دغمائية فلاسفتنا القدامى والمحدثين – الفصل الخامس

**** دغمائية فلاسفتنا القدامى والمحدثين

وصلنا إلى غاية البحث في الفصل الخامس والاخير للكلام على كتاب ابن رشد (فصل المقال وضميمته) وكتاب مناهج الادلة. فالأول فتوى لإضفاء الشرعية على الفلسفة وأداتها المنطقية والضميمة حل جدلي لعلم الجزئيات والأخيرة في الرد على الأشاعرة. وكلها مبنية على مبدأ واحد: المطابقة مع الحقيقة. هذا المبدأ الواحد استوجب القول برد الديني إلى الفلسفي بالتأويل ومن ثم الخروج من مأزق آل عمران 7 بحل جدلي لا يقبله عقل وهو مصادرة على المطلوب بأن جعل الراسخين في العلم معطوفة على وما يعلم تأويله إلا الله بادعاء أن الإيمان المشار إليه هو الخاص بالراسخين في العلم وليس الشامل للكل. وأغقل عموم المنع قبل حصر التأويل في الله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} فمن يبتغي تأويله وصفته الآية بزيغ القلب وابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل”. ثم يأتي حصر التأويل في الله وحده. فلا يكون الراسخ في العلم هو يؤول بل من يؤمن بالمتشابه دون تأويل لأنه من الله مثل المحكم. والتمييز بين ايمان الخاصة وإيمان العامة جعل حكم تأويل المتشابه يستثني الخاصة ويجعل تأويلهم معطوفا على تأويل الله. وهذا هو أساس القول بالمطابقة في المعرفة: الراسخ يعلم الوجود على ما هو عليه. والضميمة لا تستحق النقاش لأن استدلاله فيها مصادرة على المطلوب. وهي تطرح من المشاكل أكثر مما تحل مشكل علم الجزئيات والتغير بين ما قبل الوجود وما بعده. وبين انها من طبيعة كلامية لأنه لا يستطيع الاعتماد فيها على ارسطو الذي ينفي حتى العلم بالكليات عن الله فضلا عن الجزئيات. فإله أرسطو لا يعلم إلا ذاته ولا يعلم ما في دون دونه فذلك يجعله حسب نظريته يتدنى إلى معلوم لا يليق به أن يعلمه ولا أن يعنى به. وهنا تتبين الطبيعة الكلامية لخطاب ابن رشد بوضوح في هذه المسألة. ونأتي أخيرا لكتاب مناهج الادلة فلا يوجد في الفلسفة دليل واحد على مسائله أفضل جدليات الكلام. فهي كلها مسائل من الغيب أو من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله وكل ما يقدمه ابن رشد مبني على التسليم بنظريات أرسطو وفيزيائه برؤية قائلة بالمطابقة بمعنى أنه يعتقد -كما يعتقد الجابري الذي يرى رايه-أن العلم برهاني خالص وليس بشرط مقدماته المؤسسة جدليا في التحليلات الأواخر فلو أخذت قضية كلية موجبة (بربرا) كل أ هو ب وكل ب هو جم إذن كل أ هو ج. تقبل من حيث الشكل الصوري للعلاقة بين الحدود الثلاثة دون تعيين. لكن بمجرد أن أعوض المتغيرات في القياس يصبح من الواجب أن تكون القيم التي أضعها محل الحروف المتغيرة مطابقة لحقيقة الشيء في ذاته. وحقيقة الشيء التي أصوغها بحده فأضعها في محل المتغيرات استمدها إما بما يسميه أرسطو “حدس” الماهيات في الفصل الأخير من التحليلات الأواخر أو من التحديد الاستقرائي. ولا شيء يضمن أن يكون الحد مطابقا للمحدود إلا بالتسليم بنظرية الجواهر الثواني والذاتيات. وهي كلها مسلمات ميتافيزيقة. وذلك هو القصد بأن البرهاني شرطي. إذا صح أن الحد مطابق للمحدود سواء أدركناه بالحدس الأرسطي أو بالاستقراء وهو الغالب في تعريف الاشياء صح على المتغيرات ما يصح على قيمها المطابقة التي نعوضها بها في القياس. وهنا المشكل: ولهذا يقصر ابن تمية البرهان على المقدرات الذهنية. وتلك هي علة نقده للمنطق فهو لا يرفض المنطق الصوري الذي يعتبره جزءا من الرياضيات بل هو يرفض أن يكون كافيا للبرهان في علم الموضوعات الخارجية التي لا تعلم إلا كقيم تعوض متغيرات القياس في المنطق الأرسطي وهذه القيم المعوضة لا تدرك إلا بالتجربة التي ليس فيها كلي إطلاقا. ومن هنا يستنتج أن علم الموجود الخارجي يجمع بين المقدرات الذهنية التي فيها الكلي والبرهاني لأن المتغيرات من خانات خالية لا تصبح علما إلا عندما تملأ بقيم مستمدة من التجربة القيم المستمدة من التجربة ليست كلية بل هي جزئية دائما وهي لا تحيط بالموضوع فلا تكون المطابقة ممكنة أبدا. وإذن فنفي المطابقة ليس مقصورا على الغيب بل حتى علم الشاهد فالمطابقة فيه مستحيلة لأن كل تصور يمكن أن نتجاوزه إلى تصور أتم وذلك دون نهاية معلومة حتى لو كانت موجودة. وهذا هو سر التطور العلمي في كل المجالات باستثناء العلوم التي موضوعها مقدرات ذهنية لأن موضوعها