دلالة الاضراب العام، هل صار الانتقال الديموقراطي في خبر كان؟

) وخاصة من يحاول بيان فشـله بحجة فقدان الاتحاد العام التونسي للشغل جماهيريته يخطئ مرتين:

  1. فأولا هذا الرأي يكون ذا معنى لو كنا في دولة ديموقراطية يمكن فيها لحكومة شرعية أن تنفذ القانون بالعنف الشرعي فتحول دون الأقليات بجعل مطالبها الفئوية سلاحا سياسيا. وهذا ما يهمله المحللون.
  2. وثانيا وهو الأخطر هو عدم فهم دور الأقليات في مثل هذه الحالات -عندما تكون الدولة عاجزة عن استعمال قوة القانون كالحال في الوضعيات الهشة دائما- فإن ما تحتاجه الأقليات الفئوية ليس الجماهيرية لإيقاف دواليب الدولة بتسييس مطالبها بل يكفيها غطاء شبه شرعي.
    وهذا هو المهم في دور الاتحاد في كل تاريخه.
    ولست بذلك أعني الجماهرية ليست مهمة بل أنفي أن يكون التأثير لا يستمد إلا منها.
    ولأثبت ذلك سأضرب مثالين من تاريخ دور العمال في تونس تبين أن الجماهيرية ليست هي المؤثر الوحيد ولا حتى الغالب في تحديد وزن الاتحاد السياسي لأننا لسنا في دولة ديموقراطية يكون فيها للجماهيرية وزنا سياسيا بسبب الحاجة إلى القاعدة الشعبية في الانتخابات.
    • المثال الأول هو علة انتصار بورقيبة على الثعالبي.
    فالأخير كان يعتمد على العلاقة “خاصة عامة” بالمعنى التقليدي حيث تكون العامة تابعة للخاصة.
    لكن الأول قلب هذه العلاقة فاعتمد على “الدوكارات” أو العامة التي صارت تقدم قادة المصلحة المادية على طاعة قادة المصلحة الروحية: اعتمد على تغير في الذهنية ربما بسبب ثقافته الفرنسية وما شاهده من دور للعمال.
    فليس صحيحا أن من استعملهم بورقيبة ضد الثعالبي كانوا يمثلون أغلبية ولا أن بورقيبة هو الذي أسس سياسة الاتصال المباشر مع الشعب.
    فالـ”شعب” التي كانت موجوده قبله تقريبا في كل مدن الإيالة حينها.
    ما كان مؤثرا هو نوعية العلاقة بين القيادة والقاعدة: بورقيبة كان يبحث عمن يقدم على تجاوز طاعة الأعيان.
    فالمتجاوزون لطاعة الأعيان هم من يستطيع الفعل بالفوضى لمنع طاعة الأعيان في أي اتصال جماهيري بالشعب. ولهذه العلة خسر الثعالبي قدرته على تنظيم نشاط الحزب رغم أنه كان أكثر جماهيرية من بورقيبة.
    ونفس الأمر تكرر مع صالح بن يوسف.
    وموقف بورقيبة في قضية الاستقلال كان أقليا وسنده النقابي هو علة نجاحه.
    • لكن ينبغي أن نضيف عاملا آخر: فلو لم يكن الحكم في الصدام الأول بين بورقيبة والثعالبي مؤيدا لبورقيبة لخوفه من البعد الإسلامي في حركة الثعالبي لما استطاع صف بورقيبة ربح المعركة.
    ونفس الأمر تكرر بينه وبين ابن يوسف لأن الحكم كان يريد التصدي للقومية والناصرية وعدم الانحياز والمطالبة بالمقاومة الشاملة في المغرب الكبير.
    فـمن كان يمكن أن يحول دون الأقلية ومنع الأغلبية من القرار في مؤتمر صفاقس هو اتحاد عاشور وتراخي السلطة الفعلية التي كانت أميل إلى بورقيبة.

لو قسنا اليوم على هذين المثالين: لقلنا إن الاتحاد لم يعد جماهيريا بالقدر الذي كان عليه وهو تقريبا في وضعية شبيهة بالتي كان عليها في المثالين وقد تكون أفضل بقليل.
لكن المناخ العام في ما بعد الثورة هو أن الاتحاد يضفي الغطاء شبه الشرعي لقوى سياسية تمثل أقليات فاعلة بسب هشاشة الدولة التي لا تستطيع تطبيق القانون بالقوة الشرعية. وهذا هو المؤثر.
قد يكون المعارضون للاتحاد في حلف حكام القصبة اليوم أكثر شعبية وجماهيرية لكنهم أعجز من أن يفعلوا شيئا لأن الأقلية الفاعلة فيه اليوم تستمد من مظلته شرعية إيقاف دواليب الدولة ولا يستطيعون ضدهم شيئا بشرعية القانون. ذلك أن الديموقراطية لم تستقر بعد وليس للقانون قدرة التنفيذ.
من لم يأخذ هذه المعطيات بعين الاعتبار لن يفهم شيئا مما يجري.
والمعلوم أن الإفساد أيسر ألف مرة من الإصلاح بصرف النظر عمن معه الحق.
ليس همي هنا الكلام في الأحقية. والمعلوم أني لست مؤيدا للحكومة إذ كتبت نصين لأبين أنها غير شرعية ومضرة بالانتقال الديموقراطي لكني أريد بيان خطأ من يتكلم على الجماهيرية.
لكن ذلك لا يعني أني اقبل بفوضى الشارع وتغيير الحكومات بمثل هذه المناورات.
وواضح أن السبسي لجأ لنفس خطة بورقيبة باستعمال الاتحاد والأقليات الفاعلية ومعنى ذلك أن ثلاثة قوى سياسية تستظل اليوم بمظلة الاتحاد:

  1. القوميين
  2. واليساريين
  3. وما بقي من النداء.
    لكن يمكن القول إن ثلاث قوى سياسية أخرى مؤلفة من أقليات تدعي أنها تأهلت للحكم بل وأنها أكثر اهلية يمكن أن تلتحق بها فتكون ستة:
  4. والقوة الأولى هي يمثلها حزب البسكلات
  5. والثانية حزب بقايا حزب الشابي
  6. والثالثة يمثلها فريق الخارجين عن المرزوقي (80 “زعيما”).
    وإذا نجح السبسي في ترضية الأحزاب التي تصف نفسها بكونها بورقيبية وهي ثلاثة إن لم تخني الذاكرة ومعها بقايا الثالث من الترويكا -التكتل-فتصبح القوى السياسية التي تعارض الحكومة عشرة قوى وهم يعتبرونها نهضوية معادلة إن لم تكن أكثر جماهرية من الحلف الحاكم.
    فيجتمع في الحركة التي تريد إسقاط الحكومة العاملان:
    • الجماهيرية
    • وفاعلية الأقلية التي وصفت.
    وذلك عينه ما توقعته لما كتبت في تنبيه الإسلاميين ونصحتهم بعدم الدخول في معركة النداء.
    ذلك أن السبسي ليس له إلا وسيلة واحدة لربح المعركة الأخيرة في حياته: إعادة تكوين جبهة والاستعانة بالثورة المضادة لأنهاء ما لا يستطيع إنهائه بالنداء أي القضاء على “حالة” انتقال ديموقراطي شاذة بين العرب.
    ولا أريد أن أتكلم عن المسؤوليات في حصول هذه الوضعية.
    فهذه مسألة أخرى سبق أن تكلمت عليها.
    لكني بت واثقا من أن ما يسمى بالانتقال الديموقراطي انتهى في تونس أو هو يحتضر.
    وذلك ما كنت أخشاه وأحذر من علامات شروعه في الحصول وأولها وأوضحها البلديات والتسرع غير المفهوم من الكلام على مآلات انتخابات 2019.
    وآمل ألا تعوضه الفوضى لأن القوى التي ستجمعها الجبهة الجديدة لا يجمعها إلى عامل واحد سلبي هو “كره” ما يسمونه الإسلام السياسي ممثلا بالنهضة. فوحدتهم أساسها سلبي. وإذا تمكنوا من القضاء الإسلام السياسي كما يصفونه فسيقضون على عامل وحدتهم الوحيد.
    فيكون السبسي بعقلية الانتقام قد تخلى عن مسؤولية رجل الدولة لـيحقق عكس ما يسعى إليه فما سيحصل هو ما سيحول نهائيا على بعث البورقيبية.
    فلا يمكن لبقايا النداء أن تصمد أمام الجبهة الشعبية (القوميون واليساريون).
    ولن يبقى الاتحاد رهن حزب لا قوة له ولا شرعية كما كان الامر في عهد بورقيبة لأنه حتى في هذا العهد مد يده “للزنبيل” واراد عاشور أن يكون رئيس الجمهورية فحدث الما حدث سنة 1978. وحزبه ليس له شرعية حزب بورقيبة ولا قوة مافية ابن علي. وإذن فهو سيسلم البلد للمجهول.

واعتبر أنه ليس المسؤول وحده.
فلقيادات النهضة في ذلك نفس القدر من المسؤولية. هو دفعهم بكثرة الابتزاز إلى إرادة فض التوافق وهم دفعوه بالتدخل في أزمة حزبه إلى فضه بالفعل.
وكان ينبغي أن يتواصل التوافق إلى أن يستقر الأمر فيتعود التونسيون على الاعتراف المتبادل بعضهم بالبعض فينتقلون إلى التداول السلمي على الحكم.
ولهذه العلة كنت ولا زلت دائما مؤمنا بأن تونس لن تخرج من هذه الوضعية بدون وحدة صلبة بين فرعي حركة التحرير إلى أن تنضج العقليات فتصبح قادرة على احترام قواعد الديموقراطية. وما حدث في التغيير الحكومي كان كما بينت سابقا خرقا بينا لأهم قاعدة ديموقراطية: لا تتغير الاغلبيات بين الدورتين إلا بطريقة واحدة العودة إلى الناخبين.
ما عدى ذلك يسمى انقلابا سواء كان أبيض أو أحمر.
أعلم أن النخب التي لا تميز بين التحليل العلمي المبني على فهم معنى الديموقراطية والتبرير الأيديولوجي لخيارات الأحزاب واللوبيات ولست مهتما برأيهم فجلهم يجهل القانون الدستوري بمن في ذلك من عرفوا بكونهم أساتذة كبار فيه ولم ينتبهوا إلى هذا القاعدة الجوهرية التي من دونها لا يمكن أن يوصف أي حكم بالديموقراطي.

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي