حكم الأعراب بآلة الإرهاب

استعمال المخابرات لآلة الإرهاب ليس خاصا بما يجري عندنا نحن العرب والمسلمين. ولا هو بالأمر العرضي في أدوات الفعل عند الأنظمة الاستعمارية. إنما الخاص هو أنها مضاعفة لأنها تستعمل مباشرة ممن ولوهم علينا من العملاء ونخبهم ومنهم بصورة غير مباشرة لمساندتهم خوفا من فشلهم. فعادة ما تكون آلة الأرهاب آلة في يد الاستخبارات الأجنبية لتخريب بلد من البلدان اعدادا لاستعماره أو لمنع تحرره أو لإخضاع قياداته حتى تستجيب لإرادة مستعمل الآلة. لكنها تزداد قوة عندما توظف استخبارات البلد نفسها ونخبه لأداء المهمة فتضاعف من قوة التأثير لأن المواطن يصبح مطلق القيود لا يكاد يتحرك أو يتنفس دون أن يكون خاضعا لسلطان شبه مطلق لهذه الأجهزة القمعية. وقد مرت هذه الآلة بمرحلتين :

  1. أولاهما أقرب إلى العمل بالتخريب المادي المباشر عن طريق مصالح مختصة في التخريب شبه الحربي
  2. والثانية أقرب إلى العمل بالتخريب الثقافي غير المباشر عن طريق ما يسمى عادة بالمجتمع المدني الممول أجنبيا.

فأداة الإرهاب الاستعماري اليوم هي آلة ذات ذراعين مادي ورمزي. والجامع بينهما هو الفساد وشراء الضمائر بالمال السياسي العابر للقارات. إنها آلة حرب ذكية ذات نموذج بايولوجي لغزو الجسم الحي المستهدف بزرع الجراثيم والفيروسات التي تنخره من الداخل.

فالاستعمار يستعمل أبناء الجماعة المستهدفة طابورا خامسا جندا لذراعيه الإرهابيتين (العنيفة واللطيفة) استعمالا يغنيه عن اللجوء إلى الغزو بالجيوش وتقلل من كلفته إنجازا وتزيد في ديمومته بقاء. ولجوؤه إلى الغزو المباشر كما يفعل في الوطن العربي ودار الإسلام علته أن حصانة الأمة لها من القوة الروحية ما حال دون تمكينه من الاندساس الفعال بما يكفي للتغلب على إرادة الأمة ما اضطره إلى الغزو المباشر.

إن هذه الأداة الإرهابية هي التي سيطر بذراعيها الاستعمار الغربي عامة والولايات المتحدة خاصة على العالم وبها أسقط جل الأنظمة التي كانت تحاول التحرر أو أجبرها على أن تتحول بالتدريج إلى أنظمة مخابراتية لتحمي نفسها في البداية ثم تحولت إلى أنظمة تقمع شعوبها لتبقى وبالتدريج صارت شعوبها عندها متهمة جميعا بكونها أدوات مؤامرة مخابراتية أجنبية. ولولا هذه الأداة الإرهابية بذراعيها لما تمكنت الولايات المتحدة من الإطاحة بالاتحاد السوفياتي (التخريب المخابراتي العسكري والثقافي).

خاصية الإرهاب المستعمل ضد المسلمين

لكن ما يميز استعمال آلة الإرهاب في الوطن العربي ودار الإسلام هو أنه أصبح أداة حكم للأنظمة العميلة ونخبها المستلبة. فعندنا وضدنا لم يقتصر استعمال الإرهاب على ما يقوم به الغازي بواسطة هاتين الذراعين لتحقيق مآربه بل هو صار يؤدي وظيفتين أخريين دون أن يكون وحيدا إذ هو يضيف إلى الاستعمال الوارد الاستعمال الداخلي للأنظمة المستبدة والفاسدة ونخبها:

  1. الوظيفة الأولى هي إرهاب الشعوب وتخويفها حتى تقبل بالاستبداد والفساد لئلا تؤيد محاولات تحريرها منهما وغالبا ما يكون وسيلة تشف يزداد زخمه بعد كل محاولة تحرر تقدم عليها الشعوب لأنها تجرأت فثارت: مثال سوريا الآن ومثال الجزائر في العشرية الأخيرة من القرن الماضي.
  2. الوظيفة الثانية خدمة الاستعمار باتهام المقاومين من أجل التحرر لمساعدة الاستعمال الوارد للإرهاب بصنفيه والحصول على السند الأجنبي الذي هو أيضا مؤلف من صنفي الإرهاب للبقاء في الحكم في غياب الشرعية الأهلية: مثل مصر وليبيا حاليا وما قد ينتظر تونس قريبا.

المتوقع في تونس بعد الانتخابات الرئاسية

ولعل ما يخطط له النداء بذاته ثم خاصة بتأثير من اليسار المندس فيه واليسار المحيط به (-وقد أعلن بعضهم على ذلك بعد في تصريحاتهم وتهديداتهم-) هو الإعداد لهذا السيناريو سواء نجح المرزوقي أو لم ينجح. وطبعا فمعركتهم ليست مع المرزوقي أو حزبه لأنهما لا يمثلان شيئا يذكر بل المستهدف هو الإسلاميون بالأساس لأنهم هم المنافس السياسي الوحيد ا لذي يخيفهم على امتيازاتهم المستمدة من الاستبداد والفساد.

لكن السيناريو قد لا يكون السيناريو مستهدفا الإسلاميين وحدهم بل حتى الدساترة في النداء لأن المشترك بين هاتين القوتين هو أن الإسلاميين دساترة ثعالبيين ويوسفيين بالأساس والدساترة دساترة بورقيبيين بالأساس لكن الجميع له علاقة وطيدة بالوطن والأمة واعتزاز بتراثهما وغيرة على مستقبلهما واستقلالهما. أما اليسار وأصحاب التحديث المستبد فإنهم قد أسهموا في اسقاط بورقيبة لرفضه مغامراتهم وفي أسقاط ابن علي لما شعروا بأنه بدأ يتخلص منهم. لذلك فإسهامهم في الثورة لم يكن لإيمان بقيم الحرية والكرامة بدليل عودتهم مباشرة للحلف مع بقايا نظامه بل كان مواصلة لفهمهم الكاريكاتوري للحداثة والعلمانية والعدالة الاجتماعية فهمهم الذي حولها إلى صدام حضارات مع الإسلام معتبرين إياه العدو الأول في تماه مرضي مع الأعداء التاريخيين للأمة. والفرق الوحيد بين الحالتين هو التسريع في التنفيذ أو الارجاء لحين:

  1. فإذا نجح المرزوقي فالمآل سيكون شبيها بما جرى في مصر أي الانقلاب الصريح والسريع وربما في الشهر الأول بعد الانتخابات ولن يتوقف الأمر عند الإطاحة به بل سيطاح بالمجلس والدستور.
  2. وإذا لم ينجح فسيكون الحال التأجيل مع مواصلة الانقلاب النقابي البطيء حتى يستعيد الحكم الراجع السيطرة من جديد في المناطق التي انطلقت منها الثورة والتي رفضته خلال الانتخابات.

ما العمل؟

والشباب بجنسيه سواء كان من الإسلاميين أو من غيرهم ممن أخلص للثورة بحق وكان متحررا من الاستعمار الذهني الذي يولد التبعية لسخفاء التحديثيين الموالين للاستعمار يريد علاجا لهذه الوضعية دون أن يتغافل عن حال الإقليم المعادي للثورة والحلف الدولي المعادي لعودة المسلمين إلى التاريخ أمة حرة غير تابعة وقادرة على التعامل الندي مع غيرها من الأمم. والمعلوم أن الجواب عن سؤال : ما العمل؟ مشروط بالجواب عن سؤالين آخرين متقدمين عليه:

  1. كيف نفهم ما يجري في الوضع العربي والإسلامي الراهن وما علاقة مطالب الثورة بمطلب الاستئناف التاريخي الكوني للأمة؟
  2. وهل للثورة مشروع واضح وقيادات بارزة وذات إمكانات استرايتيجية مثلما هو الشأن بالنسبة إلى الثورة المضادة؟

فإذا انطلقنا من الوضعية التونسية-ومثلها كل أقطار الوطن التي عاشت ثورة الحرية والكرامة وتعاني من تعثرها الحالي بسبب ما بين الثورة والاستئناف من علاقة فهمها الغرب وعملاؤه من الأنظمة والنخب وأدرك ما يمكن أن تمثله مستقبلا من توازن يحرر المنطقة كلها من الاستعمار فيجعها ندا- أمكننا الإشارة إلى أمر مضاعف يقدم أجابة أولية تمكن من فهم الوضع وتحديد رسالة الثورة التي ستعين القيادات والاستراتيجية.

وإذن ففيها إشارة إلى أن الوضعية رغم تأزمها فهي لصالح الثورة:

قوة الماضي والتبعية القيمية

فبين أن النداء الذي يسيطر عليه اليسار في تونس لا قوة له بذاته قابلة لأن يبنى عليها مستقبل الخيار البورقيبي الذي لن يتحقق فعلا إلا بمشروع مكمل لخيار الثعالبي ومصالح بينهما أي بناء تونس على مصالحة بين شقي الدستور القديم والحديث : الإسلامي والحداثي يمكن أن يمثلا المحافظة والتقدم في نفس المشروع الذي هو تحقيق الصلح بين قيم الإسلام المتحررة من الانحطاط الذاتي وقيم الحداثة المتحررة من التبعية الاستعمارية. وهذا هو ما أعنيه بالطريق الثالثة بين الثعالبية والبورقيبة إذ يغلب على الأول التأصيل والكونية الإسلامية وعلى الثاني التحديث والقطرية التونسية. والحل الأمثل هو التحديث الأصيل أو الأصالة الحديثة والجمع بين مستويين من الوحدة يجمعان بين الوطنيتين القطرية والإسلامية تماما كما تفعل أوروبا مثلا جمعا بين الوطنيتين القطرية الأوروبية.

