دروس في فلسفة الدين د01 من 35 – الفرق بين فلسفة الدين ودين الفلسفة – أبو يعرب المرزوقي
المقدمة:
أحاول أن أوضح المسألتين التاليتين تحليلا لدلالات التصورات وتمهيدا للشروع في علاج ما استعوص من القضايا التي يتقحمها المتكلمون فيفسدون الدين والفلسفة في آن إما بسبب عجلة التحليل أو بسبب الإغراق في التأويلi مع فقدانهم للأدوات المنهجية والقصد المعرفي بسبب التوظيف الإيديولوجي:
1- مسألة العلاقة بين فلسفة الدين والدين الفلسفيii.
2- مسألة العلاقة بين فلسفة الدين والفلسفة الدينيةiii.
المسألة الأولى: العلاقة بين فلسفة الدين والدين الفلسفي
فرغم أن فلسفة الدين من حيث هي فرع من فروع البحث الفلسفي تفترض ضمنا أو صراحة دينا فلسفيا معينا فإنها تختلف تمام الاختلاف عنه. فهو أحد فروع موضوعها وليس هو إياها. ذلك أن فلسفة الدين تبحث الأديان كلها بما فيها الأديان الفلسفية التي تكون عادة من مباحث ذروة الميتافيزيقا. لذلك فقد عدها فلاسفتنا جزءا ما يسمونه الإلهيات. ولعلنا نجد في مقالة اللامiv من ميتافيزيقا أرسطو أو في المقالة العاشرةv من كتاب أفلاطون في الشرائع نموذجين تعامل معهما فكرنا في تجربة التفلسف الأولى من تاريخ فكرنا الفلسفي والديني. فلا يكون الدين الفلسفي إلا أصل المنظور الذي يقول به صاحب البحث في فلسفة الدين إذا كان فيلسوفا. لكنه غير فلسفة الدين التي هي أحد فروع البحث الفلسفي أحد فروعه الذي من المفروض أن يكون مابعدًا لعلم موضوعِه أعني علم الأديان الوصفي والوضعي والتاريخي.
لكن هذا الدين الفلسفي غالبا ما يكون في نفس الوقت المنظور الذي ينظر به الفيلسوف لفلسفة الدين والغاية التي يعتبر الظاهرة الدينية متجهة إليها في نشوئيتها التكوينية إذا كان يقول بما يشبه التطور الطبيعي للوعي الديني عند الجنس البشري كما يمكن أن نمثل لذلك بفلسفة الميثولوجيا والدين عند شيلنجvi أو بفلسفة تطور الفكر الديني عند هيجلvii أو بالردود عليهما بما يشبه أديان الحياة الطبعانيةviii أو التاريخانيةix أو بمحاولات تأسيس ما يشبه الوجودية الإيمانيةx أو الإلحاديةxi. فلكل فيلسوف دين فلسفي صراحة أو ضمناxii. لكن القليل منهم اهتم بفروع الدراسات الدينية بمقدار يضاهي الفروع الأخرى من اهتماماتهxiii فضلا عن أن ذلك يرد في الغالب في شكل نقد للمعتقدات الشعبية أو في محاولات تفسير نظرية النبوة كما هو الشأن عند جل فلاسفتنا. وأغلب مفكرينا العلمانيين الذين يتكلمون في هذه المسائل يجهلون جوهرها الديني فيتصورون أنفسهم ثوارا على الدين في حين أنهم غارقون في علم الكلام المسيحي إلى الأذقان !
ويمكن القول إن ازدياد الاهتمام بهذا الفرع من البحث الفلسفي قد نتج عن ظاهرتين تاريخيتين متماثلتين من حيث الوظيفة التي أدتاها في تاريخ البشرية الفعلي وفي تاريخ وعيها التاريخي من حيث صلته بالدين والفلسفة أو بالوحي والعقل رغم اختلاف الظرف (ظرف الحضارة العربية الاسلامية وظرف الحضارة اللاتينية المسيحية) والنتائج (فشل التجربة الإسلامية بسبب الانحراف الكلايم الذي أفسد فعليها الجوهريين المشروطين في فلسفة دينها النظرية عقيدة دينية وعلما بالعالم وفي فلسفته العملية شريعة دينية وعلما بالتاريخ قصدت الاجتهاد أو التواصي بالحق والجهاد أو التواصي بالصبر ونجاح التجربة المسيحية في كلا الأمرين).
وقد حدثت كلتا الظاهرتين في الميدان الحرام بين طرفي للصراع قصدت بين القول الفلسفي والقول الديني خلال الجدل الدائر بين ضربي الدين الطبيعي والدين المنزل الجدل الذي آل إليه ضرورة تطور كلا القولين الديني والفلسفي في موطن الأديان والفلسفات القديمة حيث تلتقي القارات الأقدم الثلاث (آسيا وافريقيا وأروبا) أو الحوض الشرقي من البحر الأبيض المتوسط بين اليونان وإيطاليا شمالا والشام والمغرب الأدني غربا.
المسألة الثانية : العلاقة بين فلسفة الدين والفلسفة الدينية
يصعب أن ينكر أحد إمكان الكلام على الفلسفة الدينية لأي دين منزل فنقول فلسفة الإسلام الدينية أو فلسفة المسيحية الدينية الخ…قاصدين بذلك منظور الدين المعني كما يتعين في منظومة المقومات التي يتألف منها نسق عقائده والتي يختلف بها دين عن دين. لكن ذلك لا ينفي وجود مقومات مشتركة بين الأديان وإلا لما انتسبت إلى جنس الدين من أجناس المنظومات الرمزية ذات المضمون العملي أو النظري المنظومات المندمجة التي يخضع لها الوجود الإنساني بصورة كلية. لذلك ففلسفة الدين غير و الفلسفة الدينية غير. فتكون الفلسفة الدينية على الأقل جنسا مؤلفا من نوعين قبل ختم الفصل بينهما ببيان وحدتهما الجوهرية في الإسلام:
1- الفلسفة الدينية التي تستمد من الجهد الفكري الطبيعي أو الفلسفة الدينية التي يمكن استمدادها من الأديان غير المنزلة.
2- ثم الفلسفة الدينية التي تستمد من الوحي الذي يمكن مقارنة علاقته بالنوع الأول بعلاقة العبقرية في الإبداع الفني عامة والأدبي خاصة علاقتها بالصنعة الفنية.
وتختلف هذه المقابلة عن مقابلة تشبهها دون أن تكون إياها. إنها المقابلة بين علم الكلام العقلي Rational theology وعلم الكلام النقلي Textual or historical theology. فعلم الكلام بصنفيه يمكن أن يكون فرعا من الدين الفلسفي (علم كلام عقلي أو علم كلام تاريخي وهما مصدر كل المعارف الفلسفية والوضعية للظاهرات الدينية) أو فرعا من الدين المنزل (علم كلام عقلي أو علم كلام نقلي وهما مصدر كل المعارف النقلية المجردة والتاريخية للظاهرات الدينية). فقد يكون علم الكلام منتسبا إما إلى فلسفة الدين العقلي الدينية وعنها تفرعت البحوث الوضعية في تاريخ الأديان وعلم اجتماعها وعلم نفسها وعلم مقارنتها. وقد يكون منتسبا إلى فلسفة الدين المنزل الدينية وعنه تفرع الجدل الديني بين النحل داخل نفس الملة أو بين الملل اشرئبابا سلبيا إلى الدين الكلي الذي تكون الملل بالنسبة إليه في نسبة النحل إلى الملة الواحدةxiv: وذلك هو مضمون القصص والجدل القرآنيين اللذين يعتبران كل الرسالات واحدة من حيث هي دين رغم تعددها من حيث هي شرائع.
ولا أحد ينكر التجانس الموجود بين هذين الضربين من القول وما ينتج عن التقابل المنهجي بينهما في دراسة الظاهرات الدينية في وجودها الموضوعي (ممارسات ومؤسسات ونصوص ومشاعر) وفي وجودها الذاتي في ضمائر المؤمنين بها ومحاولى فهم التجارب الروحية المرتبطة بها وما أدى إليه هذا التجانس من جدل حول المنهج التحليلي الوضعي والمنهج التأويلي التأملي في دراسة النصوص والظاهرات التاريخية عامة والنصوص المقدسة وتاريخ الأديان خاصةxv ودور ذلك في نشأة ما يسمى بعلوم الروح أو العلوم الإنسانية في بداية القرن السابق.
الملاحظات
لا بد هنا من إبراز السر في نهي القرآن الكريم عن التأويل. فاستقراء آيات القرآن المتعلقة بالتأويل تجعله علاجا لضربين من الموضوعات هي تعبير الأحلام (سورة يوسف) وتفسير السلوك غير المفهوم (رد العبد الصالح على موسى في سورة الكهف). وقد يعترض بالآيات المتعلقة بتأويل الأحاديث المنسوب إلى يوسف عليه السلام لجعل التأويل منسحبا على موضوع ثالث. لكن الأحاديث هنا هي قص صاحب الحلم لحلمه ومن ثم فهذا النوع الثالث هو عينه النوع الأول ويمكن أيضا اعتباره جامعا للنوعين لأن حكاية الحلم سلوك من الحالم بل هو تأويل أول للحلم الذي ينتقل عند صاحبه من حال معيشة في النوم إلى قصة محكية في اليقظة. وإذن فكل ما ورد في قصة يوسف يجعل الأحاديث التي أولها من الجنس الأول ولها علاقة لها بالجنس الثاني. ولما كانت قصة يوسف قد استثنت قدرته على تأويل رؤياه بدليل طلبه من أبيه في بداية القصة وشهادته بحصول التأويل بمعنى الحصول المحقق للرؤية في غايتها فإن اعتبارنا الأحاديث حكاية أصحاب الأحلام لأحلامهم بات أمرا مشروعا.
ولنشرح الآن علة النكير على التأويل في القرآن الكريم. لما كان التأويل الذي يتجاوز التفسير ذا معنيين أقواهما هو تحقق الغيب المقصود في المتشابه الذي نهي عن تأويله وتعبير الأحاديث المترجمة للأحداث الرمزية الجارية في الأحلام بات من الواجب النهي عن تأويل القرآن. فهو بيان وليس أحاديث أحلام ومن ثم فهو غني عن التأويل بهذا المعنى الأول. لذلك فكل الذين مالوا إلى التأويل أضمروا أن القرآن أحاديث للمخيال من جنس الأحلام. لذلك فهو عندهم أحاديث تقتضي التأويل الناقل من ظاهر الأحاديث إلى باطنها مثلما يحصل في تعبير الأحلام.
أما التأويل بالمعنى الثاني فهو ممتنع لعلتين: أولا لان الغيب محجوب وتلك هي علة ورود الكلام فيه متشابها وثانيا لان تحقق الغيب في الأعيان لا يمكن أن يكون إلا بقدرة الله نفسه. لذلك فهو منهي عنه بالمعنى الثاني. لم يبق إلا التفسير. وقد ورد في القرآن الكريم مفهوم التفسير مرة واحدة وبالذات في سورة اسمها دال على معناه. إنها الآية 33 من الفرقان:” ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا “. فالمقابلة هي بين المثل أو التعبير الرمزي على الحقيقة الدينية وبين الحق الذي هو أحسن تفسيرا من كل الأمثال. وبذلك فالآية تؤيد ما ذهبنا إليه في تعليل النكير على التأويل: الحق المفسر أحسن تفسير مغن عن التأويل بالمعنى الأول. وهو يعلمنا أن المعنى الثاني فوق طاقة البشر: لا يعلم الغيب إلا الله ولا يحققه في الأعيان إلا المنان.
