**** دغمائية “أدعياء الحداثة” وتخلفهم معضلة الأمة الحضارية
ابدأ بتعريف من أسميهم “أدعياء الحداثة” الذين يقابلون “أدعياء الأصالة”، وهما وجها معضلة الأمة الحضارية. وقد سبق فاصطلحت على تسميتهما بكاريكاتور التحديث وكاريكاتور التأصيل. إنهم سلفية الحداثة في مقابل سلفية الأصالة بأفسد معنى للسلفية في الحالتين.
فالسلفية في معناها الأصيل ترادف الريادة، لأن السلف هو السبق حتى في المعنى الاقتصادي العامي كما في مفهوم “السلفة” التي هي تسبقة على أمل مستقبلي. وكلمة سلف تقال على الناقة التي تشرب قبل غيرها من النوق. ومن ثم فهي لحظة ماضية من تاريخ الجماعة، بل هي في كل لحظة من التاريخ رواد الآمة في تلك اللحظة بسبق يجعلهم مستقبلها حضاريا رغم أنهم يبدون ماضيها زمانيا.
فالذين يسبقون غيرهم في ما سيكون عليه مستقبل البقية يبدون وكأنهم من الماضي في حين أنهم هم ما سطر ما أصبح عليه مستقبل غيرهم. ولذلك فكلما عدنا إلى من يستحق هذا الاسم في الماضي، فالقصد ليس ما مضى من دوره بل ما بقي في دوره من مكمل للمشروع المستقبلي للأمة التي تراجع ذاتها باستعادة قراءة تاريخها بهذا المعنى.
ولما كان الكاريكاتوران سلفيين بأفسد معنى، فهم يمثلون الجمود وليس الريادة. تجمدوا في ما سنه سلف لم يعد لسبقه حياة في المستقبل لا عنده ولا عند غيره. وما يسنه سلف في ا لحال للاستقبال ينبغي أن يحدد آفاق المستقبل إذا كان لريادته دلالة ذات أساس في كيانه التاريخي الحي ومحيي كل المستقبل، وإلا فالمستورد تخل عن كيان وليس تجديدا له لأن استبداله بآخر جاهز دليل عجز عن الإبداع ناهيك عن الريادة فيه. إنه من علامات أرذل العمر لمن فقد شروط الحياة الذاتية وبات يعتبر ماضي غيره مستقبلا له. أدعياء الحداثة هم إذن مقلدون لماض مات. وهو ماض الغرب نفسه لم يعد يعتبره مستقبلا له فضلا أن يعتبر مستقبلا للإنسانية. إذا كان أصحابه يسعون لتجاوزه بمراجعة دائمة وحية فهل يعني ذلك أنه علينا أن نبقى وراهم دائما ننتظر ما يبدعونه لنحاكيه؟ لذلك فأدعياء الحداثة ليسوا اقل قابلية للوم من أدعياء الأصالة الذين يقلدون ما مات من ماضينا أعني قشوره وعلل انحطاطه متصورين أنه يمثل مستقبل المسلمين. كلاهما يعتبر محاكاة الميت من التراث ذاتيا كان أو أجنبيا يمكن أن يكون مشاركة في بناء آفاق الإنسانية وقيمها التي ينبغي أن تكون كونية والتي لا ينبغي أن تغيب في حضارة حية من حيث المعنى حتى وإن تعددت أساليبها من حيث المبنى. ولنا في ذلك مثال تعدد الألسن من حيث المبنى والمادة لكنها جميعا تؤدي نفس الوظائف بأساليب مختلفة ليست هي التي تبني الحضارات وإن كانت من معالهما الذوقية. لكن شروط بقائها تتعلق بما تقدمه من حلول لمقومي الإنسان من حيث مستعمر في الأرض (شروط بقائه العضوي) ومن حيث هو مستخلف فيها (شروط بقائه الروحي) أعني ما وصفه ابن خلدون بأجمل عبارة قيلت في تعريب الإنسان من منظور إسلامي “الإنسان رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” والقصد هو ما اصطلح على تسميته بـ”معاني الإنسانية” أي حرية الإرادة وحقيقة العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود.
