**** خمس كذبات يقتات منها أدعياء الحداثة العرب الفصل الأول
في سنتي الاولى طالبا في جامعة تونس الأولى، كان نظام الاجازة في الفلسفة يبدأ بعلم النفس بكل ابعاده الفلسفية والتجريبية وببعديه السليم والمرضي مع دروس في البايولوجيا والاحصائيات. لكني كنت بنحو ما مغرما بقراءة محاولات تطوير العلوم الإنسانية منهجيا وتقريبها من مناهج العلوم الطبيعية. ولسوء الحظ، لم أكن حينها قادرا على قراءة الأدبيات الالمانية المتعلقة بها في الأصل، لكني قرأت بعض الترجمات واغرمت خاصة بمحاولات ريمون أرون صاحب القول الشهيرة وأكثر علماء الاجتماع الفرنسيين تمكنا من الادبيات الالمانية. كان يقول “الماركسية هي أفيون المثقفين” ردا على الدين افيون الشعب. كان أهم ما شدني إليه خاصة تحليل الآليات الاقتصادية الكونية التي لها نفس الفاعلية بصرف النظر عن الإيديولوجيا ومواقف المثقفين، فتوقع كل ما حصل للنظام الاشتراكي كما شدني إليه الوصل العميق بين الفلسفة عامة والعلوم الإنسانية والاجتماعية خاصة. وطبعا كان يعتبر رجعيا. ونفس الشيء حصل لي لما درست القانون. كان في فرنسا مدرستان: • واحدة ميالة للإيديولوجيا وتسمى “التقدمية”. • والثانية ميالة إلى العلم وتسمى رجعية. فاخترت الثانية ودرست القانون حيث يدرس جورج فودال. ومنذئذ وخاصة بعد أن بدأت أدرس مع الفلسفة اليونانية الغزالي وابن تيمية وابن خلدون صنفت رجعيا. كل هذا لأقول إني فخور بهذا “التصنيف” لأنه من جنس تصنيف مراهقي الثورة المضادة لكل من لا يقبل أن يكون عميلا مثلهم في لائحة الإرهاب. وقد يلحقوني بها خاصة والجماعة في تونس لا يترددون في الدفاع عن “الممانعة” التي تبينت ممانعتها بشهادة ناتن ياهو وصاحبه وحاميه والسيسي وحفتر والمراهقين. وكل من يقف موقفي من الممانعة ليس منذ شهادة ناتن ياهو ووزير دفاعه لطبيعة دورها بل منذ أكثر من عقدين، لا يمكن ألا يعتبر رجعيا وطائفيا وإرهابيا لأني وصفت الأمور كما بيّن التاريخ منذ الثورة إلى اليوم أن وصفي لهم كان أقرب إلى ما هم عليه في الخفاء رغم سبهم أمريكا وإسرائيل ليلا نهارا. ما أريد الآن الكلام فيه هو الكذبات الخمسة التي هي “حلي” أدعياء الحداثة في بلاد العرب وكانوا ظاهرين في الانظمة العسكري مشرقا وفي كل المغرب والتي تجعلهم معارضين بالأقوال ومتعاونين مع اجهزة الاستبداد والفساد بالأفعال، تماما كما تفعل “الممانعة” في علاقتها بإسرائيل وأمريكا. وهذه الكذبات الخمسة تنقسم إلى: • اثنتين يزكون بهما أنفسهم، التقدمية والديموقراطية التي صارت برجوازية بعد أن كانت شعبية، • واثنتين يجملون بهما ما يسمونه الحداثة، فيزكونها بهما مفهوم التنوير ومفهوم العقلانية • والأخيرة تجمع بين ذلك كله وهي كذبة الدين أفيون الشعوب وعلة التخلف ثم الإرهاب. وما كنت لأكتب في الموضوع لو بقي مقصورا عليهم، لأنهم ليسوا أهلا لأن يرد عليهم. ما يدفعني لبيان هذه الكذبات الخمسة هو أنها لم تتبين من نفس طبيعة صف “الممانعة” من انظمة العرب العسكرية، بل هي أصبحت عين ما يتصف به أنظمة العرب القبلية، وخاصة النظامين الممولين للثورة المضادة. فعندما تكتشف أن المراهقين الممولين للثورة المضادة هم أيضا يدعون التحديث والعلمنة والتنوير ومحاربة الدين لأنه أصل الارهاب والتخلف وادعاء التنوير والتحرير، بل والعروبة والإسلام فأنت تعجب من هذا التناحي المتبادل، الجميع ينحو إلى نفس الموقف من التحديث عند أكثر الناس كفرا بقيم الحداثة. فلو كانوا يعلمون حقيقة هذه القيم، ويسعون حقا للعمل بمقتضاها، لأدركوا أن أقرب شيء إليها عندما تفهم حق الفهم هو عين قيم الإسلام إذا فهمت حق الفهم وأن تحريفهم لها من طبيعة تحريفهم لقيم الإسلام عندما استعملوه باعترافهم لخدمة أجندات نفس حماتهم وموظفيهم حاليا: عمالة بينة وصريحة.
وقبل الكلام على الكذبات، فلاصف المناخ العام في البلاد العربية خلال القرنين الماضيين. ويمكن تقسيم خاصياته بالتمييز بين تأثير الاستعمار الفرنسي وتأثير الاستعمار الانجليزي وما ترتب عليهما من اختلاف لا يزال جوهريا بين أقطار ما يسمى بالوطن العربي الذي هو عربي حضاريا وليس عرقيا.