الإضافة ينبغي أخذها من منظور فاعلية المضاف إليه أو انفعاليته. ففلسفة الدين عندما يكون المضاف إليه هو الفاعل هي تفلسفه وعندما يكون هو المنفعل هي التفلسف فيه. فيكون القصد في الحالة الأولى نظرة المضاف إليه أو منظوره الفلسفي أما بالمعنى الثاني فالقصد هو كونه موضوعا للفكر الفلسفي. من هنا تأتي ضرورة التمييز بين الأمرين.
نفس الملاحظة بالنسبة إلى فلسفة الدين والدين الفلسفي. فبمعنى الإضافة الفعلية يكون تفلسف دين من الأديان غير الدين الفلسفي. ذلك أن الدين الفلسفي هو الدين الذي تقول به فلسفة من الفلسفات في حين أن فلسفة الدين بمعنى تفلسف أحد الأديان هي منظوره للأشياء من حيث يكون هذا المنظور نسقا عقليا يصح وصفه بالفلسفي.
انظر المقالة الثانية عشرة من كتاب أرسطو في ما بعد الطبيعة
انظر المقالة العاشرة من كتاب الشرائع أو النواميس لأفلاطون. ففيها يعالج أفلاطون المقابلة بين النظرة الطبعانية أو الدهرية والنظرة الإلهية لكأن المقالة علم كلام بالمعنى المتعارف في الحضارات الكتابية ولكن من منطلق عقلي خالص ودون احتجاج بنص معين.
انظر دروس شلينج في الميثولوجيا حيث يتوحد الدين الطبيعي والدين المنزل في التوحيد المتدرح بين اللاهوتي والناسوتي ليكون الدين المسيحي غاية التجلي Die Offenbarung التي تمثل المسيحية غايتها فتكون هي الدين الخاتم.
أنظر محاضرات هيجل في فلسفة الدين وفيها يكون الدين المسيحي الدين الخاتم لاكتمال ما يعتره التجلي التام للعلم المطلق وما سنحلله من المنظور الإسلامي لنبين أنه عين التحريف الوجودي (وحدة الطبيعة بين الآله والمألوه) والتحريف القيمي (الإنسان مقياس كل شيء) الذي اكتمل في العولمة.
قلب نيتشة للقيم ليس نفيا للدين بل هو استعاضة عن الأفلاطونية بنقيضها ومن ثم فهو دين طبعاني معبوده الأول والأخير هو إرادة القوة الحيوية. وهذا لا يختلف كثيرا عن قلب المسيحية أو بصورة أدق عن بيان جوهرها الحقيقي. فإذا كان الله يحل في الإنسان فالإنسان الذي حل في الآله يصبح هو الإله ومن ثم فلا معبود سواه. ولما كان ما في الإنسان من قوة مريدة هو اللامعقول الحيوي فإن الامر يصبح أوضح مما يحتاج إلى مزيد تحليل. ولهذه الموقف علاقة وطيدة بنظريات شيلنج رغم ما يبدو من تعارض بينه وببين أستاذ نيتشة (شوبنهاور). ففلسفة الحياة واللاوعي من العناصر الأساسية في فكر شيلنج الذي بني فكره كله على مفهوم الحياة بما هي عين الإله المحقق لذاته في التاريخ مرورا متدرجا من اللاوعي إلى الوعي بمنطق يمكن وصفه بمقولة نيتشوية بكونه بمعزل عن الخير والشر.
التاريخانة لا يمكن ان تفهم إلا كهيجلية محدثة. ذلك أن نسبتها في العلوم الإنسانية إلى الهيجلية هي نسبة مدرسة ماربور في العلوم الطبيعية إلى الكنطية. هذه كنطية محدثة وتلك هيجلية محدثة. ولعل تاريخ الفكر الغربي لم يتحدد بهما كحدين متقابلين بل بتبادلهما التأثير: فمعضلات الهيجلية المحدثة معروضة على حلول الكنطية المحدثة هي التي يمكن ان نعتبرها مصدر إشكالية ما يسمى بخصومة المنهج Der Methodenstreit ومعضلات الكنطية المحدثة معروضة على حلول الهيجلية المحدثة هي التي يمكن ان نعتبرها مصدر إشكالية ما يسمى بالمنهج الفينومينولوجي أولا والمنهج التأويلي أخيرا. والجامع بين الحدين والتأثيرين المتبادلين هو محاولات إعادة بناء تاريخ الفكر الغربي في فلسفة هيدجر خاصة بالاعتماد على الفلسفتين الكنطية والهيجلية اعتمادا يتجاوزهما إلى ما تقدم عليهما في التاريخ قصدت إعادة النظر في التأليف الوسيط بين الدين والفلسفة الارسطية.
ويمكن اعتبار بداية الوجودية المؤمنة ممثلة بكيركيجارد وغايتها ممثلة بكارل يسبرس غاية لأنها من بعدهما أصبحت مضغا لكلام فارغ همه الأساسي الدعوة للتوراة أو للإنجيل مع خلوه من تجربة روحية صادقة.
ويمكن اعتبار بداية الوجودية الملحدة ممثلة بجون بول سارتر وغايتها ممثلة بألبار خموس غاية لأنها من بعدهما أصبحت مضغا لكلام فارغ همه الأساسي الدعوة للفوضى الثورية من دون رسالة أو للتسيب الخلقي من دون إبداع وخاصة في ثرثرات الوجوديين العرب المزعومين.
وغالبا ما يكون هذا الدين الفلسفي صياغة عقلية للدين الذي ربي عليه الفيلسوف إيجابا (بتبني معتقداته الأساسية مع بنائها عقليا ) أو سلبا (بنقد معتقداته الأساسية مع بناء بدائل منها بناء عقليا). ولعموم هذه الظاهرة سنستغني عن التمثيل لها. يكفي أن نشير إلى صراحة ديكارت في تصوريه للأخلاق تصوريه اللذين يمكن أن نقيس عليهما تصوريه للدين كما كانت ممارسته فعلا حتى وإن لم يصرح بذلك كما فعل في مسألة الأخلاق: أخلاق البداية المؤقتة وأخلاق الغاية النهائية. فهو قبل قبل أخلاق بلده صراحة وسعى إلى تأسيسها تأسيسا أكثر توافقا مع تطور الفلسفة والعلم بعد تجاوز العالم البطليموسي والعلم الأرسطي. لذلك كان ما سعى إلى صياغته في ممارسته الفلسفية ليس أخلاقا نهائية بل دين عقلي (لا يكاد يختلف إلا في الجزئيات عن التصور الأشعري بدليل حجتين لا تقبلان الدحض: قول ديكارت بتبعية مبادئ العقل للإرادة الإلهية المشرعة في الحقائق–نظام العقل والعالم– والقيم نظام الأخلاق والتاريخ – ونفي الغائية فيهما وينتج عنه نفي التحسين والتقبيح العقليين ضرورة. لكن جهل الكثير بالفكرين الفلسفي الإسلامي والغربي يجعلهم لا يرون الحقائق الكلية في تاريخ العقل البشري بحيث إن ديكارت وأعيدها مرة أخرى فكره أكثر قربا من العقيدة الإسلامية من أغلب مفكرينا الإسلاميين المحدثين المتشدقين بالخصوصية متعبين نسبوية ما بعد الحداثة دون وعي ! ) يتماشى مع الممارسة العلمية والفلسفية التي تجاوزت التعليم الرسمي في المدارس الدينية. لذلك فأهم غايات ديكارت كانت أصلاح التعليم في المدارس الدينية ليعوض المتون الأرسطية بالمتون التي كتب أهمها في المنهج والمضمون الفلسفي فضلا عن تصريحه الواضح بتأسيس الإصلاح الديني الذي سعى إليه الكردينال ده برول بمحاولة فلسفية تجعل الأدلة على وجود الله أكثبر بداهة من الأدلة على وجود العالم المادي.
ويمكن أن نعتبر كنط بداية المرور من اللاهوت العقلي والدين الفلسفي إلى فلسفة الدين بمعنيي المصطلح. فهو في كتاب الدين بحسب العقل بمحرده يؤسس لفلسفة الدين تفسيرا لعلل ظهور الظاهرة الذينية وهو في كتب النقد الثلاثة وخاصة في آخرها يؤسس للعلاقة الوطيدة بين الفلسفة النظرية والفلسفة العملية التي يعتبر الدين غايتها وصلا للامرين بفلسفة الجمال وفلسفة الجلال في نقد ملكة الحكم.
وكانت غاية هذا الاشرئباب في الفكر الإسلامي الدرجة التي بلغ إليها تصنيف ابن حزم للعقائد بشرط أن نصوغه صياغة منطقية لم يوفق إلى الوعي بها رغم استعماله إياها في تصنيفه. فهو قد استعمل القسمة الثنائية الأفلاطونية فقابل بين نفاة الحقيقة (السفسطة) والقائلين بها دون تميير بين أصناف الحقيقة (الفلسفة والأديان). ثم قسم القائلين بالحقيقة إلى المستكفين بالعقل ( الفلسفة والأديان الطبيعية ) والقائلين بالوحي (الأديان المنزلة). ثم قسم القائلين بالوحي إلى القائلين يخصوصيته (اليهودية) والقائلين بكليته (المسيحية والإسلام) . ثم قسم القائلين بكلية المخاطبين دون المبلغين (المسيحية) والقائلين بالكلية في الأمرين: وذلك هو الإسلام لذلك كان الخاتم الذي ينبغي أن يقبل بكل ما تقدم عليه باستثناء نفاة الحقيقة. لذلك فرضت العقيدة الإسلامية على الدولة الإسلامية ضرورة السماح لرموز هذين النوعين من الأديان الطبيعية ومنها الفلسفة غير الملحدة ( الصابئة وتقاس عليها كل الاديان الطبيعية مثل البوذية ) والمنزلة ( اليهودية والمسيحية ) بممارسة شعائرهم وتطبيق شرائعم تحت حماية الدولة الإسلامية بل أعطاهم منزلة الذمة: أي إن الدولة الإسلامية في ذمتها كالدين يجعل من واجبها حمايتهم وتمكينهم من حرياتهم الدينية. وطبعا فهذا الدين مضاعف العلة: فهو اعتراف له بالسبق في السعي إلى الحق وهو تشجيع لهم للحاق بغاية هذا السعي في أمة التواصي الحق في الاجتهاد لعلم الحقيقة والتواصي بالصبر في الجهاد للعمل بها وكلاهما شرط الايمان والعمل الصالح المشروطين في الاستثناء من الخسر بمقتضى نص آيات العصر والحرية الدينية التي حددتها الاية 156 من البقرة. وكل ما يستمد من الممارسة الإسلامية مع الأقليات الدينية فيمكن إرجاعه إلى عاملين كلاهما لا يلزم المؤمنين حقا بقيم الرسالة: فأما العامل الأول فهو بنوع ما معذور وسببه ما يشبه ظروف الطواريء لأن الأقليات كانت أحيانا تؤدي وظيفة الطابور الخامس ما يوجب بعض الحذر في التعامل معها. لكن هذا الحذر أصبح بسبب غباء بعض الفقهاء وجهل العامة إلى العامل الثاني الذي جعل الأقليات الدينية تعاني من التمييز العنصري فصارت الذمة منزلة دنيا في حين أنها منزلة عليا بمفهوم الكلمة نفسه.
انظر بحثنا حول مناهج القراءة والفهم في الفكر الإسلامي وقد يصدر قريبا في كتاب عن دار الفكر.
دروس في فلسفة الدين د01 من 35 – الفرق بين فلسفة الدين ودين الفلسفة – أبو يعرب المرزوقي