لكن سيطرة اليسار على النداء قد تلغي منه دور الدساترة فتجعله تابعا لابن علي لا لبورقيبة. ولذلك فهما يمثلان الماضي الذي وقعت عليه الثورة من اجل مشروع متحرر منه يعيد إلى الشعب التونسي أبعاد هويته ويحقق له الحرية والكرامة: التحديث الغبي لابن علي ليس بورقيبيا والتجفيف السخيف لحلفائه من اليسار ليس تقدميا : بل هما جزء من الذراعين الإرهابيتين جهاز التخريب المادي (جهاز المخابرات : ابن علي) وجهاز التخريب الرمزي (جهاز المجتمع المدني الممول أجنبيا : اليسار) الذراعين اللتين وصفنا .

ومن ثم فلا مستقبل لهما مهما تغولا لحينٍ استفادةً من الثورة العربية المضادة التي تمثل تعجيز الثوار واعتمادا على السند الاستعماري بالغزو غير المباشر الذي وصفنا. ذلك أن القوة الوحيدة التي لهما هي بقايا العادات التي نتجت عن عقود الاستبداد والفساد اللذين وقعت عليهما الثورة واللذين ما كانا ليعودا بهذه السرعة لولا القوة المستعارة من الوضع الإقليمي (خوف الأنظمة العميلة التي تحالفت لتحمي نفسها من الثورة وتمولهم في تعثيرها) والدولي (حاجة الاستعمار لمنع تحرر شعوب المنطقة والمسلمين وعودتهم لدورهم التاريخي في المنطقة وفي العالم).

قوة المستقبل والتحرر القيمي

وبين أن الثورة وشبابها بجنسيه يمثل القوة الحقيقية الممثلة للمستقبل لأنها أولا تعبر عن تحرير الإنسان عامة ولأنها تستأنف رسالة الأمة بتخليصها من رواسب الانحطاطين : الانحطاط الذاتي ممثلا بالنخب التي تشوه قيم الإسلام والانحطاط المستورد ممثلا بالنخب التي تشوه قيم الحداثة. ومن ثم فالثورة بحاجة إلى التحرر من هذين الانحطاطين لتحقيق شروط المصالحة بين القيم فتتجاوز صدام الحضارات الداخلي وتمر إلى المعارك السياسية السوية.

لذلك فالعلاج الذي نحتاج إليها هو تدعيم التجربة الديموقراطية النشائية وذلك بتشجيع التحرر من تأثير النخب الممثلة للتطرفين الأصلاني والعلماني في الصفين المتصارعين لأنهما يقدمان صدام الحضارات المرضي بين نموذجين مجتمعيين. وكلا هذين النوعين من النخب مرفوض من المجتمع وهو أقلية لا تكاد تذكر ولذلك فكلاهما يعتمد العنف :

  1. أولهما يريد تحديث الناس بالقوة وفرض تصوره المشوه لقيم الحداثة والتقدم أعني ما ينتج عن الانحطاط الاستعماري الذي ورثه: القوة الرمزية وقوة الدولة.
  2. والثاني يريد أسلمة الناس القوة وفرض تصوره المشوه لقيم الإسلام والأصالة أعني ما ينتج عن الانحطاط الذاتي الذي ورثه: القوة المادية وقوة الثورة على الدولة.

وإذن فكلاهما يمثل خطرا على لحمة الجماعة وعلى تماسك الدولة لأنه لا فرق بين تشويه نوعي القيم في وعي الجماعة بأحد هذين الكاريكاتورين القيمين ولا فرق كذلك بين تحريف دور الدولة عند الحداثي المزيف والثورة على دورها عند الإسلامي المزيف. وفي كل الأحوال فهما يتغاذيان : كلاهما يغذي الثاني ويعيش بالزعم أنه يحمي الجماعة:

  1. إما باسم تصور منحط لقيم الإسلام خلطا بينها وبين قيم الجاهلية أو
  2. باسم تصور منحط باسم الحداثة خلطا بينها وبين قيم الاستعمار.

فهذا الصدام الحضاري يحول دون التطور السوي في الجماعة قيما وذهنيات ويحول دون التنافس السياسي السوي من أجل بناء دولة تعنى بوظائفها الأساسية أعني حماية الجماعة ورعايتها من حيث حاجاتها الأساسية وقيمها المشتركة.

فالتحرر من الصدام الحضاري يجعل الخلافات السياسية مفيدة لأنها تحقق شروط التنافس في الخيرات في حين أن الصدام الحضاري يحول الجماعة إلى حرب التهديم الذاتي المتواصل: واحدة تهدم الماضي لظنها أنه لم يعد صالحا بإطلاق والثانية تهدم المستقبل لظنها أنه فاسد بإطلاق. والإطلاقان عدميان يمنعان الحياة السوية التي هي مراجعة دائمة للذات مراجعة تصل بين الحي من الماضي والحي من المستقبل ليكون الحاضر إبداعا حيا لجماعة ذاتية التشريع وغير تابعة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي