خصومة مجلس القضاء الأعلى فوضى المؤسسات للجهل بوظائفها

**

تمهيد

كثرت المواقف الديماغوجية حتى وصلت إلى الفوضى المؤسسية وتكاد تقضي على إحدى وظائف الدولة الأساسية التي يتقوم بها مفهومها السوي : القضاء شرط كل حماية لسلامة الحياة الجمعية حتى لو كانت بدائية (القضاء العرفي). فمعركة المجلس الأعلى للقضاء ذهب بعض صفوفها إلى درجة من الخلط لو تحقق ما يطلبونه بالفعل لآل إلى القضاء على القضاء.

ولهذا الخلط أربع مستويات علينا بيانها لتحديد دور مجلس القضاء الأعلى بوصفه مؤسسة تحقق شروط القضاء المستقل عن السلطة التنفيذية وعن طرفي الخصومات التي يقضي فيها. واستقلاله بوظيفته يحتاج إلى حماية وهي ما نحاول تحديد شروطها هنا بالدقة العلمية التي تحول دون هذه الأنواع من الخلط.

ولنبدأ بتحديد أنواع الخلط التي بدأت تطل علينا كما نستشفها من الحوارات الدائرة والمستندة إلى سوء فهم لعبارة وردت في الدستور وتتعلق بالثلث المستقل في التكوينية بعد أن نحدد طبيعة المقومات التي ينبغي أن تتألف منها مؤسسة مجلس القضاء الأعلى لتؤدي بوظيفتها أعني حماية استقلال القضاء بحماية القاضي من التدخل بمقتضى تدخل الاستبداد أو تدخل الفساد المباشر أو غير المباشر.

أصناف الخلط

وأنواع الخلط هذه هي :

خدمة العدالة 1: القاضي ودور المحامي

الخلط الأول بين دور القاضي في عملية القضاء ودور المحامي وهذا الخلط من أخطر أنواع الخلط. ذلك أن من جوهر القضاء ما لأجله يكون حكما أي عدم الانحياز لأي طرف من أطراف الخصومات التي يحتكم إليه فيها. والمحاماة من جوهرها أنها تنحاز إلى الموكل لحمايته ليس من الحيف القضائي فحسب بل وكذلك من العدل القضائي على الأقل للتخفيف عن الظالم الذي يحاول المحامي استعمال قدراته لإيجاد المعاذير إن لم نقل الحيل لتمكينه من تجنب العقاب.

ورغم أن المحاماة تركز على الوجه الأول من وظيفتها فإن الحقيقة الفعلية والغالبة على المحاماة هي الوجه الثاني. ولولا ذلك لما كان كلا طرفي الخصومة يوكل محاميا : فالمحاميان بالتمثيل هما عين الخصمين. ولما كان الخصمان فيهما من هو ظالم ومن هو مظلوم فعلى الأقل محامي الظالم لا يكون مساعدا للعدل بل هو على الأقل مساعدا للإفلات من العقاب. والدليل أن أهم مجالات الربح هو الجنائي وخاصة بالنسبة إلى من يدفع أكثر. وهذا لا يناقض القضاء بل يسانده. ولو اقتصرت المحاماة على هذا الدور لكان انضمام المحامين لمجلس القضاء معقولا. لكن هذا الوجه الغالب من المحاماة هو الوجه الثاني ومن ثم فالمحامي طرف في الخصومات ولا يصح أن يكون مجلس القضاء الأعلى الذي وظيفته حماية استقلال القضاء أن يوجد فيه من هو في آن قاض ومتقاض لأنه في كل الأحوال أحد طرفي النزاعات بالوكالة.

خدمة العدالة 2: القاضي ودور عدل التنفيذ

وقد نتج عن هذا الخلط الأول خلط ثان بين دور القاضي وعدل التنفيذ فيه إذ بات عدول التنفيذ يطالبون بالمشاركة في المجلس. وإذا دخله المحامون فهم أولى لأن صلتهم بالحكم القضائي أكبر من صلة المحامين إذ هؤلاء طرف في الخصومة بخلاف أولئك. فالقاضي حكم بين المتخاصمين والمحامي نائب المتخاصمين وعدل التنفيذ ناقل للحكم إلى التنفيذ –وإذا استثنينا حالات الفساد– فهو مجرد ناقل للحكم من النص إلى الواقع.

خدمة العدالة 3: القاضي ودور القوة العامة***.***

الخلط الثالث إذا قبلنا بضم عدول التنفيذ فإنه ينبغي أن نضيف كذلك القوة العامة بخلط ثالث لأن التنفيذ يحتاج إليها سواء حصل من دونها في حالة الخصوم المسالمين أو اضطر العدل إلى اللجوء إليها في حالة الخصوم المشاغبين. ولعله آت بين دور القاضي ودور الشرطة التنفيذية وخاصة من يتقدم على تدخل القضاء في البحث الابتدائي : فقاضي التحقيق يمكن أن يلغي كل ما يقدمه التحقيق الابتدائي إذا تبين له أنه لم يحترم الشروط القانونية والحقوقية في التعامل مع المتهم انطلاقا من مبدأ البراءة المبدئية حتى تثبت التهمة.

خدمة العدالة 4: الحماية القانونية والحماية النقابية

الخلط الرابع بين الحمايتين لاستقلال القضاء ولشروط الاستقلال المادية للقاضي أو الحقوق النقابية. فحماية القضاء تتعلق بمنع تدخل السلطة التنفيذية في أحكامه وحماية حقوق القاضي الاجتماعية تتعلق بالحد من إفساد القضاة من خلال أدوات التخويف والتطميع الأدوات التي تساعد السلطة التنفيذية في التدخل غير المباشر عن طريق قضاء حاجات بعض القضاة الفاسدين (النقابة أو الجمعية الممثلة للقضاة من هذا الوجه).

مستويات القانون ومكونات القضاء

لا بد من تحديد مستويات القانون الخمسة مستوياته التي ينبغي أن تحدد مكونات القضاء فتبين من ثم مقومات المجلس الأعلى للقضاء مقوماته التي تسهر على حماية استقلال القضاء ليس عن السلطة التنفيذية فحسب بل خاصة عن أطراف النزاع ذات المصالح المتناقضة.

فأطراف النزاعات يمكن أن تؤثر بالتدخل المباشر (مصدر الفساد البين) فضلا عن التدخل غير المباشر عن طريق تأثيرها في السلط التنفيذية والتشريعية وحتى القضائية (مصدر الفساد الخفي ليس للقضاء فسحب بل لكل مؤسسات الدولة الفساد الذي يجعل الديموقراطية تتحول إلى أليغارشية):

***1-***القضاء العدلي

من حيث هو الحكم بين المتخاصمين باستعمال قواعد الفصل بينهم مدنيا كان أو جناحيا أو جنائيا اعتمادا على الموجود من القانون.

2-القضاء الإداري بين المواطنين والإدارة.

ولا بد هنا من ملاحظة مهمة يغفل عنها المنظرون للقانون. لا بد من أن نضم إلى القانون الإداري نوعا من القضاء غير محدد الطبيعة بدقة بسبب الفصل بين أصناف الإداري والعدلي والدستوري وعدم اعتبار الوسائط بينها الوسائط التي تنقل من أحدها إلى الآخر من حيث الطبيعة العميقة (مثال ذلك أن آخر درجات القضاء العدلي له بنحو ما منزلة تشريعية بالقياس إلى ما دونها من الدرجات):

أ–فالقضاء الذي يفصل بين مؤسسات الإدارة في ما بينها منه منازعات أو من أحكام مثل المراقبة والمحاسبة تقويما وتعديلا غير محدد الطبيعة رغم أنه من جنس دور مجلس الدولة لكنه ليس مثله استشاريا وقبليا بل هو قضاء جازم وبعدي يمكن أن تنتج عنه عقوبات.

ب–ـ والمعلوم أن نسبة هذا القضاء إلى القضاء الذي يفصل بين السلطات الثلاث (المحكمة الدستورية) من جنس نسبة لدرجة الأخيرة من القضاء العدلي : فكلاهما يكاد يكون سلطة مشرعة لما دونه من درجاته. إنه يكاد يكون له سلطة مشرعة لأحكام الإدارة مثلما أن التعقيب له سلطة مشرعة لما دونه من أحكام القضاء العدلي. وإذن فكلاهما سلطة تشريعية أو تكاد لما دونه من درجات دنيا.

ج– لكن هذا النوع يكون كذلك بصورة خفية صورة تحتمي بالتشريع الصريح الذي تستند إليه السلطة التنفيذية: فمثلما أن أحكام الدرجة الثالثة من القضاء العدلي لها رتبة التشريع لما دونها من أحكامه فكذلك يكون لأحكام المراقبة والمحاسبة على الإدارة رتبة التشريع لما دونها من أحكام الإدارة وتصرفاتها: مثل القرارات والمنشورات التنظيمية والترتيبية إلخ… من قرارات الإدارة وخاصة ما يتعلق منها بالإدارة المالية للدولة (المحاسبة والمراقبة البعدية خاصة).

***3-***ما بين التشريع التنفيذي (القوانين بأصنافها) والتشريع التشريعي ( الدستور )

ما بين التشريع التنفيذي أي القوانين بأصنافها والتشريع التشريعي أي الدستور (بين الدستور والقوانين التي يستعملها الحكم لتنفيذ مهامه) من علاقات هي في الحقيقة جوهر الأنظمة الديموقراطية: لأن الحزب الحاكم بنوابه له سلطة تشريعية وبحكومته له سلطة تنفيذية والعلاقة بين السلطتين مقلوبة: لأن التنفيذ في هذه الحالة هو الذي تصدر عنه مشروعات القوانين والتشريع بالتضامن الحزبي يكون وكأنه مأمور بدلا من أن يكون الآمر. لذلك فالكلام على الفصل بين السلطات يعني فصلا فنيا لا فصلا حقيقيا يجعل السلطة التشريعية هي الآمرة. ومن هنا يأتي ما يقد يصيب القوانين من أعراض تجعلها تخرج عن الدستور إن ليس نصا فروحا.

***4-***وما بين التشريع ككل بما فيه الدستوري وروح النظام القانوني العام

وما بين التشريع ككل بما فيه الدستوري وروح النظام القانوني العام الذي ينتسب إلى البعد النظري من القانونية عامة. وهذا النوع من الأحكام النظرية في القانون من أهم مجالات النظرية القانونية المتعلقة بالتناسق الداخلي بين القوانين بمقتضى روحها ومع المرجعيات وبين العناصر المقومة للمنظومة القانونية.

***5-***ما بين التشريع بكل درجاته و أخلاق الأمة وأعرافها

وأخيرا ما بين التشريع بكل درجاته دستوريا وقانونيا وإداريا ما بينها وبين أخلاق الأمة وأعرافها محافظة وتقدما في آن. وهذا أيضا من أهم عناصر النظرية القانونية لأنه يمثل المحرك الأساسي لتقدم التشريعات الوضعية سواء بالاعتماد على الحق الطبيعي الوضعي أو الديني.

مقومات المجلس الأعلى للقضاء

لا نستطيع تحديد مقومات المجلس الأعلى للقضاء وتحديد المقصود بالثلث غير القضائي في المجلس الثلث المستقل من دون أن نفهم طبيعة هذه المستويات الخمسة التي ذكرناها ودورها في حماية استقلال القضاء:

***1-***المستويان الأولان قضاء عادي :

كلاهما يقتصر على مجرد تطبيق القانون كما هو دون تجاوز إلى إدراج أسسه فيه تسليما بالموجود منه لحفظ الالتزامات والعقود والجناحيات والجنائيات. وحتى حق القضاء الجنائي في التدخل في الإجراءات وأدوات الإثبات والنفي بخلاف اقتصار دوره في المدني على الحكم بمقتضى ما يقدم له دون تدخل منه فإنه محكوم بالموجود من القانون بمستوياته الحاصلة وليس بمقتضى النظرية القانونية كما سنرى.

2-المستويان الأخيران قضاء نظري لتعيير القضاء العملي إن صح التعبير:

وهما أساس كل فكر قانوني حقيقي يصل بين المنطق القانوني (الرابع) والشرعية الخلقية لكل قانون (الخامس). ولولا هذين المستويين لما وجد تمييز بين القضاء بما هو عملية تطبيق للقانون والقضاء في هذه العملية ذاتها بمقتضى ما يوجبه المنطق القانوني والشرعية الخلقية للقانون. التمييز بين النظرية القانونية والتطبيق القانوني هو من جنس البحث العلمي الأساسي والتطبيق الفني للنظريات العلمية.

***3-***والمستوى الأوسط أي الثالث

هو الدال بحق على استقلال القضاء أو القضاء الدستوري الذي ينبغي أن يكون قضاته دائمين مدى ما بقي من حياتهم المهنية وغير قابلين للعزل inamovibles وأن يكونوا منتخبين من الشعب أو على الأقل من السلطات الثلاث المعهودة. ذلك أنهم هم الملجأ الأخير لحماية الحقوق وإضفاء الشرعية على عمل المؤسسات والسلطات بكل درجاتهما.

الثلث المستقل من غير القضاء ممن يتألف ؟

لا بد أن يكون أعضاء الثلث المستقل مؤلفا من أعضاء منتخبين من المستويين الأخيرين من القضاء بمعناه الشامل:

1-من مستوى النظرية القانونية أولا: أعني من أساتذة القانون بمعنيين: فلسفة القانون عامة والقانون الدستوري والحقوقي خاصة.

2-من مستوى الشرعية الخلقية: أعني من أساتذة فلسفة الدين وفلسفة الأخلاق والانثروبولوجيا القانونية والقضائية.

وهؤلاء الأعضاء ينبغي أن يكونوا منتخبين من السلطات الثلاث إذا لم نذهب فنجعلهما منتخبين من الشعب مباشرة. أما الثلثين الآخرين فينبغي أن يكونوا منتخبين من القضاة أنفسهم بأنواعهم التي ذكرنا وبإبعاد دور النقابات لأن تدخلها يجعل الانتخاب يصبح من الدرجة الثانية. والمطلوب أن يكون من الدرجة الأولى حتى يكون بحق ديموقراطيا في مستوى الجسم القضائي. وينبغي حماية القضاء من تدخل المصالح المباشر أو غير المباشر كما أسلفنا ومن ثم فلا يحق للمحامين ولا للعدول ولا للأمن التنفيذي ان يكونوا أعضاء في المجلس الذي يحمي القضاء من التدخلات.


خصومة مجلس القضاء الأعلى فوضى المؤسسات للجهل بوظائفها – أبو يعرب المرزوقي

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي