خبراء أمريكا لا ينطقون الا على الهوى

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله خبراء أمريكا لا ينطقون الا على الهوى

سأعود إلى الكلام في علوم الملة. لكني الآن سأكتب في أمر اعتبره أثرا أزوفا لأنه يتعلق بما وصل إليه الاعتقاد عند الكثير بأن ما تخطط له أمريكا واستراتيجيوها قضاء وقدرا وهو سأحاول بيانه دون أن ادعي الاستشراف الذي صار ممضوغة الخبراء المزيفين: غيب المستقبل لا يستشرف وإنما يتوقع بعضه. وبعضه الذي يتوقع يسميه الفلاسفة الممكن الفعلي الذي هو محدود بقوانين الطبيعة وسنن التاريخ. لكن التاريخ وحتى الطبيعة يفاجئان الإنسانة ويبقيان مفتوحين على الممكن بإطلاق اللهم إلا إذا قلنا في استشرافيا بشرط أن تبقى الامور على ما هي عليه لحظة التوقع بالمعلوم من المعطيات. ولما كان التوقع ينطلق دائما من الحاضر وكان الحاضر في سيلان أبدي فلا بد من تثبيت حقبة يسميها ابن خلدون حقبا للتاريخ المديد بالمقابل مع التاريخ القصير للدول والأسر الحاكمة مهما طالت. والحاضر السيال هو بؤرة معترك التغير البطيء الذي لا يكاد يحس وهو ليس خاضعا لإرادة الإنسان كما يتوهم. وهذا التغير البطيء الذي يحكم التاريخ المديد ذو مستويين كلاهما مضاعف: فالماضي حاضر في الحاضر بأحداثه وبأحاديثه التي تبقي حية والمستقبل حاضر في الحاضر بأحاديثه التي تخطط لأحداثه التي نريد توقعا. وهو ما يقتضي عملا تأويليا للحديثين وعملا تحليليا للحدثين. وبهذا سأبين سخف خبراء أمريكا. لماذا عاجلت بالكلام في الموضوع؟ لأن صديقا عزيرا من الكويت طلب رأيي في تقرير مؤسسة رند لسنة 2007 والخطة المتعلقة بهزيمة الإسلام قياسا على هزيمة الاتحاد السوفياتي. ومن هنا تبدأ الحماقات الخمسة التالية: 1. هذا القياس. 2. توهم الامريكان خرجوا منتصرين من المعركة مع الشيوعية. 3. أذرعهم. 4. الحلف الممكن بين المسلمين وأمريكا. وكنت أفهم لو أن الأمريكان 5. قاسوا ما يرتبون له على ما حصل مع علمنة المسيحية في بداية العصر الحديث ولها صلة بالإسلام كما يعلم كل من يعلم تاريخ العلاقة بين الحضارتين طيلة القرون الوسطى. فهنا يمكن بنحو ما للمقارنة أن تستقيم لأن العامل الخارجي المؤثر هو نحن والثورة عملها الحداثيون. وسآخذ هذه المسائل الخمس لأبين أن الخطة تتجاهلها لأنها تعلم أنها حائلة دون كل ما يطمحون إليه: فشتان بين دين غاص في أرواح الشعوب حتى وإن خانه عملاء الغرب وبين أيديولوجيا لم يؤمن بها إلا النومونكلاتورات وبعض النخب الحالمة بتغيير قوانين الاجتماع بل وحتى بتغيير قانون الوراثة البايولوجية. الإسلام ليس إيديولوجيا نخبة بل هو عقيدة شعوب حتى لو وجد من بين النخبة من لمجرد التقليد الببغاوي يقيس مصر الإسلام على مصير المسيحية فضلا عن قيس معركته التاريخية مثل هؤلاء الخبراء المزيفين على معركتهم مع السوفيات. فالماركسية لم تنبت في أي ارض إلا بالستالينة ومثيلاتها في العالم. وهبني لضرورة تقدم الجدل بأن الإسلام انتشر كما يزعمون بالقوة. فالوقت الذي مر -أربعة عشر قرنا ونيف-كان كافيا ليضرب بعروقه في كل أرض حل فيها وآمن به أصحابها ولم يبق شاذا إلا ما يشبه الذين كما سنرى تريد امريكا الاعتماد عليهم لتغيير الإسلام. ليس للسذاجة حد. المسألة الثانية: هل انتصر الأمريكان على السوفيات؟ ولأورد المعيار الذي لا جدال فيه: هل نقص أصدقاء أمريكا أم زادوا؟ لا أظن أني بحاجة إلى دليل. فهم يتصورون أن أضعف عدو هو نحن وأنه يمكنه جعلنا تابعين ما ييسر عليها المحافظة على امبراطوريتها في نظام العالم الجديد الذي لا صديق لها فيه. هبني سلمت أنهم انتصروا على السوفيات لكن ذلك تطلب ثماني سنة لأيديولوجيا لم تنبت في ارواح الشعوب فكم ستبقى امريكا للانتصار على المسلمين؟ الثابت أن الاستعمار منذ حروب الاسترداد حاول ذلك وكان بعض رجال الدين يعلمون العربية والقرآن ويحاولون إقناع المسلمين فلم يفلح منهم أحد. وعسكريا منذ ذلك المنحنى بصدد التغير في كل المستويات حتى بما يتصورون أنهم بهم تفوقوا لأننا نعلم أنه جله مما نحتاج إليه يمكن اعتباره بضاعتنا ردت إلينا بفضل إصلاح التعليم وإدخال العلوم الرياضية والطبيعة والتقنيات المطبقة لها في استعمار الإنسان في الأرض. لكن العامل الداخلي الاهم في سقوط السوفيات ليس قدرة أمريكا بل اساسا فشل النظام لشيوعي سياسيا واقتصادي في مستوى فاعلية الدولة وخلقيا واجتماعيا على مستوى فاعلية الكنيسة الشيوعية لأنها لا تخلف في شيء من كيسة القرون الوسطى بسلطان إيديولوجي هدام روح الشعوب والعلة هي خيانة النومنكلاتوريا -ولنا مثلها في انظمتنا القبلية والعسكرية- لكن أثرها سطحي لأن الشعوب ممتلئة بالثقافة الإسلامية ولا تعير أهمية لما يستورده قدرة الغرب من قشور الحضارة. والثورة الحالية ستحررنا من قشور الحداثة وقشور الأصالة لأنهما يمثلان كاريكاتور الحداثة والأصالة. والخيانة في الحالتين هي تحول النمكلاتوريا إلى مافية نقلت ثروات الشعوب إلى بنوك الغرب وأصبحت تعيش على النموذج الأمريكي وشعوبها تزداد فقرا ما يقرب من حصول الثورة التي ستجعل الشعوب الإسلامية قاطرة ثورة كونية لتحرير الإنسان من انواع الفشل الاربعة التي ذكرت. والفشل الاصلي الذي يوحدها هو الذي يحدد العامل المؤثر الأخير وهو شعور الشعوب بأن هذا النظام ومثله الرأسمالي يقتلان كل ما هو روحي في الإنسان ويستعيضان عنه بدين العجل مادته (الذهب) وخواره (الايديولوجيا) وكلاهما لم يبق الشباب الحديث في العالم عبدا لها بل عادت فيه الروح. ولولا مقاومة المسيحية في أوروبا وأمريكا اللاتينية والإسلام في دار الإسلام والبوذية في أديان الشرق الأقصى لما استطاعت أمريكا هزيمة السوفيات. لكن الذين ساعدوها في ذلك هي الآن تعبرهم يمثلون الإرهاب عامة والإسلامي خاصة فأكثرت من أعدائها وهي خاسرة حتما. ويكفي أن نسحب ما خسرته أمريكا منذ غزو العراق وافغانتان -وهي حرب لن تتوقف إلى باستسلام أمريكا للأمر الواقع: فلا يوجد من يستطيع تركيع المسلمين مهما فاخر بقوته التقنية. وطبعا لا أحد منا يعول على أدوات أمريكا السابقة لتحرير الأمة بل ثورة الشباب والصلح بين الإسلام والحدثة هو الحل أمر إلى المسألة الثالثة: الأذرع التي سيعتمد عليها لتحقيق هذه الخطة. هل يوجد عاقل يمكن أن يصدق أن مراهقيْ الخليج ومعهم عميل إسرائيل يمكن أن يغير أهل الخليج فيتنازلوا عن ثوابتهم من أجل سخافات العلمانيين والليبراليين قشوريا لأننا نعلم أنه من العصبية المفضية للهرج (ابن خلدون). ما لم أفهمه حقا كيف لخبراء من هذا الحجم المزعوم ينسون الاستعمار طيلة خمسة قرون جرب ذلك وفشل والدليل أن الامبراطورية الأوروبية كلها انهارت وهي تحاول العود لكن أمريكا تستعمرهم كما تستعمرنا ولهذا رأيت أن الحلف في ملتقى القارات الثلاث ضرورة استراتيجية. وأخيرا ففي هذه المسألة يتأكد الجميع أن أمريكا تعلم أنها مكروهة عالميا وتلك علة سعيها للسيطرة على البحار وعدم الاطمئنان لمن تسيمهم أصدقاء بدليل قواعدها في بلدانهم: فهي لا تأتي لتحميهم بل لأنها غير واثقة من صداقتهم وهي تحمي امبراطوريتها التي ستسقط إن واصلت حربها علينا. لا أدعي أننا سنغلبها عسكريا بل ادعي أنها لن تغلبنا عسكريا. ستبقى الحرب سجالا في بؤر متوالية بلا نهاية حتى تأتي أمريكا لحلول وسطى مشروطة بالندية وإلا فستسقط وقد نسقط معها. لكن ما بيد الحيلة والمسلمون لن يركعوا لغير الله أو لن يسالموا إلا من يجنح إلى السلم. بقيت المسألة الرابعة في تعداد المسائل وهي مسألة الحلف الممكن بين المسلمين وأمريكا إذا فهمت أنها لا يمكن أن تستغني عنا وأنها لا يمكن أن تستعمرنا كما تشتهي. حينها سنلتفت معا لنظام العالم الجديد الذي يحيط بدار الإسلام إحاطة الخاتم بالإصبع وأن أمريكا لن تبقى امبراطورية من دوننا. وهذه عين الحكمة لأن الحضارتين العربية الإسلامية واللاتينية المسيحية حتى وإن نضبت عين المسيحية في الغرب فإنها ما تزال فاعلة في أمريكا لولا فيروس الصهيونية المسيحية. وهذا يقتضي ان نسأل أمريكا هل هي تريد البقاء امبراطورية أم تريد أن تتحول إلى أداة امبراطورية إسرائيلية؟ وأختم بالمسألة الأخيرة التي تدل على جهل أصحاب التقرير: فعلمنة المسيحية بعد الإصلاح تعني التخلص من وساطة الكنسية بين المؤمن وربه ووصاية الحاكم بالحق الإلهي بين الشعب وامره. وهتان الثورتان هما ثورتا القرآن ولا تحتاجان للعلمنة لأن رعاية الدنيا جزء مقوم للإسلام. ويكفيني شاهدا أحد كبار فلاسفة ألمانيا ومؤرخي الادب -هاينه- فهو وصف رواية جوته التي تتكلم على علاقة الإنسان بالدنيا بأنه منتج إسلامي بالجوهر ذلك أن الكنيسة كانت تعتبر العناية بالدنيا في الإسلام من علامات كونه ليس دينا من وحي الله بل من وحي ابليس.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي