منذ أن قرأ اليساريون العرب كتاب أرنست بلوخ (اليسار الارسطي ومحاضرته حول ابن سينا) وقبله كتاب صاحب الرشدية اللاتينية تكونت مدرسة رشدية عربية تزعم أمرين كلاهما لا يصدقه عاقل: 1. أن ابن رشد تنويري وفاصل بين الدين والفلسفة. 2. وأن له دورا في تأسيس الحداثة الغربية وأهل لأن يؤسس حداثتنا. ويلازم هذين الزعمين نظيران هما: 1. أن الغزالي ظلامي وخالط بين الدين والفلسفة. 2. وأن كل من نقد الفلسفة من مفكري الأمة ينبغي نبذهما لأنهما يحولان دون التحديث. ولما كنت أرفض ما يزعم حول دور ابن رشد وأكثر ميلا لنقاد الفلسفة في تاريخ فكرنا فقد اشتهر بينهم أني ظلامي وعائق أمام حداثتهم. وأشهد أنه إذا كان ابن رشد تنويريا ومؤسسا للحداثة الغربية وقابل لأن يؤسس حداثتنا فإني أسلم بتفضيل الظلامية الغزالية والتيمية والخلدونية على حداثة زملائي عباقرة الحداثة الرشدية ونظيرتها اللاتينية والماركسية ليقيني أن من يقول ما يقولون في ابن رشد والحداثة إما لم يقرأ أو لم يفهم. ولو كان الأمر متعلقا بموقفهم مني لما استحق الأمر أن أتكلم فيه. لكن الأمر أخطر بكثير لأن نسبة هؤلاء الحداثيين إلى الفلسفة الحديثة عامة وإلى الماركسية خاصة مجانسة تماما لنسبة فلاسفتنا القدامى إلى الفلسفة القديمة عامة وإلى الارسطية خاصة: دليل فقدان خاصيات الفكر الفلسفي بالكلية. فما قاله الفارابي في كتاب الحروف عن العلم الارسطي “العلم اكتمل ولم يبق إلا أن يتعلم ويعلم” يمكن لأي حداثي عربي أن يقوله عن العلم الماركسي” العلم اكتمل ولم يبق إلا أن يتعلم ويعلم”. والعلة واحدة وهي القول بنظرية المعرفة المطابقة بفرعيها: الوجود مطلق الشفافية والعقل مطلق الإدراك. وتلك هي علة موقفهم من الدين ترتبا على هذا الوهم: الحقيقة واحدة وهي حقيقة الوجود التي يدركها العقل الإنساني إدراكا مطابقا لأن “الواقع” شفاف و”العقل” نفاذ. ومن ثم فما الدين مخالف لهذا العلم المطلق ينبغي أن يرد إليه بالتأويل تجنبا للصدام لأنه ظاهر من الحقيقة لمخاطبة العامة لا الخاصة. وما حاول ابن رشد بيانه بفتواه-فصل المقال-يحاول الجابري مثلا تكراره بنفس النسق-الثالوث المعلوم-متوهما أنه يوجد علم برهاني بالوجود الخارجي وأن كل ما يخالف هذا العلم البرهاني لا يساوي شيئا لأنه إما بياني أو عرفاني (الفرق الوحيد هو أنه وضع التصوف العرفاني بدل الكلام الجدلي). لو كانت الحداثة الغربية مزحة لصدقت أنها حصلت بمثل هذا الحل ولو كان علينا أن نكرر هذه المزحة لقبلت راي الحداثيين العرب. لكن الحداثة أمر جدي وما ينتظرنا أكثر جدية. فهي حصلت لديهم دون مزاحم حول شروطها المادية. أما نحن فدوننا ودونها ما لا يتناهى من المزاحمين الحائلين دون التحديث. وهذا هو دافعي للكلام في المسألة وليس موقفهم مني أو من محاولاتي إعادة النظر في تاريخنا الفكري الفلسفي والديني ومحاولة فهم علل الدغمائية الفلسفية التي سيطرت في الماضي