حكومة الشاهد، غير شرعية حتى بموافقة البرلمان

**** حكومة الشاهد غير شرعية حتى بموافقة البرلمان

نعم ما حدث في تونس انقلاب بأتم معنى الكلمة. المشكل ليس في تحديد طبيعته التي هي دون شك انقلاب، بل في تحديد طرفيه: انقلاب من على من؟ وإذن فما حدث يحتاج لفهمه أن نجيب عن الأسئلة الثلاثة: • لماذا أحكم بأنه انقلاب؟ • من الذي قام به؟ • على من قام به؟ وثلاثتها تتضمن سؤالين أساسيين. • السؤال الرابع: هل كان يمكن تجنب الانقلاب؟ • السؤال الخامس: هل يمكن أن يحول دون الانقلاب الأكبر الذي قد يترتب عليه أم هو سيعجل به؟ خمسة أسئلة أولها هو تعليل حكمي بأنه انقلاب بأتم معنى الكلمة ثم تحديد الفاعل ثم المنفعل ثم قابلية تجنبه وأخيرا هل يحول دون انقلاب أكبر أم يعجل به؟ وأملي أن تكذب الأحداث أجوبتي وتوقعاتي خاصة.

تحديد طبيعة ما حدث أساسه معنى رئيس الحكومة في نظامنا الدستوري الجديد: هو الشخص الذي اختارته الأغلبية التي ربحت الانتخابات لتحقيق البرنامج الذي نالت بمقتضاه الأغلبية. وفي حالة اعتبارها إياه فد فشل في تحقيقه بوسعها تغييره ويكون منها ما لم تتغير الأغلبية. ولا يمكن لأي شخص أن يعالج أزمة في حزبه بالتعدي على المبادئ الأساسية في النظام الديموقراطي. فأي نظام ديموقراطي يعتبر المدة بين الانتخابين خاضعة لشرعية الأغلبية التي وصلت إلى الحكم مهما تغيرت التوازنات بين القوى السياسية لأن تقديرها الذي يضفي عليها الشرعية هو العودة إلى أصل الشرعية أي الانتخابات وإلا لاستحال استقرار الحكم الضروري للعمل السياسي ولإنجاز البرامج. وتغير الأغلبية لا يقع بين الدورتين حتى لو فقدت في الأمر الواقع ما يفيد أنها ما زالت أغلبية مثلما يحدث في الاستفتاءات ناهيك عن أسبار الرأي. فيكون ما حدث خروجا عن هذه القاعدة ومن ثم فهو انتقال للأغلبية بالأمر الواقع وليس تغييرا بالأغلبية بالأمر الواجب. والمعلوم أنه قلما يحافظ أي حزب حاكم في الأنظمة الديموقراطية على شعبيته التي كانت له في الانتخابات لأن الإنجاز غالبا ما يكون دون الوعود. فلو تابع الحكم منحنى الشعبية مثلا لاستحال بقاء أي اغلبية المدة الفاصلة بين دورتين. لذلك فمبدأ احترام المدد في الديموقراطية يعتبر أهم شروط فاعليتها. ولا يعني ذلك أنه يستحيل تغيير الأغلبيات بين الدورتين. لكن ذلك يحصل بآليات معلومة وهي في الغالب تعود إلى آلية واحدة شرعية وهي تقديم الانتخابات إما بطلب من المعارضة أو بتعطل عمل الأغلبية وخاصة في مستوى التشريع. كل ما يحدث بطريقة مغايرة انقلاب سواء كان لطيفا أو عنيفا. وغالبا ما يؤول الأول إلى الثاني في النهاية وهو ما أخشاه على تونس وخاصة على المتعجلين في التغيير دون إعطاء الوقت للوقت من اجل اندمال الجروح وتحقق الاستقرار التواصلي بين القوى السياسية قبل الاستقرار السياسي. صحيح أن الانقلاب الذي نعالجه هنا ليس انقلابا عنيفا كما حدث في مصر لكنه انقلاب حتى لو أن جل المحللين يحاولون شرعنته معتبرين تغير الأغلبية في الأمر الواقع وكأنه شرط كاف ليحدث أغلبية لرئيس الحكومة ومؤيديه من دون أن تكون هذه الاغلبية الجديدة هي التي ربحت الانتخابات السابقة وشاركت في وضع البرنامج الذي صارت بمقتضاه أغلبية ليحق لها إعطاؤه شرعية برلمانية لترأس حكومة.

وإذن فالأغلبية التي حصل عليها -أو كان يمكن أن يحصل عليها إن لم يحصل عليها فكلها انقلابية- هي أغلبية الأمر الواقع بمقتضى الوقوع De fait وليست أغلبية الأمر الواجب بمقتضى القانون De droit . وكل ما يحدث بمقتضى الأمر الواقع يعتبر انقلابا على ما يكون بمقتضى الأمر الواجب سواء في السياسة أو في الاخلاق أو فيهما معا. فالسيسي مثلا يحتج بـ30 يونيو أو شرعية الشارع المفتعلة ضد شرعية الانتخابات السابقة. وكان يمكن أن ينتظر تابعوه مما يسمى جبهة الانقاذ الذين يدعون تمثيل اغلبية الأمر الواقع انتظار انتهاء المدة أو المطالبة بانتخابات سابقة لأوانها لجعل الأمر الواقع أمرا واجبا بالآليات الديموقراطية. لكن الشاهد ومن أعطاه شرعية مخالفة للشرعية التي أتت به ليكون ممثلا للأغلبية الانتخابية السابقة قبل نهاية الدورة يعتبرون انقلابيين لأنهم اعتبروا اغلبية الأمر الواقع كافية ومغنية عن شرعية الأمر الواجب. ومن ثم فما فعلوه انقلاب دون أن شك. والفرق الوحيد بينهم وبين السيسي هو براءة جيشنا وعدم الوصول إلى سفك الدماء. ولذلك فهو قد يكون مدخلا إليه بانقلاب أخطر. وختما للجواب على السؤال الأول ينبغي أن أوضح أن رئيس الحكومة له شرعية غير مباشرة تستمد من شرعية الأغلبية التي اختارته لهذه المهمة أعني تحقيق البرنامج الذي نالت بمقتضاه الاغلبية وهي قد نالتها لمدة الدورة الانتخابية دون اعتبار للتغيرات قبل نهايتها وإلا لاستحال تحقيق أي برنامج. ولو قلنا غير ذلك لصار بوسع رئيس الحكومة أن يحكم باسم الأغلبية التي أوصلته إلى الحكم ثم بمحض اختياره يمكنه أن ينتقل ليحكم باسم المعارضة التي صارت اغلبية بمقتضى الأمر الواقع دون أن يكون هذا الأمر الواقع قد صار أمرا واجبا بمقتضى انتخابات تجعلها أغلبية ذات شرعية انتخابية بالأمر الواجب: ذلك هو شرط الشرعية غير المباشرة المستمدة من ممثلي الشعب. أعتقد أن هذا الاستدلال لا يقبل الطعن إلا من يريد أن ينكر أساسيات الديموقراطية ومن ثم فلا يحق له أن يجادل في الاستدلال بل أن يجادل في نظرية الحكم الديموقراطي ومعنى رئيس الحكومة في النظام البرلماني أو نصف البرلماني كنظامنا الحالي. والأهم أن الاستدلال أعد للجواب على الأسئلة الباقية. وأعلم أن هذه الأسئلة ستزيد في من قد تغضبهم تحليلاتي ومتهميها بـ”التفلفس” لأن من لا يساوم على المبادئ يحاول ألا يتبع ميوله الشخصية في تقييم الخيارات السياسية. وكم يكون ذلك عسيرا على النفس الميالة للهوى. لكني مع ذلك سأقدم على الجواب. فالسؤال الثاني لم يعد من المنقلب والثالث من المنقلب عليه بل صارمن هي اغلبية الأمر الواقع ومن هي أغلبية الأمر الواجب حاليا. والجواب لا يكون ميسورا لمن لا يستنتج أن الإشكال السياسي الذي ينتج عن التقابل “أمر واقع-أمر واجب” يقتضي ضرورة أن الأول حصل بعد أن لم يكن والثاني زال بعد أن كان قبل نهاية الدورة الانتخابية وهو مؤذن بتغير سيحصل في نهايتها وبداية الدورة التي تليها. ومن ثم نفهم المقابلة بين انقلابين ممكنين يتسابق أصحابهما بمنطق التمانع. ومعنى ذلك أن الأمر الواقع الذي حصل والأمر الواجب الذي زال في المعترك السياسي يجعل هذا المعترك يعيش تحت وطأة النتائج المنتظرة في الانتخابات التي قد تجعل الأمر الواقع يصبح أمرا واجبا فيكون من فقد الأمر الواجب مهدد بفقدان ما كان له من شرعية الانتخابات السابقة. وقد يوجد في سلوكه ما قد يجعل ما ينتظر أن يصبح أمره الواقع أمرا واجبا في الانتخابات المقبلة ومن ثم فهو يجد نفسه خائفا على ممكنه الاستقبالي من من خوف الثاني على حاصله الحالي: فيكون كلاهما بسبب خوفه لم يعد صابرا في انتظار الحسم الديموقراطي وفضل حسم التسابق على منع انقلاب الثاني. وهذا قد يؤدي مباشرة إما إلى اتهام النهضة التي بمقتضى نتائج الانتخابات البلدية الإيجابية تنتظر أن الأمر الواقع الحالي سيتبدل لصالحها في الانتخابات المقبلة مثل البلديات أو إلى واتهام النداء الذي بمقتضى نتائجها السلبية يتنظر أن الأمر الواجب الحالي سيتبدل فيفقد الشرعية التي نالها في الانتخابات السابقة. ولأن ذلك يبدو بدهيا فإن جل المحللين والعجلين منهم على وجه الخصوص تسليما جدليا بحسن النوايا ذهبوا إليه واعتبروا ما حدث انقلابا بإيعاز من النهضة خوفا من أن يحدث انقلاب من النداء يحول دون وقوع الانتخابات المقبلة فيحرمها من ان تنتقل اغلبيتها من الأمر الواقع إلى الأمر الواجب بمقتضى هذه الانتخابات إذا حصلت وحصلت بصورة ديمقراطية.

ورغم بداهة هذا التحليل فهو متسرع. ذلك أن الأمر الواقع والأمر الواجب لا يتعلق بما بين الأحزاب فحسب بل هو أيضا موجود في كل حزب على حدة. والكثير يتوهم أن النهضة بريئة من ذلك بمعنى أنها خالية من التنافس بين قياداتها وتياراتها لأنها كتومة. لكن هل يناقش أحد في عتو الظاهرة في النداء وحتى في الجبهة وبقية الأحزاب وحتى في النقابات؟ ولعل العنصر الثاني الذي يجب اعتباره للحواب عن سؤالي من المنقلب ومن المنقلب عليه أبعد غورا من عنصر التنافس بين القيادات في الأحزاب عامة وفي النداء خاصة وهو التداخل بين السياسي والنقابي بمعنييه نقابات العمال ونقابات الأعراف. فهؤلاء لهما نفس المشكل وهما المحركان للأحزاب. ولهذه العلل يصبح الجواب عن السؤالين من المنقلب ومن المنقلب عليه ليس يسيرا خاصة إذا أضفنا إليه أن الاحزاب والنقابات والمجتمع المدني في الدول التابعة ليست حركات مستقلة حقا ومعبرة عن الإرادة الوطنية الخالصة بل هي في الكثير من الأحيان مخترقة ويحركها ما يدل عليها علاقاتها بالسفارات. وبذلك يصبح السؤالان من الفاعل ومن المنفعل أكثر تعقيدا ويمكن أن يصاغا كالتالي: • من وراء من يبدو فاعلا من الداخل والخارج؟ • ومن وراء من يبدو منفعلا من الداخل والخارج؟ وهكذا نجد أن المسألة تتجاوز ما بين الأحزاب وما في الأحزاب سياسيا بدخول الاجتماعي والمافيوزي من المهربين والإرهابيين في منظومة الاقتصاد الموازي وبدخول محركي الدمى.

