لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهحرب العرب الأهلية
كيف يمكن بعد ما ذكرت عن العصرين الراشد والاقل رشدا في تاريخ الحكم الإسلامي أن أزعم للإسلام نظرية في الدولة وأن فكر المسلمين لم ينضج في أي منهما النضوج التام لترجمتها إلى نظام مؤسسي يدعم الخلقي بالمؤسسي حتى تكون بنية الدولة المؤسسة حائلة للحد من أثر فساد الأخلاق على الحكم بقدر ما؟
هذه مسألة اخذت من جهدي الكثير وقد قدمت فيها ثلاث محاضرات بصفتي زائرا في معهد الدولة للراسات العليا في قطر بدعوة من الزميل الفاضل الدكتور عبد الوهاب الأفندي والكثير من الدراسات التي فيها تعليقات سريعة حول القول بعدم وجود دولة في ماضي الإسلام والقول باستحالتها مستقبلا.
واليوم أريد أن أوجز حصيلة هذه المحاولات اعتمادا على المرجعية القرآنية أصلا والتطور المؤسسي للدولة الإسلامية في التاريخ فرعا يعبر عن التدرج في الوعي بمقومات الدولة من حيث هي كيان متعض رغم كونه من صنع الإنسان ومن ثم فهو كيان آلي شبيه بالكيان الحي عندما يتشخص في القيمين عليه.
وحتى أنصف صاحبي نفي وجود الدولة في الماضي (عبد الرازق) ونفي امكانها في المستقبل (حلاق) ينبغي أن أوضح ان الأول ينفي وجودها في المرجعية والثاني في مستقبل التاريخ. وإذن فأساس كلامهما هو تأويل للمرجعية وتوقع للمستقبل وليس معرفة علمية بالكلي في الدولة وفي علاقتها بالجماعة.
صحيح أن الدولة تاريخية لكن ذلك لا ينفي أن تاريخيتها ليست مطلقة بل هي متعلقة بالتعضي وليس بالوظائف. وصحيح أنه توهم وجود الدولة الحالي يصاغ نصيا بالشكل المعتاد في الدساتير وهو ليس بالضرورة كذلك دائما بل يمكن ألا يتجاوز نصه الصوغ القيمي ووجوده العيني العرف كدولة بريطانيا مثلا.
فيتضح أن نافي الوجود النصي في الماضي ونافي الإمكان الفعلي في المستقبل كلاهما غره وهم. فعبد الرازق بحث عن معدوم بالطبع وهو الصوغ الدستوري الحديث في المرجعية أو لا تكون وحلاق بحث في المستقبل عن معدوم ليبين استحالته: ظنا أن دولة الإسلام هي الدولة الفقهية الوسيطة أو لا تكون.
كلاهما طلب معدوم فلم يجده لأنه معدوم في الماضي وفي المستقبل. والعلة أن الأول حصر مفهوم الدولة في الصوغ الدستوري الحديث والثاني حصر مفهوم دولة الإسلام في شكلها الفقهي الذي يتصوره شرط أخلاقية السياسي لكأن الشكل الحديث من الدولة مناف للأخلاق.
وكان من المفروض أن يوضحوا الضمني في كلامهما:
فنافي الدولة ماضيا في المرجعية الإسلامية يحصرها في عبارتها الدستورية.
ونافي إمكان الدولة الإسلامية في الواقع مستقبلا يحصرها في شكلها الوسيط. لكن كلا المنظرين لم يجب عن سؤالين واجبين في البحث في الدولة.
السؤال الاول:
هل للدولة حقيقة بنيوية إضافة إلى تحققها التاريخي أم لا؟
والسؤال الثاني:
هل يمكن تصور جماعة من دون هذه البنية أيا كان تعينها التاريخي الذي يبقي في إطار بنيتها الكلية التي أسميها حقيقة الدولة؟
وطبعا يوجد سؤلان آخران هما وجاهة منطلق الباحثين وهما مضمران في موقفهما.
السؤال المضمر الاول:
هل عدم الصوغ الدستوري في المرجعية دليل عدم ما يقبله لو تخلصنا من تأويل خاطئ لما يتعلق به فيها؟
وهل الشكل التاريخي الذي جمد في واقع الدولة الإسلامية هو حقيقتها النهائية التي نحتكم إليها في توقع مستقبلها؟
ولهذه الأسئلة أصل واحد: علاقة بنية الدولة بتاريخيتها.
تلك هي الأسئلة الخمسة التي حاولت الجواب عنها في البحوث التي أشرت إلى بعضها في هذا الفصل. وطبعا سأبدأ بالأصل ثم اجيب عن 1 و2 إيجابا وعلى 3و4 سلبا أي إني أبين أهمية 1 و2 التي إذا علمت يصبح دحض 3 و4 أي موقف عبد الرازق وحلاقا، ممكنا وبينا لكل ذي عقل.
