ه
لا أعتقد أن أدعياء العلم الذين يطالبون بمعاقبة الاستاذ الذي وضع آية قرآنية في اختبار الفيزياء يستحقون الرد بغير ما يزعمون: أن يمتحنوا في الفيزياء مع هذا الأستاذ حتى نرى مدى العلم الذي يزعمونه وسنكتشف أن تنمرهم دليل جهلهم.
صحيح أن ما قام به الاستاذ ليس من الفيزياء. لكنه لم يقصد أنه منها بل اعتقد أن ذلك جزءً من بيداغوجيا الوصل بين ثقافة الشعب والعلوم حتى يجذرها ويحررها من خرافة الصراع بين الدين والعلم التي صارت “لوبانة” أدعياء الحداثة من أميي اليعاقبة والماركسيين وتوابعهم من القوميين والليبراليين.
كنت ربما سأحجم على التعليق كما فعلت عندما أقاموا الدنيا ولم يقعدوها عندما عرضوا بما سموه اطروحة متخلفة حول تسطيح الأرض. فكان التعليق من أجهل خلق الله على تلك المحاولة من علامات آخر الزمان. فأغبياء الحداثة يجهلون أمرين:
- أولهما أن المسألة مطروحة في أكثر بلاد العالم سلطانا علميا (الولايات المتحدة) ولا أحد اتهم طارحيها فيها بما يدعيه جهلتنا المدافعين عن الحقيقة العلمية.
- والثاني أن ديكارت وما أدراك ما ديكارت لم يستح من محاولة إثبات أن الارض لا تدور بخلاف جاليلي وأنه اعتبرها ثابتة في فلك يدور جمعا بين الفلك البطليموسي والفلك الكوبرنيكي.
ولما كان نفس الأغبياء صاروا عباقرة يحاربون محاولة بيداغوجية قام بها أستاذ حاول تحقيق المصالحة في مستوى الرؤية العامة بين العلم وثقافة الشعب وكان يمكن أن يكون ذلك من الاجتهاد المحبب في العلم بوصله بمعتقدات تلاميذه وخاصة لتحريرهم من العقد التي أنتجها هؤلاء الأشباه من المثقفين والتي جعلت الدين والعلم متنافيين بالجوهر، فإني قررت أن أدلي بدولي في خصومة ليس القصد منها الدفاع عن العلم بل الحرب على الدين.
فمحاولة الأستاذ اجتهاد قد يكون فيه مصيبا أو مخطئا ككل اجتهاد.
لكن لا أحد له الحق في التدخل في اجتهاد المعلم المتعلق بالفنيات البيداغوجية التي تصل بين العلم وثقافة الشعب وتحرير النشء من عقلية من ربوا على اليعقوبية والستالينية ممن يعتقدون أن التنشئة على الإيديولوجية الماركسية واليعقوبية علم.
فإذا كان المعلم مؤهلا للتعليم بدليل انتدابه وتفقده في اختصاصه فإنه سيد نفسه في القسم وفي علاقته بتلاميذه ما لم يخرق النظامين المعرفي (الكفاءة العلمية) والخلقي (الجدارة القيمية) وهما دوراه في التعليم. أما إذا صار أي عابث يدعي في العلم فلسفة فيحاكم اجتهادات المربين فمعناه أن “زوافرية” الإلحاد صاروا حكما في سلوك المربين البيداغوجي.
وكل ما قرأته من تعليقات لهمجية المحاربين للكتاتيب والمساجد وكل مظاهر ثقافة الشعب وقيمه لا يدل إلا على عقد النقص التي يعانون منها ومحاولات التظاهر بأنهم حريصون على العلم في حين أن الجميع يعلم أن أعلاهم صوتا أدناهم علما وأن من أفسد المنظومة التربوية كلها هو تحويلها إلى أداة إيديولوجية لفرض لائكية يعقوبية ماركسية حتى جعلوا المدرسة كنيسة مضادة. ولعل أفضل صورة عرفتها تونس هو ما سموه تجفيف المنابع.
