**** خمس كذبات يقتات منها أدعياء الحداثة العرب الفصل الثاني
تكلمت على التأفين بالمعنى المادي من الافيون. وآن أوان الكلام على التأفين بالمعنى الرمزي: فالكذبات الخمس هي التأفين أو الأفيون بالمعنى الذي استعمله ريمون أورون في كلامه على المثقفين الفرنسيين، وهو أصح على أذيالهم من أدعياء الحداثة من النخب التي تأثرت أساسا باليعقوبية والماركسية. فالأفيون الذي تمثله الكذبات الخمس هو الإيديولوجيا التي يغتذي بها اليساريون والقوميون، وخاصة بعد أن اصبحت الأنظمة العسكرية العربية تابعة للقطب السوفياتي، واصحبت الأنظمة القبلية العربية تابعة للقلب الأمريكي، والمغرب العربي بقي يلعب على الحبلين تونس والمغرب شيء وليبيا والجزائر شيء ثان.
عندما أحصيت الكذبات الخمس، كان من المفروض أن اعتبر الأمر يتعلق بعشرة، لأن الخمسة التي تعتبر إيجابية يقابلها سلوبها التي تنسب إلى الإسلام: 1. التقدمية-والرجعية 2. الديموقراطية-والاستبداد 3. والتنوير-والظلامية 4. والعقلانية -والخرافية. والاصل الجامع للمتقابلات 5. هو الحداثة-والإسلام.
وكان يمكن أن أقف عند هذا الحد وألا أواصل التحليل. فما بيناه في العرض السريع حول المناخ السياسي والثقافي خلال القرنين الماضيين تحت الاستعمار المباشر الذي اعتمد عليهم والاستعمار غير المباشر الذي ترك الأقطار لهم ولأبنائهم وأحفادهم، لأنهم هم نوابه منذ خرج في الظاهر كاف وزيادة. ففي هذين القرنين لم تكن النخب التي تشرف على وظائف الدولة بيد غيرهم. فهم المشرفون على التربية، وهم المشرفون على الحكم بوصاية ممن نصبهم رغم أنف الشعوب، ولا يزال يحميهم ضد الشعوب. ويكفي أن نرى ما يجري في مصر وما يجري في سوريا حتى يقتنع كل إنسان له ذرة من النزاهة.
ولا يختلف الامر في غيرهما، فما يجري في تونس والجزائر والمغرب وليبيا منذ أكثر من نصف قرن حتى أكتفي بما لا يزال عالقا بأذهان الأجيال التي عاصرته هو حكم نفس النخب التي تدعي الحداثة بالمعنيين اليعقوبي والفرنسي، وبالاستبداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإعلامي وما يزعمونه إبداعا. وسأكتفي بأخذ تونس عينة مما أتكلم عليه لعلتين: • أولا لأني من تونس وعلى دراية بالدواخل • وثانيا لأنني منذ ستينات القرن الماضي صرت معنيا بالأمر مباشرة، إما كطالب ومشارك في السياسة طوعا بإيمان شبابي بالمشروع التحديثي، ثم كأستاذ ثانويات وفي التعليم العالي ومشارك في المعارضة بالقلم خاصة. ولما كنت في الامرين أرفض الاعتراف بالحدود وأرى نفسي دائما “عربيا” بالمعنى المغاربي، أي من ثقافة عربية اسلامية وليس بمعنى العرق، فإني كنت شبه شاذ ليس كفرد، بل عند النخبة الحداثية، الشذوذ ليس أمرا فرديا أوصف به، بل هو خرافة النمط المجتمعي الحديث الذي يعتبر كل إسلامي فيه شاذا. لذلك تسمع الكثير من الغلاة منهم والاستئصاليين يهددون الإسلاميين بأمرين: • إما السجن • أو التهجير يعني تقريبا ما يفعله ابطالهم مع السنة في الشام والعراق. إذا لم تكن مع النظام الذي اختاروه -لا أعني النظام السياسي، بل النظام الثقافي- فأنت لست تونسيا إذا أردت أن تشارك في الشأن العام. وفي الحقيقة، فحتى قبل أن يصبح الإسلاميون حائزين على الثقافة الغربية ومتمكنين منها أكثر من أدعياء الحداثة فإن تونس ليس لها ما تفخر به من إنتاج ثقافي جدير بالاعتبار. ليس منهم، بل ممن يتهمونهم بالثقافة التقليدية، فكل ما هو حديث في تونس من إبداع أو رياضات أو جمعيات منتج زيتوني. ورغم أني لست زيتونيا، وإن كنت من أسرة زيتونية، فإني لا يمكن أن أواصل أكاذيب “المدرسيين” أو الصادقيين بأي ريادة في أي إبداع أو فن أو رياضة أو حتى نقابة يمكن أن يزعموها من إنتاجهم. فهم ورثة الحزب الشيوعي الفرنسي، وأرادوا حتى استتباع النقابات التونسية للنقابات الفرنسية لولا وطنية حشاد. ويكفي أن تتابع شعرهم أو مسلسلاتهم أو كل ما يزعمونه من ابداع حتى تفهم أنهم فعلا يمثلون التخلف المتجسد، ناهيك أن جل “مفكريهم” في اي مجال هم مجرد ماضغي كليشيهات من جنس العشرة التي ذكرت وهي لم تكن ولم تبق حتى لو صدقنا ما يقال عن الأجيال الأولى ذات مصداقية فعلية. وحتى يحكم القارئ العربي الذي قد لا يكون مطلعا، فالأمر لا يختلف كثيرا عما آل إليه في الثقافة المصرية بعد انتهاء عصر الاجيال الأولى مباشرة مع ما يسمى بالثورة الناصرية. ففي بلد يصبح فيه القمني ومن هم دونه مفكرين، يمكن القيس عليه إذا ما استثنينا المستبعدين وليسوا قلة في بلاد العرب. وعندما ترى مثلا أن الاجيال العربية التي تكونت في الغرب، وخاصة من شباب الخليج مستثناة من الحركات الفكرية والثقافية، وخاصة من المشاركة في إدارة الشأن العام، تعلم أن من يحكم هم أشباه الساسة ومن يطبل لهم هم أشباه المثقفين، وذلك يصح على كل بلاد العرب بلا استثناء: ويتنصلون دون حياء.
وأكثر من ذلك: • فالأحزاب السياسية • وحركات المقاومة • وحركات الإصلاح الحضاري كل ذلك ليس لهم فيه أدنى دور، بل هي في تونس والجزائر والمغرب كلها من المدرسة الفكرية التقليدية التي هي بالأساس زيتونية لأن التعليم التقليدي -بما في ذلك في الازهر- مستورد من القيروان وتونس الزيتونة.
وبصورة أدق، حتى الحزب الذي حكم به بورقيبة تونس إلى أن انقلب عليه رئيس المافية الابنعلوية ليس من تكوينه، رغم كذبة تكوين الشعب الشعبية. فالحزب الحر الدستوري كونه الثعالبي وعلماء تونس وأصبح له خلايا في كل مدن الإيالة التونسية في الربع الاول من القرن الماضي. لا أحتاج لذكرها. وحتى من صار الوزير الأول في الخلافة، كان من تلاميذ الزيتونة -خير الدين باشا وكتابه في الإصلاح ليس من تأليفه لأنه أعجمي من مسلمي البلقان-ومن ثمّ، فهم مساكين ومضطرون للبحث عن وصل ممكن مع ما يسمونه الإسلام التونسي: وهذا لإسلام لا تونسي فيه إلا المكان لأنه إسلام “بس”.
