لاحظت أن الكثير من المنظرين للدونكيشوتية يتصورون تونس بمعزل عن ميحطها في الجغرافيا السياسية الإقليمية والدولية والمرحلة التي تمر بها بمعزل عن منزلتها في التاريخ السياسي الاقليمي والدولي.
والعجيب أن الدكاترة من المتكلمين باسم دونكيشوت الثورة سواء في المهجر (مستشار سابق يدرس في باريس) أو في تونس (مستشارون لا يزالون موظفين عند الدولة تفرغوا للحملة وأجرهم جار على حساب الدولة) يحدثونك بخفة تلامس السذاجة عن الثورة والثوار ناسبين ذلك إليه ومقدمين إياه وكأنه زعيم حقيقي حاصل على شرعية شعبية جارفة :
- فلكأنهم يجهلون أن قاعدة دونكيشوتهم الشعبية لا تتجاوز إثنين في المائة من الناخبين في كلتا التجربتين اللتين سئل فيهما الشعب وعبر عن إرادته بحرية : ما يعني أن الشعب لا يعترف بالمرزوقي زعيما أو قائدا للثورة بدليل عدم مده بشرعية الصندوق.
- ولكأنهم يجهلون أن الرهان الدولي اليوم لا علاقة له بهذا الدونكيشوت وتوابعه من المراهقين السياسيين الذين ذاقوا لذة العيش في ظل سلطة لا سلطان لها : ما يعني أن الهم منصب على الكرسي وليس على دوره البناء.
وكل كلام على خصال دونكيشوت تعني أنهم لا يفهمون المطلوب من الوظيفة التي يسعى إليها : فلا يهم إن كان متكلمانيا وإن كان حقوقيا وإن كان جنوبيا وإن كان يتكلم عدة لغات وكتب عدة كتب. فنحن لا نبحث عن مفكر بل عن قائد مرحلة خطيرة في تاريخ الشعب التونسي أي مرحلة أهم شيء فيها هو تثبيت النتائج المهمة التي حصلت بفضل الثورة : بداية الصلح بين رافدي حركة التحرير الوطني في مناخ قيم الثورة مثل التعددية والحرية وتقاسم السلطة والقبول بحكم الصندوق وإعطاء الوقت للوقت حتى تندمل الجراح ويتحقق الصلح الذي يجعل التداول على السلطة عادة حميدة فلا يكون الخلاف السياسي خلافا حضاريا يذهب بالشعب إلى صدام حضارات بين نماذج عيش متنافية.
لا نريد أن نعود إلى الحرب الأهلية التي يعللها الإسلامي بضرورة أسلمة الجميع بعنف المجتمع والحداثي تحديث الجميع بعنف الدولة. لا بد أن يتعايش الجميع وأن يكون لكل حريته في اختيار نموذج العيش الذي يريد دون أن يسعى لفرضه على غيره,.
وأقول “لكأنهم يجهلون” لأني لا أصدق أن هؤلاء المستشارين يجلهون لأني لا اتصورهم حمقى إلى هذا الحد. إنما هم يتجاهلون حتى يقامروا كالمدمن على القمار بمال غيرهم أي بالبعض من شباب الثورة بجنسيه سواء كان إسلاميا أو غير إسلامي ممن يصدقون أن دونكيشوت يمكن أن يقود ثورة وأن يحمي أحدا. وكان ينبغي أن يتساءلوا عن علة عجزه في قيادة حزيب انقسم بفضل حكمته البالغة إلى خمسة أحزاب أربعة خرجت منه ولم يبق معه إلا حزب مؤلف من الموظفين عنده. فمن تشتت جماعته بهذه السهولة في معركة اختيار الحكومة المنتخبة الأولى ثم خلال السنة الثانية من حكمها ومن لم يبق له إلا موظفوا الرئاسة من مستشاريه ليدمجهم في حزبه لا يمكن أن يكون قائد ثورة ورئيس دولة في ظرف تتلاطم فيه أمواج الأخطار من حولها.