أعلم أنه يعاب علي ما يعتبره البعض تعسير اليسير وهو في الحقيقة بيان كشف تبسيط المعقد. فما حدث انقلاب بالمعنى الدستوري لأنه تغيير للأغلبية خلال الدورة وعدم انتظار التغيير الوحيد المشروع في الديموقراطية وهو ناتج عن جعل الأمر الواقع وكأنه أمر واجب بتحريف معنى شرعية رئيس الحكومة. البرلمان يعطي الشرعية لرئيس الحكومة الذي ترشحه الأغلبية وتدعمه. ويمكن إن تغيرت الأغلبية بين الدورتين أن تسقط الأغلبية الجديدة الحكومة فيعود الجميع إلى الشعب لانتخاب اغلبية جديدة. لكن الأغلبية بين الدورتين يمكنها أن تعزل رئيس الحكومة ولا يمكن للأغلبية الجديدة أن تتبناه. لأن تبنيها إياه يعني أنها حافظت على رئيس حكومة نزعت عنه الاغلبية التي أوصلته للرئاسة شرعية كونه رئيسا فلا يمكن حينها أن يطلب معاملته كرئيس وهو لم يعد يمثل الأغلبية التي عين للمهمة بوصفه ممثلا لها في إنجاز برنامجها. الشاهد انقلابي دون أدنى شك. والبرلمان لا يمكن أن يعطيه الشرعية. يمكن أن يصبح شرعيا إذ أسقطت المعارضة حكومته بعد أن تصبح غالبية بين الانتخابين فتقع انتخابات قبل أوانها يمكن أن يكون هو قائدها ويربح الأغلبية التي تكون بفضلها قد انتقلت من الأمر الواقع إلى الأمر الواجب دستوريا. وحينها يمكن أن يمده البرلمان بالشرعية إذا رشحته الأغلبية الجديدة التي قادها هو أو أحد مؤيديه من الأحزاب التي تريد إعطاءه الشرعية حاليا دون العودة إلى الشعب لجعل الأمر الواقع واجبا. وقد غالط المتكلمون في المسائل الدستورية مكتفين بالشكليات النصية ومتناسين شروطها المستمدة من طبيعة الديموقراطية. فلو كانت الأغلبية البرلمانية من غير الأغلبية الانتخابية كافية لرئيس الحكومة لأصبح شرعيا من دون شرعية الأغلبية التي جعلته رئيسا لأن العكس يعني أن كل فشل ظرفي في الحصول على اغلبية البرلمان في تمرير قانون مثلا تعني سقوط نهاية الأغلبية الانتخابية قبل نهاية الدورة وحينها لن تنجز أي اغلبية انتخابية برنامجها في المدة التي حددها الدستور لفاعليها بين الدورتين.

وأختم. سيقال: هذه طريقة الشكلانية الدستورية والتجريدية الفلسفية وكلام من لا أثر لكلامه في الأحداث. لكن لو كان من يطلب الحقيقة يطلب معها التأثير السريع والمباشر لما طلبها أحد. فغالبا ما يكون التأثير السريع والمباشر من الأعراض الخداعة: التاريخ لا تتحدد حقائقه بالعاجل ولا خاصة بالسريع. إنما هي متعلقة بالآجل والمديد. وبسبب امتعاض الناس عادة من طلب البعائد والرضا بالقرائب سأترك السؤالين الأساسيين دون جواب لأنه مخيف ولأني اجبت عنه سابقا في كلامي على العجلة وعدم الاعتبار بالتجارب السابقة. لم يكن بالإمكان تجنب الانقلاب بدليل حصوله. ولا معنى للقضايا الشرطية في الكلام على الماضي لأنه كلام من جنس ليت. المهم المستقبل وفيه الأخطر مما حدث غير مستبعد وهو علة كلامي لأن مآل العجلة يكون في الغالب الندامة. وأخيرا فلا يمكن أن يكون ما حدث انقلاب الغنوشي على السبسي لأن الأول لا يستطيع ذلك وحده. ولا يمكن أن يقال انقلاب الشاهد على حافظ لأن الشاهد لا يستطيع ذلك وحده. ولا يمكن أن يكون انقلاب تحالف الغنوشي والشاهد على السبسي وحافظ لأنهما لا يستطيعان ذلك من باب أولى. من المنقلب والمنقلب عليه إذن؟ كل هؤلاء وأولئك أدوات. ولنبحث عمن وراءهم. ولعل نظرة فاحصة في التشكيلة يعطينا “رأس الفتلة” خاصة إذا وصلناه بما يجري في الساحة العربية عامة والخليجية خاصة. فإذا أضفت البنك الدولي والسفارات فهمت من نظم الانقلاب وراء من يتهمون بتنظيمه وهم مجرد أدوات.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي