ه
من علامات “الكلام” المبهم على مواقف إيران توهم إيران بخلاف الولايات المتحدة ذات صوت واحد. ومعنى ذلك أن عنتريات الحرس الثوري ليست بالضرورة هي مواقف الحكم الإيراني الذي يخاطب سرا الإدارة الأمريكية إما حقا أو تلاعبا عليها وعلى رأيه العام بـالمقابلة بين المتشددين والباحثين عن اتفاق مع الولايات المتحدة. وكيفما كان هذا الأمر -هل هو صادق أو مناورة إيرانية-فإني واثق من أن شيئا ما من هذا الشكل كان حاسما في قرار التراجع أي خلال العشر دقائق الأخيرة التي آلت إلى إيقاف الضربة. ودليلي على ذلك أمران:
- اعلام أمريكا بوسيط عربي إيران بنية الضربة.
- إعلام إيران أمريكا بوسيط سويسري بعدم ضرب طائرة آهلة.
ومعنى ذلك أن المفاوضات تتقدم وتكاد إيران تعلن عنـها لما تكلمت على الرد الدبلوماسي الإيراني على التعامل الدبلوماسي الأمريكي إحالة إلى هذين الاعلامين المتبادلين. وفي ذلك كله لا أحد يعير أهمية أو يحسب حسابا لسخافات الحكام والنخب العربية حول ما يجري وخاصة حول ما يتمنون أن يجري لأنه صار “حريما” بالمعنى المصري ينتظرن من البلطجي أن يحميهم في خدورهن وفجورهن.
هذه ملاحظة أردت إضافتها لما سبق أن قلت في الموضوع علما وأن موضوع التفاوض لم يبق الاتفاق النووي الذي حسم بمجرد خروج أمريكا من الاتفاق السابق. ومعلوم أن أمريكا وإسرائيل سيمنعونه ليس على إيران وحدها بل على كل الإقليم حتى تنفرد به اسرائيل ومعهم في ذلك كل أوروبا.
التفاوض سيكون موضوعه الدور المنتظر من إيران في المعركة الكبرى حول نظام العالم الجديد وموقع سايكس بيكو الثانية فيه. وهو عين الدور المنتظر من روسيا بنفس الوسائل في المعركة الكبرى مع القطب الآسيوي ومنها اخضاع السلام وداره لموقعها ولما فيها من ثروات ضرورية لأي قطب يسعى للسيطرة على العالم.
فهذه السيطرة لا يمكن أن تتحقق من دون حاجز يفصل بين الشرق الأقصى والغرب ويحول دون سيطرته على دار الإسلام. وهذا الحاجز عنصراه هما إيران وروسيا وربما الهند. فالمستهدف هو الشرق الأقصى وخاصة الصين ويتبع ذلك السيطرة على دار الإسلام لأن من يحوزها يمكن أن يفوز بالسلطان على نظام العالم الحديد لمائة سنة مقبلة هو دار الإسلام التي تركت الايتام على موائد اللئام لجبن الأقزام.
والشيء الثابت أن الاتفاق الجديد لن يكون فيه للحرس الثوري وللملالي ما لهم حاليا من سلطة. فهم الذين يريدون التصعيد والبقية لا يرون مانعا لتمريره. من سيكون صاحب السلطة الفعلية هم من فقدوها أي الجيش والطبقات الوسطى التي تضررت من الحصار والتي لا تعنيها طموحات الملالي بل عودة الشاهنشاهية وتقاسم دور الشرطي في الإقليم بعد اخضاعه مع إسرائيل.
وكل الذين يتصورون الحرب إذا حصلت ستكون شبه حرب كونية يخطئون خطأ جسيما لأنهم يضخمون قوة إيران كذبا وبهتانا. ولا أحد مستعد لتهديم بلاده من أجل الملالي وخاصة من بين الإيرانيين. لا أحد منهم يريد أن تصبح إيران مثل العراق أو مثل افغانستان. قد يفعل بعض دراويش العربان من مليشيات إيران العربية بعض الهرج. لكن ذلك أمره يسير وقد بدأ في سوريا ولم يستطيعوا الرد.
فالحرب إذا وقعت لن تكون بين مليشيا ودولة كما جرى ذلك إلى حد الآن بل هي حرب بين دولة عظمى ودويلة أوهى من بيت العنكبوت ليس فيها حديثا إلا الحديث. والكلام على قوة إيران أمام أمريكا إذا كانت فعلا تريد الحرب من علامات حمق المحللين العرب وحمقهم. وحتى إذا سمعت محللا أمريكيا يؤيدهم فذلك من الخداع الاستراتيجي ومن التضخيم الذي رأينا جنيسة لما كانوا يتكلمون على قوة العراق. فلو تهورت إيران فضربت قاعدة أمريكية في الخليج أو سفينة من اسطولها فلن يمنع أمريكا شيء من تكرار ما فعلته باليابان بعد بيرل هاربر ودون انتظار لأن السلاح جاهز.
والتهويل بين العرب علته ما بين العرب من الخونة والعملاء الذين هم مليشيات القلم الإيرانية والذين يمولهم عملاء إسرائيل من أنظمة الثورة المضادة. ذلك أنه لا يوجد عاقل يعتبر ما عجزت دونه ألمانيا والسوفيات وحتى الصين حاليا تستطيعه مليشيات سلاحها بالقياس إلى سلاح أمريكا “شماريخ” وكل ما تدعي لإيران بناءه يعد والتسلح النووي والصواريخ لعب أطفال حتى أمام إسرائيل فضلا عن امريكا.
وإذن فحتى ما يبدو تصعيدا إيرانيا أنا اعتبره “طلب نجدة” من العالم وليس دالا على التصعيد العسكري. فما يعني أمريكا هو خنق الملالي وتثوير الشعب الإيراني لتخليصه منهم. وهذا يتطلب المناورة والصبر حتى تأتوا صاغرين للتفاوض أو يقع الانقلاب الذي ليس مستبعدا حتى من الحرس من أجل البقاء أو يحقق الراي العام الاجماع على ضرورة الضربة فلا يخشى ترومب حينها شيئا على دورته الثانية.
من لا يجهل منطق الحصار ولا يدرك شروط فاعليته بوصفه بديلا من الحرب أو معدا لإضعاف من قد يضطر المحاصر إلى محاربته لن يفهم السلوك الأمريكي الحالي. وهو ليس خاصا بإيران وحدها فمثله حول الصين وحول روسيا وحتى حول تركيا خاصة وكلفة ذلك كله صارت تدفعها المحميات نفسها.
فلا يمكن تصور أمريكا تصرف من “جيبها” على اليابان وكوريا الجنوبية ومن حول الصين وعلى من حول روسيا وعلى من حول تركيا وعلى من حول إيران أخيرا بل إن ترومب لم يخف أنه عليهم أن “يدفعوا”. وما يقوله عن السعودية صحيح عليهم جميعا بمن فيهم العرب الذين يعيرون السعودية بما يقوله عنها ترومب. كلهم يمولون القواعد التي تحميهم وهي في الحقيقة تحتلهم.
طبعا لو كان الأمريكان وإسرائيل مثل العرب سينتظرون في حالة الحرب صواريخ إيران تنزل عليهم ثم يحاولون أسقاط بعضها رغم كونها من جنس صواريخ الحوثي لكان الكلام معقولا لكنهما سيذهبان إلى كل ما لدى إيران من رموز قوة اقتصادية وعسكرية لتدميرها في موجات متوالية بما لديهم مما ليس من الصواريخ فحسب بل وحتى من أسلحة الـدمار الشامل لأن الحرب بين الدول ليس مثل الحرب بينها وبين المليشيات.
لذلك اعتبرت الحرب مستبعدة من البداية وأكبر العلامات هو سكوت إسرائيل ومافياتها في أمريكا وفي العالم. فلو كانت الحرب مقصودة من الحصار فعلا لكانت هذه أول من يمهد لها الطريق بالتحريض عليها وبتطمين ترومب بأنها لن تؤثر على انتخابه لدورة ثانية بل لكانوا قد جعلوه بطلا كما فعلوا مع ريجن وحتى مع بوش الصغير.
وأخيرا فدون أن احتاج إلى الكلام على قوة أمريكا لئلا يقال إني جعلتها لا تقهر بإطلاق لمجرد كوني بينت ميزان القوى الحقيقي فإني اعتقد أن أهداف أمريكا وإسرائيل ليست مقصورة على أحلام عصافير العرب بل هي تتجاوزهم إلى التمهيد لنظام عالم جديد يحول دون بديل عن سلطانهم لقرن قادم. كذلك أفهم الأمر وأتمنى أن أكون على خطـأ.
مجرد الكلام على حرب بين أمريكا وإيران دليل حمق المتكلمين لأن فيه كلاما على حرب بين من لا وجه شبه بينهما. وطبعا سيقال لكن أمريكا هزمت في حروب كثيرة مثل حربها مع فياتنام ومع افغانستان خاصة. صحيح في الظاهر. لكن الثانية أولا لم تكن حربا مع دولة بل مع مليشيا تسمي نفسها دولة. والأولى كانت مع قطبين هما الصين والسوفيات وليس مع فياتنام. وهي الآن تطلب ود أمريكا لتعيش. والسوفيات انتهوا. والآن مع الصين ما زالت في وضع يجعلها تقبل شروط أمريكا لما يعرف عنها من حذر وعدم تهور واعطاء الوقت للوقت.
صحيح أنها تبدو منافس جدي. لكنها ما تزال بعيدة جدا عن الندية مع أمريكا لأن دخل هذه مرة ونصف دخل تلك بعدد سكان دون الثلث وهو المعيار الحقيقي لتقدير القوة فضلا عن التقدم العلمي والتقني اللذين لا وجه للمقارنة بينهما.
وليس الأمر في كلامي متعلقا بأمريكا بالذات بل بأحجام المتصارعين عند اعتبار مـحددات القوة الفعلية وموازين القوى. لو كانت القوة مجرد شعارات لكانت الصين واليابان والهند وأوروبا لم تستجب لشروط الحصار الأمريكي ولواصلوا استيراد البترول الإيراني. هل يعتقد أحد أن هؤلاء أقل قوة وشجاعة من الملالي فيصدق فهم مليشيات القلم العربية و”الضباط” العرب المتقاعدين ممن لم يشارك في أي حرب فعلية إلا على شعبه؟
ألم يعد إيران الأربعة الباقون والسادس الذي مع خماسية الاتفاق بمواصلته وبتعويض إيران عما فقدته من الحصار الأمريكي؟
هل بقيت شركة أوروبية واحدة لم تطبق أوامر أمريكا في الحصار؟
هل اعطوا لإيران شيئا يمكنها من الصمود أمام الحصار؟ هل كل هؤلاء أقل شجاعة من الملالي ولا يفهم إلا ميليشياتهم.
وهل استطاع الأوروبيون رفض ما فرضه عليهم ترومب وهو لا يختلف كثيرا عما فرضه على عرب الخليج كلهم دون استثناء لئلا يضحك أحد منهم على أحد بضرورة تمويل الحماية التي يحققها جيش أمريكا ضد الغول الروسي في أوروبا والغول الإيراني في الخليج وتلك علة جعلهما يبدوان غولين وهما لا شيء بمعايير قوى العصر؟ فالدخل القومي الخام الروسي لا يتجاوز ميزانية الجيش الأمريكي بالكثير أما دخل إيران الخام فحدث ولا حرج.
تصور هل لو كان للأوروبيين القدرة على جمع قواهم هل هم عاجزون عن الاستغناء عن حماية أمريكا؟ لكن هل لو استغنوا عنها توجد ضمانة وثقة بينهم بالا يعود لهم شيطان التنافس الذي أدى إلى صيرورتهم مستعمرة أمريكية سوفياتية بعد الحربين المدمرتين لإمبراطورياتهم التي تقاسهما السوفيات والأمريكان وورثتها الآن أمريكا؟
وهل لو كان العرب قادرين على التخلص من نكوصهم إلى الجاهلية وعادوا إلى فضائل علمهم إياها الإسلام فأدخلهم التاريخ الكوني وتحالفوا مع من أتوا بعدهم ليواصلوا قوة الإسلام إلى تاريخ قريب هل لو فعلوا ذلك كانوا يبقون بحاجة إلى الحماية والرعاية من أجل أن يستعبدوا شعوبهم ويدفعوا الجزية؟
لولا ما ذكرت حول أوروبا وحول المسلمين لما حاولت الكلام على شروط القوة بالحجم العالمي الذي صارت تتمتع به أمريكا ومعها إسرائيل لأني شبهت علاقتهما بعلاقة “الهارد وار والسوفت وار” في جهاز واحد قسمه الأول هو أمريكا وقسمه الثاني هو مافيات العالم التي تسيطر على أمريكا وعلى روسيا وتنوي السيطرة على دار الإسلام وهي مسيطرة على بلاد الثورة المضادة وقد بات ذلك علنيا. وفي ذلك تؤدي روسيا بالإضافة إلى أوروبا وإيران بالإضافة إلى العرب نفس الدور في الاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية. وقد حاولت بيان ذلك منذ كتاباتي في ماليزيا حول معادلة عواصم الخلافة الأربعة الأولى والأخيرة ثم الوسطيين اللذين احتلتهما إيران وإسرائيل ذراعي أمريكا في الإقليم.
وقد بينت أن الهدف التالي هو العاصمتان الأخريان أي الأولى ثم الأخيرة. وأقصد المدينة في الحرمين واستنبول في تركيا. ولم يكن حينها قد تم احتلال دمشق. لكني توقعت ذلك منذ 203 مباشرة بعد بغداد وتوقعت أنه من دون حلف بين المدينة واستنبول فإنهما ستقعان لا قدر الله لأن إيران وروسيا وإسرائيل وأمريكا يسعون لذلك. والخطة لم تتغير فهي ما تزال نفس الخطة حتى لو سميت حينها بالشرق الأوسط الكبير والفوضى الخلاقة.
وهذا هو ما أقصده بسايكس بيكو الثانية. ذلك ما أردت أن اختم به كلامي على ما يجري حاليا وقد يكون تحليلي غير مطابق. لكن ما لا شك فيه هو أن الإيهام بأن أمريكا تعد كل ما نراه للحرب على إيران فيه من الكذب والزيف ما ينفخ إيران وروسيا نفخا وتضخيما لا يناسب وزنها في معادلة القوى حاليا.