حرب العرب الأهلية، عللها وشكلها النهائي بين الثورة والثورة المضادة – الفصل الثاني

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله حرب العرب الأهلية

كيف لي أن أزعم أن الخلفاء الراشدين لم يحكموا بنظرية الدولة القرآنية وأن أزعم في آن أنهم حكموا بما في أخلاقهم من تأثر بأخلاق الرسول الخاتم؟ هل الحجة الوحيدة التي استعملتها كافية لتبرير هذا القول الذي قد يظنه الكثير قادحا في رشدهم؟

لا أستبعد مثل هذا الفهم. فالغيرة عليهم محمودة.

لكن الكثير من القراء يعلم أني أشد الناس غيرة عليهم. ومع ذلك فهم بشر وليسوا معصومين مثل الرسول. لذلك فأحدد بدقة ما أقصد بالتمييز بين خصالهم الخلقية ومنها سعيهم لتركيز أركان الدولة الإسلامية مؤسسيا في غياب الترجمة المؤسسة للقيم السياسية القرآنية إذا ما استثنينا دستور الرسول.

والكثير من القراء يعلم أني أشد الناس غيرة عليهم. لكنهم بشر وليسوا معصومين مثل الرسول. وسأحدد بدقة قصدي بالتمييز بين سياسة غابت فيها المؤسسات وعوضتها خصالهم الخلقية مع محاولاتهم تحديد أركان الدولة الإسلامية في غياب الترجمة المؤسسة لقيم القرآن السياسية إذا ما استثنينا دستور الرسول.

والحجة الوحيدة التي استعملتها هي أنهم بمنطق الاجتهاد -تجربة الصواب والخطأ-تداولوا على ثلاثة أنظمة لتعيين الحاكم: اجماع بعد خلاف (ابو بكر) فوصية (عمر) فلجنة استقراء رأي الأعيان والشعب (عثمان). وهنا توقف الاجماع ونشأت الفتنة الكبرى أو لنقل ونضجت الفتنة التي بدأت منذ وفاة الرسول.

ومعنى ذلك أن الفتنة التي بدأت منذئذ أخمدها الوفاء لأخلاق الرسول التي بقي تأثيرها غالبا إلى أن تم اغتيال ثلاث خلفاء الذي أكد اغتيال ثانيهم على كونها كانت تحت الرماد. وإذن فالدولة الناشئة ليس لها مؤسسات حماية كافية بمنطق “اعقلها وتوكل”: دولة امبراطورية بنظام حكم شبه قبلي.

وما أظن أبا بكر وعمر وعثمان غافلون بحيث سلموا بأن الفتنة التي بدأت منذ وفاة الرسول ماتت. وقد سعوا فعلا لوأدها فوضعوا الأسس الثلاثة الضرورية للتأسيس الجذري دون وسائلها. لما توفي الرسول الخاتم ترك مشروع دولة كونية ورجال قادرين على انجاز شروطه التطبيقية. وهي ثلاث شروط موجبة وشرط سالب.

فأما المشروع فهو القرآن وبداية تطبيقه هي السنة التي هي أقوال الرسول وأفعاله لتعليم القرآن ولوضع نواة دولته لأن التعليم لم يكن نظريا بالأقوال فحسب بل كان عمليا بالأعمال أيضا. فنتج عن ذلك صوغ المشروع وتكوين القيادات التي ستنجزه على منوال الإنجاز الذي حققه الرسول.

والمنوال مضاعف: تربية وحكم بقيم القرآن في عينة جامعة بين توحيد العرب وتوحيد البشر بإزالة الفروق العرقية والطبقية والجنسية (بين الذكر والأنثى). لكن هذا المشروع يتجاوز انجازه المدة القصيرة التي عاشها الرسول في الدنيا لأنه مشروع خاتم يشمل الإنسانية كلها وشرطه دولة قادرة عليه.

فكان لا بد من تحديد مركز هذه الدولة وتوحيد أهله وهو ما حققه الصديق بالحسم في الردة. وكان لا بد من تحديد بداية جديدة للتاريخ الإنساني وهو ما حدده الفاروق بوضع التقويم الهجري. وكان لا بد من توحيد نسخ القرآن أو المرجعية الروحية للإنسانية الامة الواحدة. وهو ما حققه ذو النورين.

وبقي الأمر السالب الذي هو نفي للرسالة ولمركزها المكاني ولمركزها الزماني ولمرجعيتها القرآنية: إنه السلب الجامع بينها كلها مضمونا للفتنة التي اكتملت باغتيال ذي النورين. ومن ثم فالخليفة الرابع ابتلع حكمه ابعاد الفتنة هذه التي تحولت إلى حرب اهلية ظهرت فيها الأنفاء الأربعة التي ذكرت.

فهي حرب أهلية تنفي

  1. الرسالة.

  2. والمشروع.

  3. والمركز المكاني.

  4. والمركز الزماني.

  5. ووحدة المرجعية.

وبذلك يتبين أن ما كان ينقص هذه الإنجازات كان لا بد أن يحصل بالتدريج لنقل المبادئ من مجرد التصور الذهني في محاولة فهم الرسالة ومشروعها ومركزها المكاني والزماني ووحدة مرجعيتها.

وكون ذلك كذلك لا ينقص من قيمة الدور الجليل الذي أداه خلفاء الامة الراشدين بداية للمأسسة وما أداه خلفاؤها الذي هم أقل رشدا منهم من المحافظة على الاقل على هذه المنجزات وإن بغير السبل التي يرضاها القرآن الكريم وسنة الرسول المشرفة لأنها كان تحترمهما في الأقوال دون الأفعال.

وإذا كان لي من فضل اشكر الله عليه وأحمده فهو أني أعيد قراءة القرآن بالمنهج الذي أمر به واتجنب ما نهى عنه: فهو يأمرنا بأن نطلب حقيقته مما يرينه الله من آياته في الآفاق والأنفس وليس من التفسير اللفظي للقرآن. وهو ينهانا عن تأويل متشابهه تأويلا هو دليل مرض القلوب وابتغاء الفتن.

وهو ما يعني أن حقيقة القرآن تطلب بالبحث العلمي في قوانين الطبيعة (الآيات التي يرنها الله في الآفاق) وسنن التاريخ (الآيات التي يرينها الله في الأنفس). وهذا هو القسم الثاني من بحوثي في تطبيقها على فهم سنن التاريخ كما تعينت في التجربة الإسلامية.

وكل من تفكر في القرآن يعلم أن فيه بعدين: الأول هو النقد الروحي والتاريخي للتجربة الإنسانية بمنطق التصديق والهيمنة والثاني هو المشروع الذي تكلمنا عليه في هذه المحاولة. ومعنى ذلك أني لم أخرج عن المنهج القرآني في قراءة التاريخ السياسي الإسلامي بمنطق القرآن الكريم.

ليس في القرآن قوانين الطبيعة ولا سنن التاريخ بل نماذج من منهج البحث عنها في الآفاق والانفس مع تحديد دقيق لطبيعة الآيات التي علينا الانطلاق منها: ففي الطبيعة الآيات قوانين رياضية لأن الخلق بالمقدار الرياضي. وفي التاريخ السنن هي سياسية لأن الأمر بالتشريع السياسي والخلقي.

ولذلك فعندما أتكلم في التاريخ السياسي لدولة الإسلام اكتفي بمنظور فلسفة التاريخ السياسي وأضع بين قوسين معتقداتي إذ لا دخل لموقفي من الخلفاء الراشدين في فهم أدوارهم دون تقديس لأي منهم لأن الهدف هو فهم الدور الذي أدوه في الدولة الناشئة التي تحولت إلى امبراطورية عالمية بفضل دورهم.

وعندما أتكلم على ما كان مفقودا رغم هذا الدور بل وفيه فإن ذلك ليس ذما بل هو مراجعة تمكن من تجويد ما حصل لأننا لو اعتبرنا ما حصل هو غاية التحصيل التاريخي لأنهيناه في مرحلته الاولى التي تعتبر عصرا ذهبيا ولاعتبرنا تجاوزه مستحيلا فيصبح واجب الامة العودة الى الماضي وليس تجويده.

ولما كنا في مرحلة غايتها الاستئناف وليس تكرار الماضي فإن كل من يقول بأن البداية كانت مطلقة التمام سيحارب كل ما يجد في تحقيق الرسالة التي كما رأينا هي أول من طبق نقد التجربة الروحية والسياسة الإنسانية لتجاوزها بمنطق التصديق والهيمنة من أجل مستقبل مفتوح إلى الابد.

فمفهوم الرسالة الخاتمة يعني أنها ستبقى الرسالة إلى نهاية التاريخ وليس معناها أنها هي نهاية التاريخ. وما يبقى هو فلسفتها الروحية وفلسفتها التاريخية مع تحديد لأدواتهما التي تمكن السلطان على الاحياز أي الجغرافيا والتاريخ والثروة والتراث والمرجعية القيمية التي توحد بينها شروط قيام.

وهذه الفلسفات لا يمكن أن تكون حاصلة في البداية بل هي ثمرة نضوج الوعي والخبرة انطلاقا من منظور الرسالة وفلسفتها السياسية تربية وحكما بصورة تجعل الإنسان حرا روحيا وحرا سياسيا بمعنى أنه متحرر من الوسطاء في علاقته بالمطلق ومن الأوصياء في علاقته بأمره كانسان حر فردا وجماعة.

وهذه النظريات لم تكن في متناول الخلفاء الراشدين رغم رشدهم. كانت لهم أخلاق القرآن تربية وممارسة لكن فلسفة القرآن السياسية تحديد لطبيعة النظام ولأسلوبه لم تكن في متناولهم ولا حتى في متناول علماء الملة من بعدهم بدليل مواصلة الجدل حول تضمن القرآن لنظرية الدولة أو عدمه.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي