبقى واحدة لأن الاحالة على دلالة محددة تضع بين المتواصلين وسيطا يحتكم إليه ما ييسر التفاهم بخلاف عدمها يكاد يحول دون أي تواصل أو تفاهم على مضمون التواصل. وغالبا ما ينسب هذا إلى الذوقيات والوجدانيات. لكن السنتاكس يبقى واحدا لأن جميع الانظمة الرمزية لها سانتاكس ولا يمكن أن تعمل من دونه سواء كانت متعلقة بأساس الدلالة أو بأساس المعنى.
أما في الاستدراك على النحاة فالأمر أيسر لأنهم لا ينكرون وجود الظاهرتين حتى وإن كانت التسمية التي اختاروها قد أخفت طبيعتهما. فبدلا من اعتبار ما سموه اسم الصوت تسمية المصوت بصوته قلبوا العلاقة. وبدلا من اعتبار ما سموه اسم فعل تسمية الفاعل بفعله قلبوا العلاقة. فكانت اضافتي استعادة التسمية الصحيحة ثم الاستغناء عنها لأن الصوت في الأول والحركة في الثاني مكتفيان بذاتهما وهما يفيدان بوصف الاول موسيقى محاكية والثاني رسما محاكيا. لكن المحاكاة في الحالتين ليست مطابقة وهو ما يعني أنها معنى غامض من جنس الموسيقى التصويرية في الأفلام وهي جزء منه أو من لغته وله رمزية أو من جنس فن الرسم المجرد وغير المحاكي للشيء المرسوم وهو جزء من لغة الرسم وله رمزية.
فالصوت المسمي لذاته موسيقى وزمان موح بمعنى. والرسم المسمي لذاته تشكيل ومكان موح بمعنى. وكلاهما من جنس العبارة البدنية. وكلاهما تأسيس للمعنى وللتداول المعنوي غير المحدد بمرجعية معينة. فلكـأنهما التواصل المتعين من حيث هو تواصل ليس وراءه ما عداه. فيكون غاية ذاته مثل ما يسمى باسم الصوت وباسم الفعل. فالأول انتغام صوتي والثاني تحرك تشكيلي ماثلان بالحضور الموضوعي للعيان الذاتي الذي لا يكاد يقبل التواصل متواطئ الدلالة بين المرسل والمرسل إليه.
كما لا يمكن اعتبار الصوت الدال على ذاته “اونوماتوبي” لأن أصوات الحيوانات مثلا لا تتبدل من ثقافة إلى ثقافة لكن تسميتها بأصواتها متغيرة من ثقافة إلى ثقافة. ونفس الأمر بالنسبة إلى الحركة الدالة على ذاتها. فالتعبير البدني متغير من ثقافة إلى ثقافة. وإذن فكلاهما من جنس التعبير في الفنون الجميلة. ليس لها دلالة محددة لكنها ذات علاقة بالثقافات مثل كل تعبير متقدم على التعين اللساني ذي المرجعية المحددة ككل تعبير عن ذوق الأذن وذوق العين.
والانتغام والتحرك الماثلان بالحضور يتجاوزان الترميز من حيث هو “عمل” إنساني إلى كل الموجودات بوصفها رامزة لذاتها بحضورها ومترامزة مع كل ما عداها بموقعها في العالم من حيث هـي رمز تجاورها مع كل ما في العالم من موجودات متفاعلة بما يظهر من علاقاتها وبما لا يظهر. ولعل ذلك فيه ما يوحي بقوة خامسة أصلا للقوى الأربعة الكونية في العالم. فنحن نعلم الآن أن العالم فيه أربع قوى أساسية هي سر ما فيه من نظام:
- الذرية القوية.
- والكهربائية المغناطيسية.
- والجاذبية.
- والذرية الضعيفة.
وتقتضي وحدتها أن يكون لها أصل لعله هو هذه القوة الترامزية الخامسة وهي ما بين كل مكونات العالم من علاقات تتجاوز التوحيد الجزئي إلى الكلي نظاما جامعا لكل الموجودات في مجرات العالم كلها. وقد أفترض أن تكون هذه القوة الترامزية الخامسة هي عين قوانين الوراثة البايولوجية منطبقة على كل الموجودات لو افترضنا أن العوالم كلها يتوالد بعضها من بعض مثل توالد البشر من نفس واحدة (النساء 1). فتكون القوة الممسكة بها هي عين مبدأ الحياة الذي هو فعل الإيجاد أو “إنا خلقنا كل شيء بقدر”.
ولن أسرح في الخيال إذ إني لست عالم فيزياء ولا عالم فلك بل الفكرة هي مجرد “افتراض” للوصل الممكن بين الأنظمة الرامزة والأنظمة المرموزة بتوسط التواصل الرمزي الذي هو المميز الجوهري للإنسان كما يعرفه القرآن بوصفه علة أهليته للاستخلاف -تعليمه الأسماء كلها-رغم عيوبه في القرآن.
والمفارقة التي لم أجد لها تفسيرا بعد هي:
كيف للموسيقي والزمان والتشكيلي والمكان يكونان في اللسان بعد إضافتي ممثلين للمعنى الذي يتجلى بالمثول دون تحديد فيصبح منفتحا على التأويل اللامتناهي وهما في آن الثمرة الأولى لأدق العلوم التي من دونها يمتنع أي علم ممكن؟
كيف نفهم المقدرات الذهنية عامة والرياضيات خاصة وهي بلغة ابن تيمية معان رامزة وليس مقومات الأشياء؟
كيف يجتمع التحديد المطلق مع اللاتعين المطلق؟
نسمع الموسيقى وزمانها وحتى منعرجاته. وهي مطلقة التحديد. لكن المعنى فيها يبقى من اللامتعين المطلق. ونرى التشكيل ومكانه وحتى تضاريسه. وهو مطلق التحديد. لكن المعنى فيه يبقى من اللامتعين المطلق. وبصورة أدق فإن المعنى في الحالتين يتحدد تحددا متعددا بتعدد الأنفس المرسلة والأنفس المرسل إليها لكأنها بعدة الكائنات المدركة. وما يدريني فلعل كل الكائنات مدركة لهذا التواصل الموسيقي والتشكيلي.
لما كتبت “الشعر المطلق والإعجاز القرآني” -قبل أن أضع نظرية علوم اللسان بالإضافتين-استعملت الإضافتين الخاصتين بعناصر اللغة أي اسم الصوت واسم الفعل وحاولت الكلام على نظام ترميز كوني يشمل الإنسان وما عداه من الموجودات واعتبرته نظام الترميز القرآني الذي يبقى الشعر المطلق دونه دائما. ولا علاقة لهذا التعالي بالإعجاز العلمي بل هو اعجاز ذاتي في كيان القرآن بوصفه: - كلامه على كلامه عن نفسه من حيث هو رسالة بين مرسل هو الله ومرسل إليه هو الإنسان ورسول هو محمد ومنهج تذكير: وهذا هو المحكم الذي يتسلم كما ورد في القرآن لأنه المبادئ الأولى التي يتأسس عليها الدين.
- وكلامه على غيره بوصفه نظام إشارات لما يوجه إليه الإنسان حتى يحقق مهمتية تعميرا واستخلافا بنظره وعقده وبعمله وشرعه: وهذا هو مجال المتشابه الذي يعلم بالبحث العلمي في الوجود الخارجي وليس بتأويل نصوص القرآن.
فعندما أقول إن السنفونية كذا مطلقة الجمال موسيقيا أو الرسم كذا مطلق الجمال تشكيليا فلست أتكلم على اعجاز متعد إلى غير العمل الفني نفسه وأثره في نفسي فأزعم أنه لغة تتكلم على ما عداها لكأنها متن معرفي نبحث فيه عن حقائق متعلقة بأمر خارجي خاصة إذا كان مثل القرآن يدعوك إلى طلبها من خارجه.
وبعد بناء الأداتين المساعدتين على التحرر من خرافة المقابلة “حقيقة-مجاز” في لغة القرآن الكريم بوضع العنصرين المقومين للعبارة اللسانية المتقدمة على الاسم والفعل والحرف وبوضع العلمين المقومين للمعرفة اللسانية المتقدمة على علوم اللسان الثلاثة التقليدية يمكننا تجاوز تحريف علوم الملة.
ولن يكون التجاوز شبيها بالدعوات للتجديد الذي هو من نفس طبيعة ما حصل في الماضي عندما توهم الكثير أن تبني رؤية أفلاطون وارسطو كان كافيا للتخلص من النقل المزعوم إلى العقل الموهوم. فيكون التجاوز الحديث دعوات للتجديد بتبني رؤية هيجل وماركس. فأربعتهم يقولون بالمطابقة لكأن العلم محيط والعالم واحد يقتصر على ما يدركه الإنسان.
لكني لا أعتقد العلم الإنساني محيطا ولا أعتقد أن العالم الذي ندركه واحد ولا أن ما ندركه من العالم يحيط بكل ما فيه ولا حتى يستوعب أهم ما فيه حتى لو تمكنا من غزو السماوات كلها. فما في العالم من الأسرار لا نحيط بواحد في المائة منها مهما تقدمنا وتقدمت أدوات تقوية مداركنا كلها.
فما كان فلاسفتنا القدامى أولا ثم علماء الكلام ثانيا يسمونه نقلا هو عين ما يسميه “حداثيونا” إيديولوجيا توهما أن “علمهم” الفلسفي حقيقة مطلقة مطابقة لما يسمونه “الواقع”. وكلتا الرؤيتين إذن تمثل سذاجة الاعتقاد بأن العقل مرآة صقيلة وشعار “لازار” نفاذ إلى ما يدركه فيكون علمه جوهر حقيقة الوجود دون نقل.
وطبعا لو تجاوزوا سذاجتهم لاضطروا للجواب عن سؤال بديهي: هل يميزون بين التخيل والعلم وبين المعرفة العلمية والعلم الخيالي في أفلام غزو الفضاء؟ فما يتصوره العقل إذا لم يكن له مضمون من التجربة الفعلية أو حتى الممكنة عقلا-وهو المضمون النقلي- لا يعتبر علما وأقصى ما يمكن نسبته إليه أنه فرضيات وليس علما؟
وإذن فخرافة العقل المقابل للنقل من المضمرات الدالة على الكذب أو على السذاجة إذا لم يكن صاحبها واعيا بها. وفي المقابل النقل الخالي من العقل أيضا خرافة. وهي مضاعفة. فالنقل ليس فيه علم بالغيب وإلا لما كان لتسمية القرآن رسالة معنى فلا يمكن أن تتضمن ما تقول عنه إنه لا يعلم بشريا.
كان أفلاطون وأرسطو يعتقدان أن العقل يدرك الوجود على ما هو عليه لكأن حقيقة الوجود تقبل الرد إلى ما يدركه الإنسان منها وسموا ما عدى هذا الإدراك جنون المتنبئين أو تعبيرا عن الحماسة الشعرية أو عن الأكاذيب السوفسطائية. وهذا تقريبا القصد بالإيديولوجيا عند حداثيي العرب والمتمركس منهم خصوصا وغالبهم لا علاقة لهم بالفلسفة ولا بالدين بل هم من دجالي الآداب العربية (أبرزهم ثلاثة مصري وجزائري وتونسي).
وقد ساعدهم في ذلك موقف “علماء” الدين يزعمون أن القرآن فيه علم بالغيب خلطا بين الإعلام بوجوده والعلم بمضمونه. ولذلك فهم يزعمون أن تفسير الآيات النصية مغن عن البحث العلمي في الآفاق والأنفس فصارت المعرفة باللغة العربية كافية ليكون الإنسان “علامة” و”راسخا” وهو مجرد “مسجلة” محفوظات.
وإذن فلا فرق بين الفريقين. لذلك سميتهما “كاريكاتور الحداثة وكاريكاتور الأصالة”. كلاهما خراف وليس عالما. فالقرآن لم يقل إن تبين حقيقته يكون بتفسير آيات نصه بل هو يقول إن تبينها يكون برؤية آيات الله في الآفاق وفي الانفس أي في ما يشير إليه نص القرآن خارجه مجالا للعلوم والقيم.
ولما كانت الآفاق نوعان هما الطبيعة والتاريخ وكان الآيات فيهما هي القوانين والسنن فإن مجال البحث العلمي القيمي بات محددا في قوانين الطبيعة وسنن التاريخ. والأنفس هي الظاهرات التي تخضع للنوعين لأن الإنسان كائن طبيعي وكائن تاريخي وهو خاضع لقوانين طبيعية لسنن تاريخية ومشروط بعلمهما.
ولست بحاجة للتدليل على ذلك. فالقرآن هو نفسه لا يستدل بغير ذلك. فهو لا يستعمل المعجزات الخارقة للعادة كما في الأديان التي يرويها في قصصه بل هو بالعكس منها يستعمل النظام الطبيعي والنظام التاريخي والنظام الجامع بينهما أي نظام الأنفس لتكون مقدمات أدلته على وجود الله ووحدانيته.
وإذا بحث أي إنسان نزيه في تاريخ الأديان والفلسفات فإن سيعترف بأنه لا يوجد دين أو فلسفة تنافس القرآن في ذلك بل كلها دونه قدرة على مثل هذا الاستدلال وهو ما يجعلها ترتمي مباشرة في الكلام على الإعجاز بخرق العادات بدلا من الاعجاز بالنظام: معجز القرآن هو الاستدلال بالنظام وليس بخرقه.
فكان من الواجب إذن ألا يكون الرد على الخطأين القديم (محاكاة أفلاطون وأرسطو) والحديث (محاكاة هيجل وماركس) بمواقف قبالة مواقف لأن الأمر يكون في الحالتين وكأنه معاندات بين صفين كلاهما لا يطلب الحقيقة بل يغرق في منطق التغالب. وهو خروج على مبادئ سورة العصر الخمسة المحررة من الخسر.
وأول أمر فيها هو تعريف الخسر. فهو النكوص عن التقويم الأحسن (خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين). وهذا النكوص هو توهم الإنسان ذاته ربا فيطلق إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده لكأنه هو رب الكون وذلك هو الطاغوت الذي تبين الرشد من الغي يقتضي الكفر به شرطا في الإيمان.
فإذا حصل ذلك أمكن لفروع الوعي المخرج من الخسر أو النكوص إلى أسفل سافلين أن تتحقق وهي: - الإيمان
- والعمل الصالح للفرد المسلم.
- ثم التواصي بالحق للجماعة من الأفراد المسلمين طلبا للحقيقة
- والتواصي بالصبر لهم سعيا لتحقيقها.
ذلك هو ما ينبغي أن نحققه لنستأنف دورنا الكوني.