الكلام موجه لأدعياء الحداثة:
واريد الآن أن أبين الأمر في حالة أدعياء الحداثة لأن أدعياء الأصالة نالوا حظهم في المحاولات السابقة وخاصة في ما يتعلق بما يسمونه علوم الملة وأعمالها، والتي بينا أنها هي أدواؤها وليست أدويتها. وسيدور الكلام حول خمسة مفهومات: • اثنان منها يمثلان البنية السطحية • واثنان البنية العميقة • والأصل هو الوصل بين البنيتين في معنى الحداثة الحالية وكلها تثبت بما لا يدع مجالا للشك أنهم كما وصفتهم أميون بأتم معنى الكلمة. وسأورد هذه المعاني بترتيب يذهب من البنية السطحية إلى البنية العميقة وفي كلتا البنيتين من الأكثر مباشرة إلى الأقل مباشرة:
تصوران يبرزان على السطح في فكر أدعياء الحداثة بفهم بدائي: 1. المفهوم الأول هو ما يتكلمون باسمه بوصفة موضوعهم الأول ويكثرون الكلام فيه بوصفهم المدافعين عن حقوق العمال: تصورهم للاقتصاد. 2. المفهوم الثاني هو ما يتكلمون باسمه صفة لما يدعون تمثيله بوصفهم مثقفين: تصورهم للثقافة التي لا تتجاوز “البيزنطيات” الأيديولوجية. وينتج عن التصورين السطحيين تصوران آخران هما العمق الفعلي للإشكالية التي تجعل أي الجماعة من البشر الاحرار حائزة على شرطي السيادة أي الرعاية والحماية: 3. المفهوم الثالث هو مفهوم الحكم الذي ينظم التبادل والتواصل في الداخل والخارج بشرطي السيادة أعني الرعاية والحماية الذاتيتين وليس المستعارتين. 4. المفهوم الرابع هو مفهوم التربية التي تكون الإنسان القادر على علاج دوره في المفهوم الأول (الانتاج المادي) ودوره في المفهوم الثاني (الانتاج الرمزي) كفاعلية إنتاجية لسد الحاجات المادية (الاقتصاد) والروحي (الثقافة). 5. المفهوم الخامس الذي هو أصل هذه المفهومات الأربعة والمحدد لدلالتها الجامعة بين البنيتين السطحية والعميقة هو مفهوم السياسة. فالسياسة هي التي تجمع بين البنية السطحية والبنية العميقة، أي بين العلاقتين العمودية مع الطبيعة والعلاقة الأفقية مع التاريخ في الحال وفي الاستقبال. ففي الحال هي سياسة حكم وفي الاستقبال هي سياسة تربية. وهذا الفهم للسياسة تحقق أولا في الإسلام. وفي المرحلة الوسطى من الفلسفة الحديثة وهي مرحلة لم تدم طويلا. فالفلسفة الحديثة التي تداركت وهم الفلسفة القديمة والوسيطة وحتى المرحلة الأولى من الفلسفة الحديثة في فلسفة كنط. لكنها سرعان ما نكصت مع الهيجلية والماركسية فعادت إلى وهمها الذي جعلها تحاول قيس فلسفة التاريخ على فلسفة الطبيعة.
سطح المعضلة الحضارية وعمقها
كيف لا يعد أدعياء الحداثة متخلفين ودغمائين وهم ما يزالون متصورين الاقتصاد علاقة مباشرة بين رأس المال والعمل تبسيطا علته استعمال المنطق الجدلي في تفسير التاريخ تقديما وتأخيرا بين عاملين لا يعنيان شيئا في تحليل الظاهرة الاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن التاريخ الذي هو أكثر تعقيدا من الظاهرات الطبيعية بما لا يقدر من ابعاد التعقيد.
فالتفسير الجدلي بالعامل المادي (ماركس) والتفسير الجدلي بالعامل الروحي (هيجل) كلاهما لا ينطبق على الاقتصاد الذي يتكلمون عليه عامة فضلا عن الاقتصاد الحديث والأحدث. فإذا كان الاقتصاد هو الانتاج المادي الذي يسد الحاجات سواء بمعنى القيمة الاستعمالية أو القيمة التبادلية فهو لم يكن وخاصة لم يبق كما كان يبدو عليه مثل العلاقة بين صاحب الأرض (رأسمال) والعامل اليدوي (العمل) بل هو كان ولا يزال عملية شديدة التعقيد مؤلفة من خمسة عوامل كلها اساسية في مجراه وهي لا تعمل بالمنطق الجدلي بل بالتفاعل بين عناصر البنية الجامعة بينها. فسواء كان المنتج الذي يسد الحاجة بضاعة أو خدمة فلا بد فيها من العوامل الخمسة التالية:
1. لا بد من فكرة حول سد حاجة وهي إذن علاقة بين عمل النظر والعلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة لسد حاجة هي مطلب المستهلكين. 2. لا بد من صاحب مبادرة يريد أن يستثمر في تلك الفكرة لسد تلك الحاجة. 3. لا بد أن يوجد صاحب المال المستعد لتمويل ذلك الاستثمار في تلك الفكرة. 4. لا من نظام معقد ينقل العناصر الثلاثة السابقة إلى تحقيق فعلي للفكرة والاستثمار بذلك التمويل وهو العمل المنتج وإدارته. 5. لا بد من العودة إلى الأصل أعني السوق أو الطلب الاستهلاكي الذي هو أصل ذلك كله لأن الفكرة تستجيب لحاجة، وأحيانا قد تولد الحاجة كما يحصل في الاقتصاد الاستهلاكي الحديث وهو غالبا ما يحصل عندما تصل الجماعة إلى الترف.
ولما كان العنصر الرابع ليس للعمل اليدوي فيه الدور الأساسي إلا في المجتمعات البدائية وكان ذلك قابلا للتعويض بالآلات في المجتمعات الراقية، فإن العمل بهذا المعنى التحق بالفكر والصنعة والكفاء المهنية التي هي جزء من المفهوم الثاني أو الثقافة التي سنبين دورها في الاقتصاد. ولذلك فالكلام الماركسي على الاقتصاد كله صار عديم المعنى وخاصة بعد أن كاد يزول العمل اليدوي البسيط.
وبين أن علاقة المقوم الخامس بالمقوم الأول في معادلة العملية الانتاجية في كل اقتصاد هي المنطلق. فالإنسان من حيث هو مستهلك لشروط قيامه المادي ولشروط قيامه الروحي يطلبها من الطبيعة. لكن طلبها من الطبيعة يحتاج: 1. إلى معرفتها أولا 2. وإلى معرفة كيفية تحصيلها ثانيا 3. وإلى كيفية استعمالها ثالثا 4. وإلى طرق التعاون عليها رابعا 5. وإلى ا نظام التفاعل الإيجابي بين كل هذه المستويات لتحقيق شروط قيام الإنسان خامسا وأخيرا.
فيصبح البحث العلمي بحد ذاته أهم أدوات سد الحاجات التي تحقق قيام الإنسان. ومن هنا يأتي تبادل الدور بين الاقتصادي والثقافي. فأهم ما في الثقافي هو ما يكون منه أداة للاقتصادي الذي هو الغاية الأولى في البداية، ثم تنقلب العلاقة فيصبح الثقافي غاية الاقتصادي أداة لغاية هي إنتاج أدواته التي تجعله أكثر فاعلية وهو معنى تمويل البحث العلمي. ومعنى ذلك أن كلاهما شرط الثاني. لكن علاقتهما هذه تمثل المستوى السطحي من علاج الإنسان لشروط قيامه المادي والروحي، ذلك أنهما يظهران في السطح لأن شرطين آخرين تحققا في العمق فجعلاهما يتحققان. فإذا كانت هذه الشروط ثمرة للعمل على علم فمعنى ذلك أن شرطين تحققا قبلهما أعني تكوين الإنسان ليقدر على تموينه الذاتي وهذا لا يكون من دون تكون الجماعة وتنظيم وجودها وتعاونها في التكوين والتموين. وهذا هو المستوى الأعمق الذي يجعل الجماعة تجتمع وتتعايش وذلك بفضل بعدي السياسة أعني: 1. سياسة التربية 2. وسياسة الحكم.
والأولى تتعلق بتكوين الإنسان ليصبح قادرا على تموين ذاته ماديا وروحيا وهذه هي الرعاية وهي عمل جماعي بالضرورة وليس جماعيا بالتساوق فحسب، بل وايضا بالتوالي أي إن تراكم الخبرة لا يقتصر على التواصل مع المتعاصرين في الجماعة بل مع الاجيال السابقة فيها وفي غيرها من الجماعات وهو ما يعني في الحقيقة أن الحضارة الإنسانية معولمة دائما بمعنى أنها لا تعترف بالحدود السياسية والجغرافية.
والتكوين الذي يعد شروط التموين لا يتعلق بالتموين مباشرة فحسب، بل بالتصدي لموانعه ومعنى ذلك أن الرعاية تحتاج إلى الحماية في الداخل وفي الخارج. فتكون مهمة التربية متعلقة بالرعاية وبالحماية. والمعنيان سميا بكناية البعض على الكل في سورة قريش عندما تكلمت على “أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” والجوع تسمية الرعاية كناية ببعضها والخوف تسمية الحماية كناية ببعضها. وهذه العلاقات بين المستويين السطحيين والمستويين العميقين هما ما يفسر منزلة ا لاقتصاد في القرآن: فلغته كلها اقتصادية من حيث الوظائف والقيم حتى في كلامه على الحياة الأخرى ناهيك عن كلامع على الحياة الدنيا.
ثم تأتي العلاقة بين العمل والاستثمار. فالعلاقة بين الاستهلاك والبحث العلمي هي علاقة بين نوعين من المطالب: 1. الاستهلاك يطلب ما يسد الحاجة بنوعين من الطلب المتوجه للموجود لسدها مباشرة والمتوجه للمنشود لسد الحاجة التي لا تتوفر شروط سدها أو تتوفر بصورة لا ترضيه. 2. والبحث يطلب العلم بما يسد الحاجة بنوعين من الطلب كذلك المتوجه للموجود لجعله يسدها على علم به وبما يسده منها والمتوجه للمنشود بنفس المعنى الذي عند المستهلك. وهذا الهم المشترك لا يقتصر على حاجة الرعاية بل هو يتعلق كذلك بحاجة الحماية، ومن ثم فالمحرك الأساسي للاقتصاد والبحث العلمي هو سد حاجات الرعاية والحماية للفرد في الجماعة وللجماعة بين الجماعات في العالم.
ويبقى المفهوم المركزي الذي اعتبره القرآن شرط القيام أو شرط ديمومة القيام واشترط عدم ترك التصرف فيه للسفهاء أي لمن لم تتحقق فيه شروط الرشد العقلي (النساء 5) أعني التمويل. والتمويل الذي يشمل الفكرة والاستثمار والعمل والاستهلاك لأنه شرط الانتقال من الاستجابة إلى الحاجة في مستوى التصور إلى مستوى الاستجابة في مستوى الفعل هو الفرق بين الإنتاج والاستهلاك. وهذا الفرق هو الادخار. والادخار يعني أن الاقتصاد السوي هو الذي يبقي على شرط بقائه وتواصله ونموه المستدام. وهذا الشرط لا يتعلق بالاقتصاد بل بكل حياة الجماعة لأن تمويل الاستثمار في الافكار بتحويلها إلى اعمال منتجة لما يسد الحاجة هو شرط تكوين الاجيال المقبلة وتموينها حتى تواصل هذه العلمية التي هي بالجوهر ذات دوافع بايولوجية (شرط البقاء) بحلول حضارية (العناصر الخمسة التي تتألف منها علمية الانتاج الاقتصادي).
ولنعد الآن إلى البنية العميقة التي تحقق شروط التكوين والتموين أعني تضمن وجود الجماعة وبقائها وهي بنية السياسية المتعينة في بعديها: 1-سياسة التربية. 2-سياسة الحكم.
فالتربية السوية هي التي تحقق شروط العلاج العلمي للعلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة (المسألة الاقتصادية) وتحقق شروط العلاقة الأفقية (المسألة الثقافية) بين الإنسان والتاريخ. وهي النقيض التام للثقافة التي يقول بها هؤلاء الثرثارون الذين يدعون الحداثة مثلهم مثل الثرثارين الذين يدعون الأصالة. إنها ثقافة الكلام الايديولوجي سواء كان باسم الدين أو باسم الفلسفة. وكلاهما بريء من هذا التصور للثقافة. والفرق الوحيد بين الدين والفلسفة هو أن هذه تنطلق من العلاقة العمودية وتبني عليها العلاقة الأفقية وذات ينطلق من العلاقة الأفقية ليبني عليها العلاقة العمودية.
ومنطقيا يعتبر التصور الديني أكثر مطابقة لحقيقة الأمر لعلتين: 1. الأولى هي أن العلاقة العمودية عسيرة العلاج وشرطها تحقيق التناغم الروحي في الجماعة أو وحدة المرجعية الروحية. 2. والثانية هي أن وجود الجماعة متقدم على مشكل العلاقة العمودية لأنه من أجل حلها. فوجود الجماعة المتعاونة من أجل الرعاية والحماية هو المنطلق الأول والغاية القصوى لكل جماعة.
ومشكل الكاريكاتورين الذي يدعي الحداثة والذي يدعي الأصالة، هو كونهما وقفا عند المستوى السطحي دون المستوى العميق من أسس قيام الجماعات. فمن يتصور الكلام على التواصل من دون مادته الأساسية أعني سد الحاجات سيجعله منوطا بالصراع الإيديولوجي على أنماط حياة ليس لهم القدرة على أنتاج شروطها (التحديثي المزعوم) أو على شروط لم تعد صالحة (التأصيلي المزعوم). فالأول يريد أن يعيش مثل الاوروبي دون شرطين توفرا للأوروبي وهو لا يفعل شيئا لتوفيرهما: تحقيق شروط الإنتاج خلال قرون ونهب ثروات العالم لقرون. والثاني يتصور الأمر كله رهن الوعظ والإرشاد في التربية الدينية.
لكن الرؤية الدينية تبقى أقرب على ما يقتضيه علاج العلاقتين العمودية والأفقية. فالتواصل متقدم على التبادل. وإذن فالعلاقة الأفقية هي الأصل لتأسيس التفاهم والتعاون في الرعاية وفي الحماية. حتى في العلاقة العمودية مع الطبيعة. فالخبرة والعلم بقوانين الطبيعة حصيلة تراكمية أساسها التعاون بين المتعاصرين وبينهم وبين الأجيال التي تقدمت عليهم ومن ثم فلا بد من تقديم التواصل المعنوي على التبادل المادي حتى يكون على الاقل في البداية أداة لجمع القدرة النظرية والعملية التي تساعد الجماعة على تحقيق الرعاية والحماية.
لكن النتيجة واحدة في الغاية سواء بدأنا بالعلاقة العمودية مع الطبيعة لإنتاج ما يتم تبادله في الجماعة لسد الحاجات في جماعة متواصلة أو بدأنا بضمان شروط التواصل حتى تتعاون الجماعة فالحصيلة هي التلازم بين العلاقتين وبين التبادل والتواصل في الجماعة الواحدة وبين الجماعات. فإذا لم يكن دور السياسة من جنس دور تسيير الاوركسترا في الأناغيم الموسيقية للوصل بين عمل الإرادة (الحكم) والعلم (الفكرة) والقدرة (انتاج ما يسد الحاجة) والحياة (الفنون الذوقية) والوجود (الرؤى العامة) استحال على الجماعة أن تكون قادرة على الرعاية والحماية فتصبح من ثم فاقدة للسيادة.