وتعود للسيطرة في الحاضر خلطا بين السؤال الفلسفي والموقف الإيديولوجي بحيث إن معاداة الفلسفة علتها “عامية” الفلاسفة. فمن يعتبرون أنفسهم فلاسفة أكثر دغمائية ممن عادوا الفلسفة لأنها كانت بالصورة التي قدموها. فقد كانت موقفا باطنيا من الدين هو عينه اليوم وإن بصراحة أكبر وحل الجابري العائد إلى ابن رشد (مقدمة مناهج الادلة) تحاول الحل الوسط الرشدي الذي هو باطني في الجوهر لقوله بما يفيد نفي الغيب. فإذا كان الراسخون في العلم قادرين على التأويل مثل الله (آل عمران 7) لم يبق للغيب وجود ويكفي التأويل الفلسفي لرد ما يبدو غير مطابق لعلمها مطابقا له والتباسه مقصور على العامة لكن الخاصة تعمله وتستطيع رده لعلمها المطلق المطابق لحقيقة الوجود الشفاف أي لعلم أرسطو المزعوم برهانيا. وفي الحقيقة لا ابن رشد ولا الجابري يدركان أن علم أرسطو ليس برهانيا إلا شرطيا. ومعنى ذلك أن من لا يسلم لأرسطو ما أسس عليه علمه تأسيسا جدليا لن يقبل بعلمه إلا بوصفه جدلي الأسس ومن ثم فبرهانيته مشروطة بالتسليم بمقدماته التي ليست برهانية. وتلك علة إزالة ابن رشد لمقدمات ارسطو الجدلية. فما من علم وضعه أرسطو لم تكن مقدماته جدلية: فالسماع الطبيعي مقدماته جدلية والتحليلات الاواخر مقدماته جدلية والميتافيزيقا مقدماتها جدلية والمنطق مقدماته جدلية. وعند التسليم بالمقدمات التي اثبتت جدليا ولا يمكن أن تثبت بغير المقدمات الجدلية يأتي البرهان المشروط بها برهانا شرطيا. ما معنى البرهان الشرطي: هو إذا صح كذلك كمقدم النتيجة كذا كتال. والتسليم بالشرط حتى وإن عاجز المسلم غيره بالحجاج الجدلي فهو يبقى تسليما منه (بحجة عجز الخصم على إثبات عكسه) وليس دليلا برهانيا. ويكفي تأسيس التحليلات الاواخر: فالمنطلق هو لا بد من قطع التسليل والدور لبدء العلم. صحيح أن ذلك مما ليس منه بد. لكنه تسليم وليس برهانا. والتسليم يعني أن المقدمات الاولى مسلمات وليس حقائق والدليل انها تتغير عندما يتبين عجزها عن التفسير. وفقدان هذا المعنى هو علة الجمود المعرفي وتوهم الفارابي أن العلم قد تم ولم يبق إلا أن يتعلم ويعلم. والامر كذلك عند حداثيينا. ولو راجع فلاسفتنا القدامى مقدمات السماع الطبيعي مثلا لاكتشفوا أن ما تسلمه ارسطو على أنه الحقيقة ليؤسس عليه علمه الطبيعي كان ثمرة مفاضلة جدلية بين خيارات استعرضها على أنها أقوال سابقة لا تمكن من تأسيس علم الطبيعة. ثم قدم مسلماته التي تبين الآن أنها دون التي رفضها من مسلمات سابقة. من ذلك رفضه لنظرية الخلاء ونظرية العطالة ونظرية الذرة ونظرية الصوغ الرياضي التام للفيزياء إلخ.. وكلها صارت هي الأسس الضرورية للفيزياء الحديثة. لكن فلاسفتنا اعتبروا خيارات أرسطو حقيقة نهائية ولم يكتفوا بذلك بل اعتبروا ما في القرآن حقيقة شعبية لا بد من ردها إلى الحقيقة الارسطية. ومشكل الحداثيين مع الزوجين هيجل ماركس كمشكل القدامى مع