من “صنعها”. والحصيلة أن الكتابين والضميمة كتب كلام وليس كتب فلسفة حتى بمعايير ابن رشد. ذلك أن الموضوعات التي تتكلم فيها كلها موضوعات كلامية باستثناء فتوى تحليل الفلسفة وأدواتها التي هي فقهية وليست فلسفية. هي إذن ثلاثة أعمال يباهي بها الرشديون وهي كلامية وليست فلسفية. واساسها هو نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة وهو أساس مشترك مع الكلام والفلسفة والخلاف الوحيد هو المحافظة الشكلية عند المتكلمين لبعض المسائل التي تعتبر من النقليات المطلقة والإيمان وليست موضوع علم مثل مقادير الصلوات وأوقاتها إلخ.. لكن مسألة الرد بالتأويل مشتركة بين الرؤيتين. ولا يمكن أن يقبل الرد بالتأويل من يؤمن بالغيب أولا ومن لا يؤمن بالمطابقة. فما يرد إليه ليس أي علم بل العلم الذي يزعم مطابقا للحقيقة التي تعتبر واحدة في الفلسفة وما وافق من الدين هذه الفلسفة. ومعنى ذلك بالنسبة إلى ابن رشد ما لا يوافق فلسفة أرسطو من الإسلام ينبغي تأويله ورده إليه. فتتعين عبارة الراسخين في العلم في الراسخين في العلم الأرسطي وهو تقريبا ما يقصده أي ماركسي ينقد الدين لأنه يعتبر نفسه راسخا في العلم الماركسي. وهذا الرسوخ يقتضي أن يكون العلم محيطا بالموضوع الذي هو شفاف بإطلاق وأن يكون الموضوع كله من عالم الشاهدة فلا يبقى معنى للكلام على الدين. فلو كان الوجود شفافا وكان العقل نفاذا وكان العلم محيطا لاستغنينا عن التشوف إلى ما وراء المعلوم ولكان المعلوم كله حاصلا فلا يبقى من الوجود إلى المشهود ويكون كله مردودا إلى إدراكنا. ولا يمكن أن يقول مثل هذا الكلام من ليس بحق مجنونا يتصور زاده المدقع من المعرفة علما لدنيا مطلقا. ولا تعجب عندئذ ألا يفهم قائل ذلك معنى “طور ما وراء العقل” الغزالية ولا “الشيء في ذاته” الكنطية ولا “وراء كل تصور تصور أتم” التيمية ولا “الوجود أوسع من الإدراك” الخلدونية ولا “العجز عن الإدراك إدراك” الصديقية (ابو بكر) ومن ثم فنحن أمان متعصبين للجهل وليس للعلم. وهؤلاء كمن يسحب الصكوك دون رصيد متصورا أن زهادة رصيده هي كل الأرصدة الممكنة. لكن العلم متكامل وهو لن يكمل أبدا مهما كان موضوعه تافها ناهيك عن الموضوعات العليا التي من جنس مسائل الدين والمعرفة والعمل والأخلاق والسياسة وخاصة علم العلم أو نظرية المعرفة وشروطها. ولان مثل هذه الثقافة سيطرت على المجال الفكري العربي بات كل زهيد العلم أكثر الناس تنطعا وجرأة على أمثال الغزالي وابن تيمية وابن خلدون. فصار أي خريج مؤسسة تقليدية في الكلام أو الفقه أو الأديب اقصى ما يمكن أن يكون مجرد صحفي طبال أو داعية دجال يتكلم فيهم بجرأة ووقاحة. طبعا ليست ضد حرية الراي وتعدد الأحكام لكن لا بد من احترام عقد الشرف بين الباحثين حتى لا نفسد جدية البحث العلمي والاجتهاد الفكري فنبني أمجاد على صور سطحية لا تستند إلى الفن بشروطه وقواعده بل على آراء ذات دوافع إيديولوجية مادحة أو قادحة لا صلة لها بالعمل العلمي في المجال. لو اكتفوا بالقول إن ابن رشد شارح كبير لما اعترضت على ذلك رغم أن الشارح من المفروض أن يكون شرحه مستندا إلى آخر مراحل البحث في موضوعه وليس مكتفيا بما حدث قبله بـ16 وما بعدها بقليل. ولو اكتفوا بالكلام على الغزالي وابن تيمية من حيث علمهما لما اعترضت أما الاقتصار على تصنيفهما فسخف. لماذا عندئذ لا نعتبر تصنيف أنظمة الثورة المضادة لكل من لا يتبعهم في التطبيع مع إسرائيل بالإرهاب علما فيكون ابن تيمية بمجرد تصنيفه اصلا للإرهاب جاهل ويكون الغزالي لمجرد تصنيفه عدوا للفلسفة والتنوير لأنه ظلامي مغنيا عن علمه وهكذا يصبح فن التصنيف الإيديولوجي جوهر النقد العلمي. فلا فرق عندي بين أحكام بشار والسيسي وأمراء وحكم العرب على من لا يوافقهم على جرائمهم وأحكام الحداثيين التابعين لهم على من لا يماشي رؤاهم السطحية في دور الفلاسفة العرب فيلغي الغزالي وابن تيمية لانهما في عرفهم ظلاميون ويصبح ابن رشد بمجرد شرح أرسطو فيلسوفا تنويريا عبقريا. فكيف يمكننا في هذه الحالة أن نصلح نظامنا التربوي وأن تراجع تاريخنا الفكري إذا كان المعيار مقصورا على التصنيف والاقصاء بمقتضاه دون اعتبار لما أضافه من نتكلم عليه فنقصي صاحب الدور المبدع ونعلي ممن يخدم ركاب من بيده التصنيف سواء كان حاكما أو من خدمه وطبالته؟

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي