حقائق يراد بها الباطل**:** خداع المترشحين
تابعت الحملة الانتخابية بل وشاركت فيها باختيار حاسم يعبر عن ضرورة صف ثالث يحرر تونس من الاستئصال المتبادل في صدام الحضارات الذي تعيشه مثلها مثل كل أقطار الأمة التي عرفت ثورة الحرية والكرامة التي حرفت عن مسارها بسبب هذا الصدام المرضي الناتج عن صراع ممثلي الانحطاطين الذاتي والاستعماري.
فالمعلوم أن صدام الحضارات الذي تعيشه أقطار الثورة العربية صدام بين صفين أحدهما يريد الفرنجة بعنف الدولة والثاني الأسلمة بعنف المجتمع. وهو صدام يحول دون الحياة السياسية السوية : لأن التنافس السياسي مشروط بالاعتراف المتبادل بين صفيه في حين أن صدام الحضارات هو ثمرة للتناكر بدل التعارف. إنه صدام يقدمه متطرفو الصفين السياسيين ليحولوا دون التوافق الضروري بين القوتين السياسيتين اللتين يمكن أن تخرجا تونس من مآزقها الأمنية والاقتصادية : الثعالبية المتصالحة مع الحداثة والبورقيبية المتصالحة مع الأصالة ومن ثم الجمع بين شرطي التحرر من التبعية.
وهو إذن مرض علته صدام بين كاريكاتورين حضاريين :
- الكاريكاتور الذي يمثله المتكلمون باسم اصالة مشوهة من قيم الحضارة الإسلامية قبل أن يشوبها الانحطاط الذاتي.
- والكاريكاتور الذي يمثله المتكلمون باسم حداثة مشوهة من قيم الحضارة الغربية قبل أن يشوبها الانحطاط الاستعماري.
والكاريكاتوران يفيدان غياب القيم الكونية المشتركة بين الحضارتين عند كلا التطرفين الأصلاني والعلماني أعني عند ممثلي الإرهابين المسيطرين على الساحة السياسية والإعلامية التونسية (ومثلها المصرية خاصة).
لذلك فلا بد من بيان التشويه المسلط على الحقائق لاستعمالها الباطل. وهذا التشويه علته الصدام الحضاري المفسد للتنافس السياسي. والاستعمال الباطل من كلا المرشحين أفسد الثورة وشوه الديموقراطية وقد يغرق البلاد في حرب أهلية لن تبقي ولن تذر.
وتتمثل الحقائق التي يراد بها الباطل في محددات الوضع الذي تركته عقود الاستبداد والفساد والتي لم يعد أحد ينكرها في القوتين السياسيتين الكبريين. ومن ثم فهي ما يمكن أن يكون أساس العمل المشترك لاخراج تونس من أزمتيها الأمنية والاقتصادية حتى يصبح بناء الجمهورية الثانية المتخلصة من الاستبداد والفساد أمرا ممكنا. والتسليم بوجود الحقائق لا يجادل فيه أحد لكن المشكل هو في استعمالها من قبل المترشحين :
فالمترشح الذي يحسب على الإسلاميين رغم أن حزبهم لم يرشحه يستعمل هذه الحقائق المرة ليس لعلاجها بصورة تقوي الثورة بتوحيد الشعب والتقليل من العداوات بين فئاته بل هو يستعملها للتحشيد الخطير على وحدة البلاد حتى وإن كان مفعوله الانتخابي يبدو له مضمونا.
ومرشح النداء يحاول تجنب مفعول هذا التحشيد الظاهر في حملته دون أن يعترف بعللها الحقيقية لأنه لو فعل لكانت حملته باسم الثورة ونقدا ذاتيا لعقود الاستبداد والفساد التي كان أحد أطرافها المعتبرين. فهو يفضل المساحيق والتضليل الإعلامي على العلاج الحقيقي الذي ينبغي أن ينطلق من الاعتراف بعلل الأدواء من خلال النقد الذاتي بدل الاقتصار على تحميل المسؤولية لسنتي الترويكا.
الحقيقة الأولى : وجود ثقافتين تامتي الاختلاف
تونس ككل البلاد التي خضعت للاستعمار الغربي فقدت وحدتها الثقافية وأصحبت الجماعة فيها منقسمة إلى غالبية محرومة من كل الحقوق لانها ما تزال معدودة “انديجان” وأقلية محظوظة تواصل مهمة التحضير المستبد والفاسد لعلتين : فهي أولا حصلت على نزر كاريكاتوري من ثقافة المستعمر فاصبحت تتصرف مثله وهي ثانيا لهذه العلة الأولى تحظى بتأييده وتكليفه إياها بقيادة البلد لإتمام المهمة.
وطبعا فالنوايا حسنة. لكن جهنم أرضها معبدة بالنوايا الحسنة : هذه المهمة التحضيرية هي في الحقيقة جوهر ما يسمى بتجفيف المنابع أي الحرب على الثقافة الوطنية باسم اللحاق بركب الحضارة. ولعل أفضل مثال يبين أنها حرب تهديم نسقي للذات الوطنية مشروع إزالة المدينة العتيقة واستبدالها بما لا يناسب ثقافة البلاد فضلا عن مناخها. هي إذن حرب حضارية لا يمكن إلا أن تولد مقاومة ومن ثم صفين يقتتلان في صدام حضارات داخلي بسند من صدام الحضارات الخارجي : ولما كانت الأقلية المتغربة أقلية فهي لا يمكن أن تحكم ديموقراطيا ولا بد لها من الاستبداد والفساد.
ويكفي أن أضرب لكم مثال ما كتبه مدير النوفال ابسرفاتور بعد صدور الدستور التونسي. أحد الوزراء قدم رأيه مفاخرا براي هذا المدير خلال لقاء لنخبة تونسية في إحدى سفاراتنا في بلد عربي . فكان تعليقي : « ملخص مقال المدير : ما أحلى التونسيين فقد أصبحوا يشبهوننا ». ومعنى ذلك أن الغرب يقيس إنسانيتنا بقدر تخلينا عن ذواتنا واقترابنا من التشبه به .
الحقيقة الثانية **:**وجود انتسابين تاريخيين تامي الاختلاف
لكن هذا الصدام البين للعيان ليس مجرد تقابل بين محافظة وتقدم أو بين ماض وحاضر بل هو في الحقيقة من أعراض حقيقة أكثر عمقا هي التصور المختلف للمستقبل من منطلق الانتساب إلى تاريخين تامي الاختلاف. فغالبية الشعب لها تصور لمستقبلها في إطار أمة ما يزال تاريخها محركا لوجدانها. أما الأقلية الحاكمة التي تغربت أو التي تفاخر بمماثلتها لمستعمرها فإنها تتصور المستقبل في إطار العلاقة به ومن ثم فهي توطد كل أشكال التبعية ببعديها الماديين (الاقتصاد والسياسة) وببعديها الرمزيين (الثقافة والتربية).
فشعب بات تابعا اقتصاده في حدود 80 في المائة لفرنسا لا يمكن أن تكون له سياسة مستقلة. وشعب بدل من تربية تعرب المضامين فضل حكامه فرنسة الشعب بثقافة سطحية لا يمكن أن يكون له ثقافة مستقلة قادرة على الإبداع في العلوم أو في الفنون لأنها ستعوض تقليد انحطاط الماضي عند من تحاربه باسم الحداثة بتقليد انحطاط المستعمرين ذهنيا عندها.
الحقيقة الثالثة : وجود انتسابين جغرافيين تامي الاختلاف
إن الاندراج التاريخي لأغلبية الشعب وتناقضه مع الاندراج التاريخي الذي تريد الأقلية فرضه بتسخير مؤسسات الدولة كلها لتغيير هذا الاندراج أعني باستعمال قوة الحكم والتربية وقوة الاقتصاد والثقافة هدفه الأول والأخير هو تكريس الجغرافيا الاستعمارية وتحويل الدويلات العربية إلى توابع أبدية من خلال توطيد الحدود وجعل كل قطر أكثر ارتباطا بمستعمره منه بالأقطار المنتسبة إلى نفس التاريخ والحضارة. وبذلك ففي اذهان الأغلبية نجد نسبتين جغرافيتين واحدة إلى القطر والثانية إلى ما يتجاوزه إلى كل ما تشمله جغرافية الأمة.
وهم بهذا المعنى أكثر حداثة للجمع بين مواطنتين ضيقة هي القطرية وواسعة هي المواطنة الشاملة للوطن العربي بل وأكثر للأمة الإسلامية. إنهم بهذا أقرب إلى ازدواج المواطنة القطرية والأوربية في الوحدة الأوربية من النخب المستعمرة ذهنيا. و هي في الحقيقة وإن بصورة غير صريحة تعوض أماني الانتساب الأوسع عند الغالبية من شعبها بما يقابله أي بالانتساب إلى جغرافية المستعمر أعني إلى جغرافية الفرنكوفونية خاصة والغربية عامة في حالة النخبة الحاكمة التونسية.
الحقيقة الرابعة : وجود سياستي تنمية تامتي عدم التوازن
فينتج عن الحقائق الثلاث السابقة نتيجة حتمية : لا بد أن توجد سياستان تنمويتان : واحدة للتشبه بأوروبا ولخدمتها أعني الفترينة العمرانية المتغربة والسياحة لتمكين من يستشبهون بهم من الاستمتاع بخيرات البلاد الطبيعية وبخدمات من أعدوهم ليكونوا نوادل أو بزناسة في السياحة وفي كل فروع الاقتصاد الأخرى لأنها جميعا تؤسس لاقتصاد تابع لا يمكن أن يحقق استقلالا فضلا عن تحرير إرادة وحماية كرامة.
أما كل المناطق المحرومة فهي بلاد “الانديجان” الذين يكادون يمثلون المعازل التي نرى الكثير منها حول المدن وفي داخل القطر. وطبعا فمثل هذه السياسة تضيف إلى الاختلاف التاريخي والجغرافي أمرا أخطر هو تحويل الاختلاف الطبقي إلى اختلاف عنصري : احتقار أبناء المناطق المحرومة واعتبارهم معين الخدم والعبيد والبطالة والهجرة والحرقان.
وطبعا فالنسبة إلى من يعامل هذه الأدواء بسياسة الترضية الشكلية دون الاعتراف بها أولا وبأسبابها ثانيا لا يقل انتهازية ممن يستعملها للتحشيد في حملته الانتخابية دون أن يقدم حلولا تعيد للشعب التونسي وحدته الحضارية أو تصالح على الأقل بين الحضارتين حتى تخرجه من صدام الحضارات فيصبح قادرا على التنافس السياسي السلمي.
الحقيقة الأخيرة : وجود غفلة عن أخطار هذه الحقائق
وهكذا فإن كلا المترشحين غافل عن الخطر الداهم :
- أحدهما يكتفي باستعماله للتحشيد لعله ينجح في الانتخابات ثم يصبح في خدمة صف المترشح الثاني الذي بيده كل مقاليد الحكم الفعلي لأنه لن يكون إلا مجرد نزيل قصر قرطاح دون سلطات اكثر مما هو الآن.
- والثاني بدلا من أن يقدم نقدا ذاتيا ويسعى للصلح مع غالبية الشعب تجده يتهرب من المسؤولية فيحمل سنتي الترويكا سلوك نصف قرن من الحكم كان فيه شريكا أساسيا (غالب الوزارات مر عليها) وينسى الألغام التي غرسها في “خناخش” الدولة .
ويكفي أن أضرب لكم مثالا واحدا عشته شخصيا بمقتضى مسؤوليتي وزيرا مستشارا لدى رئيس أول حكومة منتخبة بعد الثورة :
فوزارة التربية غيرت كل المديرين في عهد حكومة السبسي بمعيار وحيد وإن لم يكن صريحا هو في الظاهر معيار محاربة بقايا النظام السابق أو التجمع لكنه في الباطن كان وضع بدائل يسارية ونقابية حتى يجمعوا بين السلطانين على التربية (النقابي والإداري) بحيث صار الكثير من المسؤولين ينظمون الإضرابات.
ووزارة التربية خلال الأسبوع الأخير من حكم السبسي بوصفه مصرف أعمال بعد استقالته أمضت اتفاقيات مع النقابات دون احترام الإجراءات القانونية (اي دون مراجعة مجلس الدولة والمالية والوظيفة العمومية) كلفتها لا يمكن أن تتحملها دولة تكاد تكون مفلسة بسبب الفوضى الناتجة عن استشراء المطالبات النقابية والإضرابات الفوضوية وتوقف الانتاج في جل القطاعات.
ولا أظن غيري من الزملاء لم يجرب نفس التجربة خلال السنة الأولى من حكم هذه الحكومة المنتخبة. ما حصل بعدها لا أعلم عنه شيئا لأني كما وعدت لم أبق أكثر من سنة في المسؤوليتين اللتين قمت بهما : النيابة في المجلس والاستشارة في الوزارة.
وختاما فإن المترشحين لا يقدران بحق معنى المسؤولية التي تجمع بين السياسة عامة والسياسة بعد ثورة شعبية نريدها أن تبقى سلمية، معنى المسؤولية لرجل الدولة في اللحظات التاريخية الحاسمة :
فلا مرشح النخبة المسيطرة على كل أدوات الدولة (الحكم والتربية والاقتصاد والثقافة والإدارة وأدوات السيادة المادية – الأمن والجيش – والرمزية- الإعلام والاستعلام-) تحمل مسؤولية العقود الستة التي كان فيها شريكا بحيث يعرف برنامجه على أنه تدارك لمسؤولية سابقة أخلت بالواجب الوطني واكتفت بما وصفنا من تحضير مستبد نتجيته أن الشعب التونسي يوجد اليوم في صدام حضارت.
و لا المرشح الذي يستغل من هم في وضعية “الأنديجان” أي غالبية الشعب المحروم عبر عن نية تحقيق شروط وحدة الشعب. فهو يستعمل هذا التمزق للنجاح في انتخابات نجاحا شخصيا لن يقدم ولن يؤخر في تغيير وضعهم. فهو سيكون فاقدا لكل سلطة بسبب فقدانه للقاعدة الشعبية وهو ما قد يزيد الطين بلة بإدخال البلاد في حرب أهلية ” تصوملها ».
وعلامة هذا المآل الممكن هو استعماله لقاعدة شعبية مستهدفة محليا وإقليميا ودوليا ومن ثم سيكون أول من يضحي بها لأن مطالبها أبعد غورا من مطالبه ولأن مطالبه لا تختلف عن مطالب النخب التي وصفنا. فعلمانيته لا يمكن أن تكون ديموقراطية لأنها منافية لثقافة الغالبية : ولعلمه بذلك يتخذ من الإسلاميين مطية. وتلك هي علة مقاومتي له : لن أسمح ما استطعت إلى ذلك سبيلا بمرور هذا التحيل الموصوف.
أبو يعرب المرزوقي