ومن عجائب الدنيا أن هؤلاء الأقزام صاروا أدرى بالعلمانية والحداثة من الأمريكان حيث للكنائس المتعددة دور رئيس في الكلام في الخيارات السياسية وخاصة ما تعلق منها بالقيم. لكنهم هم تبعا للماركسية واللائكية اليعقوبية المتخلفة يعتبرون تدخل أيمة المساجد في المسائل القيمية التي تهم الشعب أمرا محرما عليهم.
ولم يكتفوا بذلك بل باتوا يطلبون مما بقي مما يسمى دولة أن تصبح سيدة على خيارات الأولياء في تكوين أبنائهم الروحي ومنع تعليم القرآن للنشء لست أدري على أي أساس اللهم إلا على أساس اللائكية اليعقوبية والإلحاد الماركسي. وهم يسبحون ليلا نهارا بدولة إسرائيل وإيران وكلتاهما تتأسس على خرافات لا يقرها عقل ولا دين.
ولذلك فلا بد من وضع حد لهذه الجرأة التي تنتج عن الجهل المدقع لـ”زوافرية” تونس من أدعياء الحداثة -ببغاوات لليعقوبية والماركسية-ولا أحد يمكن أن يضع حد لهؤلاء الحركيين إلا فزة شعبية للدفاع عن قيم الجماعة وحرية الأولياء في تربية أبنائهم بما يختارونه من المرجعيات. فليس لما يسمى دولة حق في التدخل فليس من وظائفها أن تصبح بديلا من الجماعة بل هي مجرد خادم لها في حدود ما تسمح لها به قيمها ومعتقداتها علامتين على حريتها وكرامتها.
فمن يتوهم أن يعاقبة فرنسا وستالينيي روسيا والقردة الذين يحاكونهم بين أدعياء الحداثة العرب قد ألغوا الكنسية مخطي ألف في المائة. فسلطة الدولة في الحالتين أخذت مهام الكنيسة في شكل كنسية مضادة يمثلها جهاز الدولة وجهاز الحزب الحاكم بعلمانية يعقوبية أو ماركسية ليسيطروا على التربية والقيم في الجماعة بديلا منها وفرضا للاهوت دنيوي يخلد إلى الأرض ويسمى ذلك تنويرا وهو عين الظلام.
وكلنا يعلم كيف أن الماركسيين ارادوا التدخل في القوانين العلمية ومحاولة جعلها تابعة للإيديولوجيا الماركسية كما حاولوا بوضع نظرية الردود الشرطية وبزعم تكذيب قوانين الوراثة البايولوجية من أجل نفي النوازع الطبيعية في كيان الإنسان بدعوى أنها كلها ثمرة الصراع الطبقي وما فرضته التربيات الطبقية السابقة ومثلها محاولات تأسيس المساواة بين الجنسين على نفي حتى الفروق العضوية بينهما.
أما من كتبوا مطالبين بطرد هذا الاستاذ فبين أنهم لا يمكن ألا يكونوا من بقايا الستالينية أو اليعقوبية التي تطرد كل من لا يدرس بالاستناد إلى الماركسية واليعقوبية الصارمة التي يعتبرونها علما وأنهم يطبقون على المربين ما طبقوه على الأيمة حتى لا يبقى من حرية راي إلى لهم وحدهم. لكن إذا حصل أن تصرفت وزارة التربية كما فعلت ضد من أهدى قرآنا لأحد التلاميذ فهي ستكون من عصر تجاوزه التاريخ لأن الشعب لم يعد قابلا بأن تكون الحكومة وصية عليه.
ليس لوزارة التربية أدنى حق في التدخل في فنيات التبليغ البيداغوجية التي توخاها الأستاذ مع تلامذته إذا توفر في أدائه المهني والعلمي الشرطان المعرفي والخلقي اللذين وصفت وإلا فإنها تكون مواصلة لسياسة تجفيف المنابع وفرض طريقة واحدة للبيداغوجيا التي يستعملها المعلم في “تحبيب” المادة لتلامذته : فالعلم عبادة واستعمال الوصل بين العلم والعبادة في أي ثقافة من أهم شروط جعله الطريق الى التقدم الحقيقي المتحرر من قشور التقليد البليد الذي يعبر عنه هؤلاء الحمقى من أدعياء الحداثة.