حرب العرب الأهلية، عللها وشكلها النهائي بين الثورة والثورة المضادة – الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله حرب العرب الأهلية

وصلنا الآن إلى غاية البحث فتتبين العلاقة بين ما يبدو بعيدا عن إشكالية حرب العرب الاهلية وصلتها بالثورة والثورة المضادة. فالخصومة هي شروط التحرر من الاستبداد والفساد اللذين يشترك فيهما نوعي الانظمة العربية القبلية والعسكرية اشتراكا جعلهما تتحدان في الحرب على ثورة الشباب.

وهي أنظمة ذهبت إلى الانسياق في حرب القوى الاستعمارية وذراعيها الإيراني والإسرائيلي ضد الإسلام وسعيهم جميعا الى تطويع كل تراثه وتصوراته بصورة تحيد دوره وتفرض ما تسميه حداثة شكلية تلهي الشعوب عن شروط الحرية والكرامة والسيادة الفعلية. المدار هو تمييع دور الإسلام مرجعية قيمية للأمة.

وسأبدأ بتأويل حلاق الذي انتهى إلى استحالة الدولة الإسلامية وليس الدولة المستحيلة عامة. وهو تأويل مبني على وهمين: موجب في الظاهر وفيه مدح للدولة الإسلامية الوسيطة والزعم بأنها كانت خلقية لتحرر المجتمع الأهلي من المجتمع السياسي بمنطق الفقهاء المزعومين قوة مستقلة.

وهذا هو الوهم الاول: فنظام المجتمع الأهلي -الأوقاف-والتشريع الفقهي كلاهما من حيث الفكرة شيء جيد ولكنهما في الواقع الفعلي كانا أفسد حتى من المجتمع السياسي. وهما سياسيا متواطئان مع الحكام وبمنطق اراعيك وتراعيني وحال الصدام فالسلطان الروحي (الفقه) والمادي (الأوقاف) خاضع للسياسي يؤديه تاريخ العلاقة وقد عشت شخصيا ما كان عليه نظام الاوقاف والقضاء الشرعي لأن والدي منه وأخي درس في مؤسسات الأوقاف وأعلم ما فيه من فساد لا يقل عن فساد الحكام لأن هؤلاء يحتاجون على الاقل للحفاظ على شيء من الشرعية. وهذا هو الوهم الاول: لاهم أحرار ولا هم أفضل من السلطة السياسية.

والوهم الثاني في تأويل الوقائع هو ادعاء خلو الدولة الحديثة من الاخلاق لعدم وجود ما يزعم في الفصل الاول من فصل بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني وهو فصل بينا أنه وهمي لأن الحاكم السياسي كان بوسعه نزع سلطة الفقهاء وقوامة الأوقاف من أصحابها ومن فلا يبقى منهم إلا من كان تابعا له.

ومع ذلك فإني أقر بأن الدولة الإسلامية في شكلها الوسيط لم تعد ممكنة إلا عند بوكو حرام وأمثالها. وله الحق في القول إنها مستحيلة ليس لما يدعيه لها من فضائل لما أزعمه لها من رذائل. فالفقه الذي كانت تعمل به وخاصة في عصر الانحطاط لا يختلف عن فقه من يسمون أنفسهم جهاديين.

ومشكلي ليس مع هذا التأويل للوقائع هو تمجيد الشكل المنحط من نظام الحكم الإسلامي لاستنتاج أن الدولة الإسلامية عامة أصبحت مستحيلة الوجود ما يعني أن ذلك الشكل هو شكلها الوحيد والنهائي. وطبعا لست بحاجة لبيان أن دعوى لا أخلاقية الدولة الحديثة هي أيضا تشويه وظلم علته فهم رديء للأخلاق.

فمن يتوهم السياسة والاخلاق متنافيين لا يمكن أن يعتد برأيه لا في السياسة ولا في الأخلاق. فأولا لا أخلاق من دون دولة وثانيا صلاحهما وفسادهما متلازم. ومعنى ذلك أن الدولة الفاسدة لها مع ذلك أخلاق لكنها فاسدة. والاهم هو أن الدولة الحديثة أكثر أخلاق من كل دولة متقدمة عليها في التاريخ.

فحتى دولة الراشدين رغم رفعة اخلاق القيمين عليها فإنها كانت لم تنجز بعد شروط جعل الأخلاق تتعين فعلا في مؤسسات تحقق منها القدر الذي كانت الدولة عاجزة عن تحقيقه: فالزكاة مثلا تعالج قضية المعوزين. لكنها على أهميتها ليست في مستوى نظام الضمان الاجتماعي والتقاعد والضمان الصحي والتعليم.

وهذا هو جوهر الأخلاق وليس الكلام عليها أو اعتزال المعترك السياسي والاجتماعي المحقق من أجل الحقوق السياسية والاجتماعية والثقافية وحرية الضمير وحرية التعبير واحترام كرامة الإنسان والحد من التعذيب الذي كان الحكام يطبقونه بدعوى تطبيق الشريعة الذي حصروه في المستضعفين.