ما يسمونه إسلام تونسي هو الفلكلور التونسي في ممارسة التدين، وهذا متعدد ليس بتعدد الاقطار فحسب، بل هو متعدد حتى بتعدد المدن والأحياء. فما يصك بالطابع الإسلامي من الفلكلور الشعبي لا يمكن أن يعتبر إسلاما تونسيا، وإلا لصارت “الزرد” أي الحفلات حول ما يسمونهم أولياء صالحين، إسلاما. فإذا جمعت بين الامرين: • اعتبارهم الدين “افيون” ويسمون دينا “الفلكلور” • فهمت أنهم يحتجون في الثانية بما ينفون في الأولى. فيكون مجرد تبرير لتأصيل أنفسهم، وكلنا يعلم أنهم لا أصل لهم لأنهم من القائلين بان الحضارة الإسلامية من الماضي الميت ويسعون لإتمام ما عجز دونه الفرنسيون. وهذا هو رهان “لجنة الحريات والمساواة”، فعندما يسعى شخص إلى تغيير جذور التشريع في الجماعة بتغيير مرجعياتها القيمية فاعلم أن لهم مهمة بينة: • بعد الفصل الجغرافي • والفصل التاريخي • وما يترتب على الاول من تبعية مادية • وعلى الثاني من تبعية روحية لم يبق إلا الحرب على المرجعية الروحية. • ولما اكتشفوا أن الفرنسية فشلت في القضاء على العربية، • وأن اليعقوبية والماركسية فشلت في القضاء على الإسلام، • واكتشفوا أن الشباب بجنسيه -ولا أتكلم على علماء الدين بعد أن قتلوا الزيتونة وفني أجيال علمائها-عادوا وإن بشيء من الفوضى إلى قيمهم الروحية، جن جنونهم. فنصحهم سيدهم بأمرين: • الأول هو إفساد العربية في لغة التواصل، وخاصة في الاعلام الذي جعلوه يتكلم بالمالطية، أي مزيج من العربية المحرفة ومن الفرنسية الأكثر تحريفا، • ثم تمكين الخبراء الفرنسيين من التدخل في إصلاح التعليم، واخيرا اعلان الحرب على الكتاتيب بدعوى الحرب على الإرهاب. وهاهم الآن وصلوا إلى غاية المطاف: فك الارتباط بين المرجعية القانونية والمرجعية الروحية للجماعة. لا يوجد إنسان له ذرة من عقل يمكن أن يفصل بين الامرين. فالقانون إذا لم يكن موصولا بالمتعاليات التي تؤمن بها الجماعة، يصبح تحكما مطلقا. فتحول النظام القانوني إلى صراع إرادات مافياوية. ولن أجادلهم في دعاواهم العشرة لأني “قرصت” أذنهم في محاولة سابقة من خلال بيان أن العهد الذي كانوا يعتقدون أنهم يمثلون فيه الحداثة والمعرفة بالثقافة الغربية ولى بلا رجعة. فالثقافة الغربية بالنسبة إلى أي إسلامي صارت جزءا لا يتجزأ مما يتعلمه ليتجاوزه. فبتعلم ثقافة يونان وتجاوزها، أبدعنا. وشبابنا بجنسيه له هذا الطموح لأنهم لم يعودوا غافلين عن كون التحرر من المسيطر لا يكون إلا بتجاوزه بعد استيعابه. فالغلبة ليست نفيا للعدو، بل هي افتكاك ما به كان هو الأقوى لتتجاوزه في ما تقوى به عليك، فتبزه فيه فتصبح سيدا على ما ساد به، وعندها تكون الندية مرحلة التجاوز. تجاوز من غلبك ليس بمعاداته، بل بفهم سر غلبته وحيازته حيازة تكون فيها أفضل منه. وهذا ليس بالأمر الممتنع على شبابنا. فعدد طلبتنا مهما قل مستواهم عندما يدركون أن استعادة جغرافية دار الإسلام وتاريخيها سيمكنان الامة من شروط التجاوز المادي والروحي التي ضاعت بسبب التفتيت والتشتيت.