واستثني من هذه القسمة مصر: فهي أكثر تأثرا بالاستعمار الفرنسي، رغم عدم مروره بها، من الاستعمار الانجليزي الذي احتلها. فنخبها الأساسية كانت فرنسة الهوى ولا تزال. بخلاف الخليج والعراق وحتى اليمن الذي غلب عليهم التأثير الانجليزي. وهذه المقابلة مهمة جدا لعلاقة موقف النخب من الدين بها. لكن المشترك بين الحالتين والحالة المزيجة هو أن الإسلاميين لم يكن لهم دور يذكر في الحكم لا مع الاستعمار المباشر خلال حضوره، ولا مع الاستعمار غير المباشر لما غادر وترك البلاد لهم “غوافير” لديه بشرطين: 1. يأخذ نصيبه كاملا. 2. ولهم حرية التصرف في ما يبقى في الشعوب.
لكن ما يتميز به الاستعمار الفرنسي على الاستعمار الانجليزي هو: 1. التدخل في ثقافة الشعوب 2. ومحاولة فرض اليعقوبية التي تحكمه في بلاده 3. وكذلك الماركسية التي سيطرت على نخبه. وفي الحقيقة فالماركسية لها صلة وطيدة باليعقوبية، لأن فرنسا كانت ملجأ لقيادتها وكانت منصة دعايتها حتى أنهاها ميتران. فمن حكم الخليج خمسة عوامل: 1. شركات النفط 2. ونخب عرب الشمال 3. والقبائل 4. ثم المستشارون الغربيون 5. ثم “الحكام” الاميون. والشباب المتعلم بقي عديم الدور والسلطان، ولما أفسحوا المجال لبعضه، اختاروا بعض المنبهرين بالغرب دون عميق فهم ولا نية التحرر من وضعية المحميات.
ومن حكم المغرب هم من اختارتهم فرنسا من عملائها حتى يغيروا ثقافة شعوبهم وتعويضها بالثقافة الفرنسية، مستفيدين من يسر ذلك على من هم من الشعب بعد أن فشلت محاولاتهم هم في فعل ذلك بسبب صمود ثقافة الشعب وما يثيره وجودهم المباشر من تحريك حمية الأمة في الحفاظ على هويتها.
وما قلته على الخليج يصح على العراق واليمن. كذبة العراق يقال قبل سقوط نظام صدام إنه شديد التقدم -وكنت دائما لا أصدقها- تبين أنه ما يزال قبليا وعروشيا وبدويا، وما يوجد من عنتريات ثقافية ليس بعيدا عما كنا نسمعه من عنتريات سياسية. أما اليمن فلا حاجة للاستدلال، ما عليه حاله اليوم كافية. وكان يكفي أن أثبت أمرين: • أولا لا أحد من بلاد العرب تقدم إذا قورن بما حدث في البلاد الآسيوية التي تحررت بعدنا. • لا أحد من بلاد العرب حكمه الإسلاميون، إذ حتى الخليج فرجال الدين فيه مساكين يتهمون بكل الشرور وهم مغلوبون على أمرهم لا حول لهم ولا قوة مع سلطان بدوي غفير عن المستعمر.
وليس المغرب العربي في حالة أفضل ولا خاصة عرب الشمال: فهؤلاء اثبتت الثورة أنهم أكثر ارتهانا بالاستعمار الخارجي من كل بلاد العرب. وهم مرتهنون كل أنواعه: • أولا بذراعيه إيران وإسرائيل. • وثانيا ببقايا الباطنية والصليبية التي كان همها الحرب على وحدة الامة ولا يزال. وهذا الوصف للحال السياسية والثقافية في بلاد العرب خلال القرنين الماضيين، يثبت أن كل ما حدث في هذه البلاد إذا كان لأهله فيه دور، فيمكن أن ينسب ذلك إلى كل أحد إلا إلى الإسلاميين سواء كانوا تقليديين أو حداثيين. وحتى إذا كان لهم دور فهو مقصور على تحمل الضيم والاجرام من “الحداثيين”.
ولست بحاجة للتأفين بالمعنيين. فتونس في عهدكم وعهد زعيمكم الثاني، بل وبداية من عجز زعيمكم الأول، وبدليل أولى مبادرات زعيمكم الحالي، صارت الأفيون أو الزطلة (افيون مخفف) توزع في المدارس في ساحاتها أو أمام أسوارها لأن المافيات التي تحكم، هي مافيات تهريب لكل ما يدر أسرع ربح.
وأما الترهب فيوجد دليلان على أنكم أنتم أصحابه. قتلتم عضوين من حزبين ينافسانكم، لأنه لا يحسب لهم حساب بمعنى القوة السياسية، وليس لهم قاعدة انتخابية تذكر، ومن ثم فلا مصلحة سياسية تنافسية تفسر اغتيالهما غير التنافس بين قيادات أحزابهما وتوظيف الاغتيال لتحقيق الانقلاب السياسي. وإلى حد الآن اكتفيت بالكلام على ما يعتبر أقل خطرا مما سيأتي ذكره: فمن أفسد نظام التربية؟ ومن أفسد نظام الاقتصاد؟ ومن أفسد نظام الإدارة؟ ومن أفسد النقابات؟ ومن يفسد الآن القوى السياسية؟ ومن أخيرا يريد أن يحارب مقومات السيادة السياسة (الحرية والاستقلال) والثقافية العربية والإسلام؟ وهبكم تنصلتم من المسؤولية لوضعها على كاهل ابن علي وأسرته، فلا أحد يصدق هذ التنصل، إذ لا يمكن لما لا يقبل الاشتعال أن تشعله قدحة نار شريرة. والمافيات التي ساعدت ابن علي، أو التي بنى عليها كل سياسته، صارت الآن مرئية بالعين المجردة، وهي وراء الأحزاب التي تتناحر من أجل بيع البلاد.