الزوجين افلاطون أرسطو. لذلك فالحداثيون يكررون نفس أخطاء القدامى: يقولون مثلهم بنظرية المعرفة المطابقة ويعتبرون العقل نفاذا والوجود شفافا وما توصل هذان عندهم كما توصل إليه ذانك عند القدامى حقيقة تامة ونهائية “تتعلم وتعلم”. أما المغرمون منهم بالموضة الفلسفية فهم متأرجحون بين التأويليات الوجودية والتأويلات اللسانية حتى صاروا يغردون بما بعد الحداثة سواء كانت من جنس وجوديات جامعة بين النيتشوية والهيدجرية أو وسميات وسرديات “الأمريكان” عند بيرس ورورتي البراجماتيين. ولا يظنن أحد أن ما بعد الحداثة ليست قائلة بنظرية المعرفة المطابقة. هي قائلة بها لأن نفي الوجود القائم بذاته للمسرود وحصر الامر كله في السرد يعني أن السرد مطابق لذاته وفيه تناقض لأن المطابقة للذات ونفي المسرود المغاير للسرد يعني أن السرد له تطابق ذاته الساردة ذاته المسرودة. وحتى لو اعتبرنا الذات الساردة مترجمة للذات المسرودة فإن الفرق بين الترجمة والمترجم يبقى موجودا وهو عين عدم التطابق الذي نفته الفلسفة القديمة والذي ولد نفس الجمود المعتمد على وهم شفافية الموضوع ونفاذية الذات في ما بينهما من علاقة تطابق تام لا شيء يثبته عدا وهم الإطلاق المعرفي. وكل تحيل هيجل إلى استعادة نظرية المعرفة المطابقة والعلم المطلق أو ما يسميه بالجدل اساسه محاولة تذويت الموضوع ووضعنة الذات قياسا على علم الذات بذاتها-الشخص من حيث هو عالم بذاته هو في آن ذات وموضوع-حل فاشل: فالذات لا تعلم ذاتها علما تاما ومن ثم فالموضوعي فيها لا يطابق الذاتي. نعم أعلم ذاتي فأكون ذاتا وموضوعا لكن علمي بذاتي ليس مطابقا لذاتي كموضوع بل هو علم جزئي بل وكثير الجزئية والنقص إذ ما في ذاتي كموضوع بشبه اللامتناهي بالقياس إلى ما أعلمه من ذاتي بذاتي. وكل علوم الإنسانية لا تحيط بما بين الذات كوعي والذات كموضوع وعي لا يحيط به أي وعي. فينومينولوجيا الروحي لعبة جدلية لا تثبت شيئا وتأسيس فلسفة الدين عليها زعما بأن الإنسان يعلم الله بعلمه لذاته خرافة لأن الإنسان لا يعلم ذاته فضلا عن أن يعلم الله في ذاته. وعي بذاتي ليس علما بها بل هو مثل بصري بالعالم: مجرد نافذة ضرورية لوجودي في العالم وليست علما محيطا به. ما تعلمه الذات من أي موضوع لا يتعدى ما للذات فيه من مآرب. وما رواء مآرب الإنسان مستجيبة لحاجاته من العالم عوالم لا يدركها الإنسان مهما تقدم إدراكه ومن ثم فالوجود لا يرد إلى الإدراك كما يقول ابن خلدون وفضل الدين أنه يذكر بهذه الحقيقة: وتلك هي علة الإيمان بالغيب أو بمحدودية علمنا. وعلمنا بمحدودية علمنا له فضيلتان: 1. خلقية هي التواضع واعتبار ما نعلمه اجتهاد مؤقت وليس حقيقة نهائية. 2. ومعرفية هي التشوف الدائم لتجاوز ما علمناه وطلب ما لم نعلمه بعد فيكون ذلك سر تاريخية العلم والتقدم الدائم في تجويد معرفتنا بما يحيط بنا(الآفاق)وبذواتنا (الأنفس) نفيا للدغمائية.