لتحميل المقال أو قراءته في ص-و-م pdf إضغط على العنوان أو الرابط أسفل النص
مقدمة
كنت ولا زلت مع اعتبار المصالحة -بعد الثورة- شرطا في المحاسبة بعكس الرأي السائد. وعللت ذلك بكونها هي التي تحدد مناخ المحاسبة حتى يكون عادلا وغير انتقامي بخلاف القول السائد : “حاسبني كعدوك وكولني كخوك » فالمطلوب أن “تعاملني كخوك وأن تحاسبني بعدل وإنصاف”.
التمييز بين المصالحة والصلح
لكن الخداع الذي يجعلني أعود مرة أخرى للكلام في الموضوع هو الخلط بين أمرين لا وجه للمقارنة بينهما :
- المصالحة المحددة لمناخ الانتقال الديموقراطي بعد ثورة شعبية
- وصلح الدولة مع المعتدين على تشريعاتها المالية.
وهو خلط متعمد وليس وليد الغفلة ولعله من وعود الانتخابات لمن مولها لبعض الاطراف التي ترد الجميل:
المصالحة المحددة لمناخ الانتقال الديموقراطي بعد ثورة شعبية
فالمصالحة التي تكون محددة لمناخ الانتقال الديموقراطي تتعلق بالمصالحة العامة التي تعيد إلى الشعب وحدة اللحمة التي فقدها بسبب نظام الاستبداد والفساد الذي أزاحته الثورة.
والهدف هو : حتى لا يبقى الشعب ملتفتا إلى الماضي ومنقسما انقساما أساسه العدوات السابقة.
وهذا النوع حصل في تجارب سابقة كالحال في المصالحة التي حدثت يوم فتح مكة أو في المصالحة التي حدثت في جنوب افريقيا أو في المغرب : نوع من قلب الصفحة والالتفات إلى المستقبل وخلاله تتم محاسبة أعيان المجرمين بعد عزلهم من التهمة العامة للعهد السابق.
صلح الدولة مع المعتدين على تشريعاتها المالية
أما ما يراد تمريره بمغالطة التسمية -مصالحة- فلا علاقة له بالنوع الاول.
ويمكن أن نسميه عفو الدولة على جرائم معينة مع مؤسساتها بشروط الصلح لا المصالحة معها أعني الشروط التي من جنس الصلح مع الديوانة أو مع البنوك أو مع الجباية أو مع الضمان الاجتماعي إلخ..
وهذه تتعلق بجرائم محددة وبمجرمين معينين معلومين وبمصالح إدارية مسؤولة في الدولة مع مطالبة باسترداد مال الشعب بل هي تعد مشاركة في الجريمة إن سكتت عليها ولا تتعلق بمناخ عام نريد التخلص منه من أجل تحقيق التآخي في الجماعة.
أهداف المصاحلة الحقيقية
فالعلاج الأول لا بد فيه من تقديم المصالحة على المحاسبة. و لا يتعلق الأمر بمحاسبة كل من تتم معهم المصاحلة أي بمحاسبة كل الجماعة التي كانت مع المسيطرين على البلاد بسبب النظام السابق بل بمحاسبة من كان بيدهم سياسة البلاد فاستعملوها لتقسيم الشعب إلى مستعمِرين (الحزب الحاكم والمنتفعين بسلطانه) ومستعمَرين (بقية الشعب).
والهدف من تقديم المصالحة على المحاسبة في هذه الحالة مضاعف لأنه يتعلق بضمان العدل وبضمان السلم الاجتماعية والأول خلقي والثاني سياسي:
الهدف الأول خلقي
ويتعلق بالعدل لئلا يؤخذ البريء بجريرة المجرم. فالكثير ممن كان مع الحزب الحاكم لم يكن مجرما بالقصد الأول بل كان بالقصد الثاني أي إن طبيعة النظام والسياسة المتبعة هي التي جعلته يكون في أحد الصفين اللذين تم تقسيم الجماعة إليهما. وبهذا التقديم تكون غالبية الجماعة حتى لو استفادت من السياسة الماضية بمقتضى منطقها ليست معرضة لمحاسبة حول أمر غير محدد الوصف الإجرامي.
الهدف الثاني سياسي
ويتعلق بما يمكن من تحديد من ينطبق عليهم الوصف الإجرامي لأفعالهم بالقصد الأول. وأول هذه الأفعال هو هذا التقسيم للجماعة لأنه جريمة سياسية وخيانة لأمانة حكم البلاد.
والهدف سياسي لأن تأخير المحاسبة بعد المصالحة يعزلهم فيحول دون تقوية صفهم بتعميم التهمة وتخويف الغالبية في النظام السابق. وهي حيلة يلجأون إليها ليدخلوا البلد في حرب أهلية. فالمجرمون يستغلون فكرة المحاسبة لإقناع غالبية من كان مع النظام السابق بأن المحاسبة هي من جنس “من أين لك هذا”. فيصبح نصف الشعب أو ما يقرب منه معارضا للمحاسبة خوفا من أن تشمله بدلا من أن يكون مؤيدا لها باعتبارها إحقاقا للحق وليست سعيا للظلم أو للانتقام.
صلح الدولة مع اللصوص ليس مصالحة
وإذا كان الوضع الاقتصادي يقتضي صلحا مع اللصوص فلا بأس إذ يمكن أن يكون لذلك تبرير سياسي بشرط ألا يمرر بالخداع. وينبغي ألا نسميها مصالحة مع رجال الأعمال لأن من ليس بلص منهم غني عن المصالحة والصلح ولا يخشى أي محاسبة.
ولكن عندئذ تؤخذ الحالات بأعيانها فتحدد طبيعة الجرم والطرف الممثل للدولة بخصوصه ليفاوضه في شروط الصلح الذي هو عمل قانوني معتاد في كل بلاد العالم : من جنس الصلح الديواني أو البنكي أو الجبائي ولا يحتاج إلى قانون مصالحة يخادع ليمرر جرائم تمس ثروة الوطن وشروط تنميته.
وهذا الصلح الديواني أو البنكي مع من يمثل الدولة والصالح العام ينبغي أن يكون مشروطا بأمرين لا تنازل عنهما :
الأمر الأول
هو إرجاع المال المسروق أو المستحوذ عليه بغير وجه حق بقيمته التي كانت له لحظة الاستحواذ عليه. ذلك أن قيمة العملة تغيرت كثيرا ولا يمكن لمن استحوذ على المال العام منذ عشرين سنة أن يرده بالقيمة الحالية للعملة التونسية.
الأمر الثاني
دفع الفائدة على المدة التي مرت منذ الاستحواذ إلى لحظة الصلح لأن المال في هذه الحالة -وهو معنى الصلح- يعتبر وكأنه سلفة أو قرض على الحاصل عليه أن يدفع كلفة الاستفادة منه أو الفائدة بالتقدير الذي تداول خلال المدة التي مرت بين الاستحواذ والصلح.
الاستحواذ الأخطر على الإطلاق
وأخيرا فإن نوعا آخر من الاستحواذ يحتاج إلى قرارات مناسبة تتعلق خاصة باستغلال النفوذ والإثراء غير المشروع. لكن هذا النوع الثاني عسير التحديد فضلا عن كونه يمكن أن يوظف لتخويف الشعب بأن الثورة تنوي العمل بمنطق “من أين لك هذا”.
فروع المحاسبة
لذلك فإن هذا النوع من المحاسبة يتبع كما أسلفنا مبدأ تقديم المصالحة فيه على المحاسبة حتى نوفر مناخا خلقيا وسياسيا يجعل الانتقال الديموقراطي يبقى سليما وسلميا.
وعندها تصبح المحاسبة ذات فرعين بمنطق أجيال حقوق الإنسان لو كان الوضع التونسي طبيعيا :
الفرع الأول : الجيل ألأول من حقوق الإنسان
الفرع الأول يتعلق بالمسؤولية السياسية في مجال الجيل الأول من حقوق الإنسان : الحقوق السياسية والمدنية للمواطن وللوطن أيضا لأن منع الحريات لا يضر بالمواطن فحسب بل يضر بآليات تنمية الوطن الثقافية والفكرية والإبداعية.
الفرع الثاني : الجيل الثاني من حقوق الإنسان
يتعلق بالمسؤولية السياسية في مجال الجيل الثاني من حقوق الإنسان : الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطن والوطن لأن منع الحقوق المادية للمواطن يضر بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية للوطن ككل.
الفرع الثالث: الجيل الثالث من حقوق الإنسان
ويمكن أن نضيف فرعا ثالثا كان من المفروض ألا يوجد في مجتمع موحد مثل المجتمع التونسي : يخص مجال الجيل الثالث من حقوق الإنسان. لكنه لسوء الحظ وجد ولا بد من أخذه بعين الاعتبار : إنه نوع ثالث ويتعلق بالحقوق الثقافية للمواطن.
فقد وقع عدوان صارخ على ثقافة الشعب وعلى حرياته العقدية والروحية. وهذه الحقوق تختلف عن النوعين السابقين ليس لأنها تسمى الجيل الثالث من حقوق الإنسان فحسب بل لخصوصية وجودها لدينا. فهي لا تتعلق عندنا بالأقليات الثقافية في ثقافة الأغلبية بل بالعكس تماما.
إنها معكوسة عندنا. فهي حماية حق الأغلبية في عيش ثقافتها وممارستها بحرية ثقافتها التي قهرتها ثقافة الأقلية بأن فرضت عليها بقوة الدولة ودعاية المكتسبات الحضارية تحول الدولة إلى سلطة دينية باسم التنوير المستبد فأصبحت دولة وكنيسة في آن.
في العالم كله العلمانية تقول بعدم تدخل الدولة في الدين نظير عدم تدخله في الدولة إلا عندنا فهي كنسية وليست علمانية. أي إن الدولة هي التي تحدد الخطاب الديني المسموح به بل هي التي تكتب ما ينبغي أن يقوله الأيمة في المساجد فضلا عن تعيين الأيمة الذين يخضعون لتأويلها الديني.
وليس من شك في أنها هي التي تحدد ما ينبغي أن يقوله اساتذة الدين والفكر الديني في دروسهم الجامعية بحيث إن الدولة أصبحت بابوية رغم ادعائها أنها علمانية. وهذا هو في الحقيقة مفهوم العلمانية الماركسي : الدولة التونسية تعتمد الستالينية وليس العلمانية الليبرالية. فهي تحكم الشعب وتقيد كل حرياته.
وهي الآن توظف التخويف من الإرهاب لوأد ما تبقى من منجزات الثورة : الحريات العامة.
يرجى تثبيت الخطوط
أندلس Andalus و أحد SC_OUHOUD
ونوال MO_Nawel ودبي SC_DUBAI
واليرموك SC_ALYERMOOK وشرجح SC_SHARJAH
وصقال مجلة Sakkal Majalla وعربي تقليدي Traditional Arabic بالإمكان التوجه إلى موقع تحميل الخطوط العربية
http://www.arfonts.net/