ينبغي أن يفهم الشباب بجنسيه طبيعة الرهان حتى لا يكون حطب معركة لم يمكّن من فهم تشاجناتها المعقدة. وكل مسعاي وعودتي للمعركة هو المشاركة في التصدي لمن يلعبون بمستقبل البلاد والعباد من أجل طموح شخصي ليس لهم إمكانياته ويريدون استعارتها من غيرهم فيكونوا بذلك داخلين في الربح خارجين من الخسارة : فالمستهدف الأول والأخير هو الثورة وخاصة قاعدتها الأكبر والأقوى أعني الشباب الإسلامي بجنسيه. وما عليكم إلا أن تنظروا من حولكم : من الذي يضرب ويعذب ويسجن ويقتل ويحرق ويستعمل في المؤامرات على الثورة ليكون بعضه أداة المجرمين وبقيته ضحاياهم.
إنه طموح لم أعد أشك في أنه مرضي. إنه ركوب على ثورة يراد التضحية بها وبقاعدتها الأساسية من أجل خلق زعامات دونكيشوتية تحارب النواعير لأنها ستفر كما فعلت سابقا وتحتمي بالجلاد الاستعماري تاركة هذه القاعدة لمصير نرى بعضه من حولنا وعاشه الكثير من نخب الأمة في المراحل السابقة. ذلك أن من يفقد الوعي إلى هذا الحد بالوضع المحلي والإقليمي والدولي فيتصور تونس جزيرة لا صلة لها بما يحيط بها من تحديات لا يمكن أن يكون سليم العقل وحكيم السياسة. فالوضع المحلي والإقليمي والدولي إذا لم يعامل بحذر قد يحول المغامرة الدونكيشوتية إلى نكبة توقع تونس في مستنقع حرب أهلية لن تخرج منها لا قدر لها إلا ممزقة شر ممزق بمقتضى النعرات التي يعتمدونها في حملتهم الانتخابية.
وحتى لا يعد كلامي تهويلا وتخويفا فإن ما يجري في ليبيا وما حدث في مصر وما عليه حال سوريا واليمن من الأدلة الكافية لكل ذي عقل. وكل المغامرين الآن – رغم مشاركتهم في الترويكا – متحالفون موضوعيا مع اليسار الذي يدعي الثورية رغم أنه كان أول المصفقين لبشار والسيسي وحفتر وهم الذين ساعدوا في عودة النظام القديم ومنعوا كل إمكانية لنجاح الموجة الأولى من الثورة : ليسوا متصالحين مع قيم الأمة إلا لامتطاء القوة السياسية الممثلة لإرادتها حقا. وقد فعلها من قبلهم اليساريون والقوميون في مصر : إذ كلهم نجحوا في الانتخابات على قائمات أو بمساندة من الإسلاميين ثم طعنوهم في الظهر. وذلك ما سيحصل بمجرد أن يصلوا لأن بقاءهم في السلطة مع النداء إن رضي ببقائهم لغايات معلومة-بيان القبول بنتائج اللعبة الديموقراطية شكلا لإزالة شرط شروطها فعلا أي القوة الوحيدة التي لها ثقل شعبي حقيقي- سيكون هذا شرطه.
لكني سأقدم للشباب دليلا آخر عليهم تدبره حتى يفهموا أن المرزوقي وشلته يقامرون بهم في معركة خاسرة سواء ربحوا الانتخابات أو خسروها لأنهم خاضوها بالتغرير وليس بالتنوير والتدبير. وهذا الدليل هو مجرد مقارنة بسيطة بين موقفين متقابلين من القوى الاستعمارية إزاء الربيع العربي قبل معرفة أبعاده وبعد التحقق منها :
لما كانوا يتصورونه ثورة جياع يطالبون شكليا بالحقوق العالية وفعليا بالشروط الدنيا للحياة دون أدنى تفكير في شروط التحرر من التبعية صفقوا للربيع العربي وأرادوا أن يؤسسوا لجمهوريات موزية تأتمر بأوامر المستعمر اي إنهم تصوروا الربيع العربي “تبديل طرحة” لتعويض خدم فقدوا الفاعلية بخدم جدد مع شعارات شكلية ومواصلة نفس التبعية.
لكن لما تبين أن الثورة أبعد غورا وأنها تحولت إلى إرادة حقيقية للتحرر وتحقيق شروط الحرية والكرامة غير التابعة أعني لما تبين أن الشعب قد اختار ممثليه وليس من كان الغرب يعدهم لتبديل الطرحة بسياسة ما يسمى بالمجتمع المدني الممول والمكون من قبل الاستعلامات الغربية عندها انقلب على الربيع وأراد تصفية ممثلي الشعب بحق.
لذلك فإن محاولات دونكيشوت وشلته بوعي أو بغير وعي هي في الحقيقة حلف موضوعي مع هذا المسعى الغربي للقضاء على القوة الحقيقية للثورة من خلال ربطها بالإرهاب لتيسير ضربها والقضاء عليها : فالدفع بتونس إلى حرب أهلية سيكون في النهاية دفعا إلى تسليح الثورة ضرورة كما حدث في سوريا ومن ثم إلى معاملة تونس معاملة سوريا. وذلك ما ينتظره أصدقاء بشار والسيسي وحفتر. فسواء نجح المرزوقي أو فشل فإن المآل هو ما كان سيحدث لو لم يحصل الحوار الوطني الذي “صبر” الثورة المضادة والدولة العميقة فلم تصل بمسعاها التآمري ولعبة الإرهاب المخابراتي إلى الغاية لأنها حققت لها المقصود.
و كان يمكن تجنب هذا المآل لو أدرنا الموجة الأولى للثورة بحكمة تغنينا عن ضرورة اللجوء إلى تخلي النخب السياسية عن العلاج السياسي و اللجوء إلى الخلط بين السياسي و الإجتماعي ما يدل على أن النخبة السياسية في تونس لم تكن ناضجة لإدارة المرحلة الإنتقالية بصورة تحقق وحدة قوى الثورة و توقف زحف الثورة المضادة التي يريدون الآن التصدي لها تصديا دنكيشوتيا.
لكن الثورة المضادة إن لم تلعب اللعبة الديموقراطية بحق – وهومستبعد – فإنها في حالة عدم الوصول إلى الحكم سلما فإنها مباشرة بعد الانتخابات ستعود إلى سياسة التصفية النسقية ليس بالضرورة بالعنف الذي مارسه ابن علي بل بأدوات الدولة التي ما تزال غير مؤمنة بقيم الثورة لأن دونكيشوت يسر لها الأمر.
فغباوة حملته وصمت مؤيديه بوصمة الخلط بين الإسلاميين الذين يريدون المشاركة في حياة سياسية مدنية ومن يستعملهم الاستعمار وعملاؤه من الثورة المضادة والدولة العميقة لتشويه الإسلام والإسلاميين. فهذا الخلط سييسر على أعداء الثورة ضرب قاعدتها الأساسية أعني الإسلاميين الديموقراطيين.
فالثورة ليس لها قاعدة متينة وممثلة لإرادة الشعب بحق غيرهم لأن غالبية اليسار والقوميين انضموا إلى الثورة المضادة في كل اقطار الربيع العربي. والمعلوم أن بقية القوى السياسية المنظمة مهما كانت توجهاتها لا تمثل عشر الشعوب العربية. وجلها تابعة إن لم تكن متواطئة مع التبعية الحضارية والسياسية والثقافية : وهي كانت كذلك قبل الثورة ولا تزال بعدها لأنها تقدم صدام الحضارات والصراع الحضاري على العلاج السياسي للمشاكل التي تعاني منها الأمة.
أبو يعرب المرزوقي