ومثلما بينا أن الدولة جهاز آلي صناعي ينشأ بداية عن تصور خلقي لتحقيق وظيفتي الحماية والرعاية بمؤسساته وقوانينه ويعمل غاية بضوابط لسلوك الساهرين عليه من الحكام والإداريين فإن الأخلاق حاضرة في الدولة الحديثة بهذين المعيين: أي بنظام الآلة التقنية مؤسسات وقوانين أدوات لغايات خلقية.

والنتيجة لئلا أطيل خاصة وقد أطنبت فيها في مواضع اخرى هي أن دولة الإسلام ممكنة بتحليل الوقائع علميا من خلال درسها التاريخي الفعلي وبيان عيوبها البنيوية والتاريخية والقيم التي تأسست عليها بإعادة تأويل المرجعية النصية التي شوهت بما بينا في دراسة علوم الملة المزيفة كما أشرت.

فيكون مستقبل الدولة الإسلامية ممكنا بل وواجبا ليس للمسلمين وحدهم بل للإنسانية كلها. ذلك أن تحقيق قيم القرآن ونظامه السياسي في الواقع الفعلي بضمان الحريتين الروحية والسياسية هو المثال الأعلى للدولة التامة الي بينا مقوماتها لأن الدولة الحديث تحتاج أيضا لإصلاح واقعها بواجبها.

وأهم مسالة في الآية هي “الانفاق من الرزق” أي مسألة العدل الاجتماعي ثم تأسيس ذلك كله على مرجعية قرآنية تتجاوز الأديان المختلفة وتتأسس على الديني في كل ديني لأنها نسبت من يحقق ذلك إلى المستجيبين للرب وليس لله. ومن يعلم الفرق يفهم كونية الأول وخصوصية الثاني.

أمر الآن إلى تأويل النصوص المرجعية عند نافي الوجود في الماضي بعد تأويل الوقائع التاريخية عند نافي الإمكان في المستقبل وقد رددنا تأويل الوقائع إلى تأويل النصوص لأن الوقائع لا تدرك في التاريخ إلا في النصوص إما التاريخية المباشرة أو التاريخية غير المباشرة بعد خضوعها للنقد العلمي.

وفي الحقيقة فرغم أن نفي الإمكان أخطر من نفي الوجود فإن حل حلاق ناتج عن حل عبد الرازق: فهذا نفى وجود نظرية الدولة ونظام الحكم في المرجعية الإسلامية وذاك اعتبر وقائع الموجود المشوه حقيقة الدولة الإسلامية التي مدحها وكان عليه ذمها لو درس تاريخها علميا. لذلك شككت في صدق مدحه.

ذلك أن مدحها بالتميز الخلقي كاذب أكثر من ذم الدولة الحديثة بالتميز بعدم الاخلاق. أولا لأنه لا يمكن لأي دولة أن تكون بلا أخلاق مهما فسدت لأنها الدولة شرط الأخلاق. لو تغيب الدولة يوما واحدا لنكصت الجماعة إلى الحيوانية وخاصة في المجتمعات الحديثة التي فقدت قيام الدولة في العادات.

وبهذا المعنى أفهم كلام المسلمين على ضرورتها واعتبار فقدانها خروجا من الدين. لكن ذلك لا يعني أنهم يقبلون بالدولة الفاسدة كما فهم فقهاء الانحطاط: لأن القرآن وضع شروط طاعة الحكام ولأن النبي دعى إلى النهي عن المنكر باليد أو باللسان أو على الأقل بالقلب وإذن فالقصد الدولة العادلة.

قد يكون عبد الرزاق عالم دين وقد يكون حلاق مختص في تاريخ الفقه. لكن علم الدين بمعناه التقليدي والكلام على الفقه بمنطق ما بعد الحداثة كلاهما يفيد موقفا إيديولوجيا مضمر أو صريح يحول دون فهم اسرار فلسفة الدين وفلسفة السياسة: الأحكام الشائعة لا أساس لها فيما بين وظائفهما من وشائج.

فليس من الحكمة تحديد نظرية الحكم والدولة بالصوغ الدستوري المباشر في المرجعيات الدينية لأن الأديان تحدده بنوع القيم التي تخضع لها السياسي. وليس من الحكمة الكلام على مستقبل نظرية دولة الإسلام من دون بيان طبيعتها وأسلوبها في الحكم والاكتفاء بحكم مسبق يجعل شكلها الوسيط عين حقيقتها.

فإذا أضفت أن عبد الرزاق يحلم بتأسيس الدولة الليبرالية بالتحرر من معنى الدولة والحكم الإسلاميين بدعوى عدم وجودهما والثاني يعكس فيعتبر هذه أفضل من تلك لكنها صارت مستحيلة علمت أن هذه الغاية هي المحرك الأساسي لكلا العالمين: كلاهما يريد التخلص مما لم يحدداه وكلاهما يمدحه.

فعبد الرازق يمدح حياد المرجعية في تحديد نظرية للحكم والدولة وحلاق يمدح ما نفاه عبد الرزاق ليثبت أنه كان صالحا ولم يعد قابلا صالحا ولا قابلا للإصلاح مع ذم شكل الحديث الموجود بالفعل. فلا يكون المستحيل ما مضى من دولة الإسلام ولا خلاف معه في ذلك بل دعوى استحالة تطويرها في المستقبل.

وليس في ذلك اتهاما للنوايا لأن الكلام على استحالة شكلها الذي مضى لا يختلف فيه اثنان من العقلاء ولذلك قلت إن كلام حلاق لا يعني إلا بوكو حرام ونظائرها من الحركات التي تتصور الدولة الإسلامية الماضية قبل للإحياء وأنها من جنس دولة الراشدين التي بينا أنها هي بدورها لم تعد صالحة.

وأعلم أن هذا الرأي هو ما يخالفني فيه كل المادحين لدولة الراشدين. ذلك أن أي دولة تبقى رهن أخلاق المكلفين برعايتها لا يمكن أن تتجنب ما حصل في من الأسباب التي أدت إلى نهايتها بحرب أهلية مدمرة. فأخلاق الحكام لا تكفي لقيام الدول بل لا بد من الجهاز المؤسسي والقانوني ونظام التداول.

وكلنا يعلم أن دولة الراشدين رغم رشد من تداول عليها ورغم وعي النخب التي كانت من نفس الجيل الذي رباه الرسول الخاتم كانت تشكو من فقدان الجهاز المؤسسي الضابط لطبيعة الحكم وأسلوبه ولنظام التداول السلمي عليه. فكل هذه الأمور بقيت في الاذهان والقرآن ولم تصبح ذات قيام موضوعي.

فالعودة على المرجعية ومحاولة ترجمة ما فيها من مبادئ وقيم قابلة لتأسيس الجهاز الآلي -أجهزة الدولة آليات- تصبح مؤسسات وكأنها محال خاوية يملأها من يكلف بتحقيق وظائفها ويتداول عليها الأجيال ممن تختارهم الأمة للقيام بهذه المهمة التي هي فرض كفاية لمدة معينة وبشرط احترام العقد.

وهذا هو ما حصل لاحقا في الاحكام السلطانية رغم أنه بقي حبرا على ورق لأن تعريف شروط المترشح ولجنة الانتخاب من أهل الحل والعقد لم تعد هي التي تضبط الأمر بل صارت المسألة مقصورة على الحامية العسكرية التي كانت في الغالب من المرتزقة أو من القبائل البدائية التي تحكم بالتغلب.

وهذا التطور على ما فيه من انحراف أدى إلى حصر السلطة والتداول عليها في منطق الانقلابات داخل الحامية أو الغزو البدائي من القبائل المتداولة عليه بالتغلب انتهى في الاخير إلى التمييز بين السلطان الفعلي لهم والحاجة إلى سلطان رمزي يمثله الخليفة وتقسيم عمل الدولة بين الفعلي والرمزي.

وقد فصل ابن خلدون في المقدمة هذه القسمة وهي ما ينبغي الانطلاق منه لفهم معنى الحاجة إلى نوعين من السلطان في أي دولة حديثة: فلو أخذنا انجلترا أو ألمانيا لوجدنا أن السلطان الرمزي يمثله رئيس الدولة إما بصبغة محافظة على بعدها الديني (انجلترا) أو بصبغة علمانية خالصة (ألمانيا).

والسلطان الفعلي هو مجال التداول السلمي على الحكم تشريعا وتنفيذا كما في هذين النظامين. والفرق الوحيد في غاية تطور الخلافة قبل ابن خلدون هو أن التداول على الحكم كان محصورا في الحامية وغزو القبائل البدوية وليس مسألة تهم الشعب كله. ومن بعده صار عاد التوحيد بين السلطانين في العثمانية.

وحتى في الخلافة العثمانية فإنها في الغاية وصلت إلى هذه القسمة بين السلطانين لان الحامية رغم أنها ناتجة عن تربية لجيش محترف أصبحت تتدخل في السلطة حتى لم يبق للخليفة إلا السلطان الرمزي وأصبحت الحامية هي الحاكمة بنفس المنطق الذي وصفه ابن خلدون.

حصيلة القول إن الدولة نظام حكم وأسلوبا ليست أمرا مهملا بل لها قوانين بنيوية ومسار تكويني كوني وواحد لا يخلو منه عمران والخطأ الذي يقع فيه الكثير هو إما مقارنة مرحلتين مختلفتين من مجتمعين متبايني التطور أو تصور التكوينية التاريخية تجري من دون قوانين بنيوية للحكم نظاما واسلوبا.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي