لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهدلالة
تكلمت على الانقلاب على الدستور السياسي القرآني في بعد الحكم وفلسفة العمل بما يكفي واشعر أن الانقلاب على الدستور القرآني السياسي في بعد التربية وفلسفة النظر لم ينل حظه من العلاج الفلسفي خاصة والجمع بين الديني والفلسفي في محاولاتي قد يظن مفسدا لكلى المنظورين.
لابد من العودة إلى المسألة بتدقيق أكبر واعمق. فمثلما أن ثورتي الإسلام تبدوان غير قابلتين للتصديق عند أدعياء الحداثة-الحرية الروحية أو التخلص من الوساطة الروحية لنظام التربية الكنسي والحرية السياسية او التخلص من الوصاية المادية لنظام الحكم بالحق الإلهي-فذلك في فلسفة النظر والعمل.
وستكون هذه العودة فلسفية خالصة وتتعلق بالمسألة الابستيمولوجية: فعندي أن كل المسألة صادرة عن الرؤية الابستيمولوجية التقليدية التي تجاوزتها الفلسفة الحديثة والتحقت بما سبقها إليه الدين عامة والدين الإسلامي خاصة. وأقصد بالابستيمولوجيا التقليدية القول بنظرية المعرفة المطابقة.
ما أظن احدا له اطلاع على الابستمولوجيا الحديثة يسلم بأن علم الإنسان له القدرة على النفاذ المطلق الذي يحقق التطابق بين ما في علمنا وما في الوجود في ذاته بصرف النظر عن المنظور الذي ينطلق منه العلم بوصفه نافذة إلى ما يتجلى منه للإنسان بتدريج لا يتناهى دون ضمان المطابقة المطلقة.
مجرد تطور المعرفة دليل قاطع على أن هذا المطابقة غاية لاتدرك فعلا أو على الأقل توقعا كتال عما يفيده التطور الدائب لمعرفتنا التي أحيانا تنتهي إلى انقلاب تام على ما كان سائدا مما نظنه علما نهائيا. وفي ذلك غنم كبير لأن التواضع الناتج عن نسبية علمنا هي شرط التقدم والتعاون بين العلماء.
والحصيلة هي أن الفلسفة الحديثة وخاصة بعد النقد الكنطي انتهت إلى ان نظرية المعرفة المطابقة لم يعد أحد يقول بها وأصبحت نسبية إلى تطور مدارك الإنسان حتى لو لم نقل بما يقول به كنط من حصر المعرفة في مظاهر الوجود دون نفاذ إلى ما يسميه الوجود المعقول (النومان) للشيء في ذاته.
والمشكل الذي يعنيني لا يتأتى من هذين النوعين من نظرية المعرفة-المطابقة أو الزعم بعلم الشيء على ما هو عليه في ذاته ونفي هذه المطابقة واعتبار المعرفة نسبية إلى الذات العارفة-بل من كون الفكر الإسلامي في علوم الملة الخمسة صار محاصرا بينهما ويخبط خبط عشواء.
وسأبدأ أولا بالمرحلة الأولى التي كانت نظرية المعرفة المطابقة مسيطرة على الفكر الفلسفي الموروث وعمت بالتدريج على الفكر الديني في علوم الملة الخمسة أي الفقه وتأصيله والتصوف وتأصيله والكلام وتأصيله والفلسفة وتأصيلها وأصلها جميعا تفسير القرآن والوجود وتأصيلهما: الجرأة على آل عمران 7.
بدأت المسألة مع ارسطو: ففي مقالة اللام من ما بعد الطبيعة وصف أرسطو علم الله بكونه مقصورا على علم ذاته لا يتعداها. فلا علم لله بالعالم كليه وجزئيه لأن العلم التام مطابق للموضوع التام وهذا لا ينطبق إلا على الله علما موضوعا للعلم: العقل يعقل ذاته ولا شيء سواها للتطابق بين التمامين.
وكل ما عدى الله فالعلم والمعلوم كلاهما ناقص بما في ذلك السموات التي ما فوق القمر رغم كونها أتم ما في الطبيعة. والإنسان له القدرة على علمها المطابق للتطابق بين عقله ومعقوله حصرا في الكليات والذاتيات مع استثناء الاعراض غير الذاتية لكونها لا تنحصر.
ثم حصل تقدم عند ابن سينا الذي نسب إلى الله العلم بالكليات التي توجد في العالم ولم يعد عند علمه مقصورا على ذاته. لكنه استثنى معرفة الجزئي من علم الله. وحتى نفهم ذلك فالكلي مفهوم متعين في الأعيان التي تنتسب إلى ما صدقه. وإذن فالله رغم إطلاق علمه لا يتجاوز علمه النوع إلى العدد.
وواضح أن ابن سينا تجاوز أرسطو بقوله إن الله يعلم كليات الموجودات العالمية ولا يقتصر علمه على ذاته دون سواها لكنه بقي أرسطيا في القول إن العلم لا ينزل دون الكلي وشكله الاخير أي النوع بعد الجنس ولا يصل إلى العدد الذي هو العيني من الكلي: عناصر ماصدق المفهوم بأعيانها.
مثال ذلك أنه يعلم الإنسان كنوع -جنسه الحيوان وفرقه النوعي الناطق-ولا يعلم زيدا أو عمروا إلا بما يشترك فيه مع جميع البشر أي الحيوانية والناطقية لأن بعد ذلك نجد الأعيان التي لا يحصرها حد ومن ثم فالعلم يكون بالماهيات وليس بالإنيات التي تدرك بالحواس لأن العدد يشار إليه ولا العلم.
لذلك كان أهم إشكالية في ابستيمولوجية أرسطو هي التالية: لا علم إلا بالكلي ولا وجود إلا للعيني. وكان حله أن الكلي حال في العيني وبذلك اختلفت ابستمولوجيته عن ابستيمولوجية أفلاطون الذي يعتبر الكلي نفسه ذا وجود فعلي وعيني في عالم المثل وما يوجد في عالمنا نسخ منه انحطت بالتمدد.
وبنحو ما يمكن القول إن الابستمولوجيا القديمة والوسيطة لا تقول بالمطابقة حقا بل هي تقول بأن المعلوم في الوجود هو جوهره وما عداه ليس من جوهره هي أعراض غير الذاتية: نفي حقيقة الاعراض غير الذاتية Accidents non essentiels لموضوعها بل هي ذاتية بالمعنى الحديث Impressions subjectives.
حصل تدرج إذن في نظرية المطابقة:
علم الله لذاته دون سواها للتطابق بين تمامين في العلم وفي المعلوم (ارسطو)
علم الإنسان للكليات الماهوية والعرضية الذاتية دون ما به يتعين العدد بعد النوع (أرسطو)
علم الله للكليات الماهوية والعرضية الذاتية دون ما به يتعين العدد (ابن سينا).
وبذلك فابن سينا أوجد علاقة بين النوعين من العلم: علم الله المطابق بإطلاق لتمام علمه وذاته وعلم الإنسان المطلق المطابق لموضوعه كذلك لأن علمه به يمر بالكليات والذاتيات التي يعلمها الله كذلك فيكون علم الموجود العالمي وسطيا بين العلمين علم الله وعلم الإنسان.
ولما كانت فلسفة ابن سينا هي التي سيطرت على الكلام وما عداه من علوم الملة فإن ما كان مجرد ممارسة أساسها الضمني هو هذا الحل السينوي أصبح ممارسة صريحة وبات القول بالمطابقة ذا دلالتين: مع الموجود ومع علم الله له أو وحدة العلمين بالموجود في الطبيعة وفي العناية (مصطلح سينوي).
وهذه الابستمولوجيا سيطرت على القرون الوسطى كلها اسلامية كانت أو مسيحية لتجانس الرؤية المعرفية الموروثة عن الفلسفة في صوغ ابن سينا والغزالي(المتأخر بعد تخليه عن نزعته النقدية وتبنيه السينوية)وهو الصوغ الذي رفضته المدرسة النقدية الإسلامية: الغزالي الاول وابن تيمية وابن خلدون.
ولهذه العلة اعتبرت هذه المدرسة قد أعادت النظر في نظرية العلم ونظرية العمل: فقالت بأن المطابقة مستحيلة وقالت من ثم بأن العمل قابل للعلم مثل النظر وأن علم الشرائع (العمل) رغم أنه أكثر تعقيدا من علم الطبائع فإنه ممكن كذلك وإن بقدر أدنى منه. وما كان مستحيلا بات ممكنا: علم التاريخ.
فمن يتوهم أن ابن خلدون يمزح عندما قال إن سر ثورته في تأسيس علم العمران البشري والاجتماع الإنسان هو ما جله ينقل التاريخ من فن الأدب (بمعناه العربي القديم: ايام العرب) إلى فن الحكمة أو الفلسفة. وذلك أمر كان مستحيلا في الأبستمولوجيا اليونانية والسينوية لما سأبين من العلل.
صحيح أن لليونان مؤرخين كبار. لكن الابستمولوجيا اليونانية عامة والأرسطية خاصة ومعها ابستمولوجيا فلاسفتنا التقليديين من الكندي إلى ابن رشد كانت تنفي كل إمكانية لجعل التاريخ علما: فهو عند أرسطو دون الشعر قابلية للانتساب الى العلم: فليس موضوعه الكلي المضطر ولا الكلي الممكن.
فهو كلام في العيني العرضي أو اللقاء الاتفاقي بين أحداث عينية لا تقبل الحصر ولا ترد إلى الطبائع وآخرها الكلي النوعي وما دونه عددي وليس نوعيا ولا جنسا ولا حتى تناسبا في علاقات التناسب الوجودي بتناظر النسب بين الظاهرات. فما لا يقبل الرد إلى الطبائع حكمة عملية لا ترقى إلى النظرية.
وسر الدور الذي أنسبه إلى المدرسة النقدية العربية (انظر ضميمة المثالية الالمانية الشبكة بيروت) هو تحرير النظر من إطلاق المطابقة وتحرير العمل من دعوى العرضية غير القابلة للحصر ما جعل الحد من إطلاق علم الطبائع والرفع من مستوى علم الشرائع يلتقيان في ابستمولوجيا الفلسفة الحديثة.