فماذا أقصد بأن “علاقة بنية الدولة بتاريخيتها” هي الأصل الذي تفرعت عنه المسائل الأربع التي ذكرتها؟
اقصد أن هذه المسائل تنتج عن توهم الدولة تاريخية بإطلاق وأنها عديمة البنية الثابتة رغم تاريخيتها وذلك بسبب عدم التمييز بين الوظائف الثابتة والـ «الأعضاء” المتغيرة.
وهذا التمييز بين الوظائف والأعضاء يضمر مقارنة ضمنية بين كيان الدولة وكيان الكائن الحي. لكن ذلك مجرد تعبير ولا يضمر المقارنة أصلا. فالدولة جهاز آلي من صنع الإنسان لا شك في ذلك ولا خلاف أي إنها ليست كائنا حيا. لكن وظائفها مع ذلك ثابتة وتعود إلى نوعين من الوظائف: الحماية والرعاية.
وهي إذن جهاز آلي تصنعه الجماعة لحماية ذاتها وتجعلها راعية لذاتها فحسب بداية وللجماعة غاية. وهذا هو الفرق بين عصري الدولة الدولة الحامية فحسب وتغلب علة العصرين القديم والوسيط ثم الدولة الحامية والراعية معا وتغلب على الدولة الحديثة وقد تتخلص من رعاية الجماعة مستقبلا لتعيدها إليها.
والدولة التي يتكلم عليها حلاق هي التي تقتصر على حماية الجماعة ورعاية نفسها وتترك رعاية الجماعة للجماعة أو بوصفها المسؤولة على الإنتاجين الاقتصادي والثقافي وعلى العناية بالتكوين والتموين. وهي شكل كان موجودا في المجتمع الإسلامي والمسيحي لأنها تابع للسلطة الدينية لا السياسية.
لكن الدولة الحديثة والدولة الفرعونية والبابلية ثلاثتها تجمع بين حماية ذاتها ورعايتها وحماية الجماعة ورعايتها والفصل بين الوظيفتين يكاد يقتصر على الدولة الوسيطة. والحقيقة حتى في الدولة الوسيطة لم تكن الرعاية مطلقة الاستقلال عن الحماية لأن الدين تابع للسياسة فعليا ومتبوع منها رمزيا.
وهذا العلاقة بين السياسي والديني من ثوابت التاريخ السياسي الإنساني: والعلة معلومة. فالسلطان الفعلي أقدر على الفعل العاجل والسلطان الرمزي على الفعل الآجل. ولما كان الحكم بحاجة إلى سلطان عاجل وسلطان آجل والأول سلطانه على الأبدان والثاني على الأذهان كانت النتيجة هذه العلاقة.
فالسلطان العاجل سلطان مادي وهو عنيف لكنه ضعيف في المدى الطويل مهما كان قويا. والسلطان الآجل سلطان رمزي وهو لطيف لكنه قوي الأثر في المدى الطويل. ولهذا كان لا بد من نظام تربوي سلطانه رمزي ونظام حكم سلطانه فعلي. فيكون الأول تابعا فعليا ومتبوعا رمزيا.
بنية الدولة هي التأليف بين عناصر وظيفة الحماية وعناصر وظيفة الرعاية في كل جماعة بشرية. وقد فصلتهما في غير موضع ولا حاجة للعودة إليهما. لذلك فلا بد من الانتقال للقصد بأنها جهاز آلي وليست كيانا حيا وأنها مع ذلك ذات أعضاء ووظائف. وسآخذ مثال من الاجهزة الآلية. فلنأخذ أي آلة.
بنية الدولة هي التأليف بين عناصر وظيفة الحماية وعناصر وظيفة الرعاية في كل جماعة بشرية. وقد فصلتهما في غير موضع ولا حاجة للعودة إليهما. لذلك فلا بد من الانتقال للقصد بأنها جهاز آلي وليست كيانا حيا وأنها مع ذلك ذات أعضاء ووظائف. وسآخذ مثال من الاجهزة الآلية. فلنأخذ أي آلة.
لنأخذ السيارة مثلا. فلا بد فيها من أعضاء آلية وهي على الاقل الخمسة التالية:
ما يحمي الراكب: القمرة
وما يحرك السيارة: المحرك
وما يوجهها وينبه مشاركي سائقها في الطريق: المقود والزمارة
وما يتعلق بسرعتها زيادة ونقصانا: مبدل السرعة
وما يتعلق بإيقافها عند الضرورة: المكبح.
هذه الأعضاء الآلية تحقق وظائف وهي ملازمة للانتقال حتى لو استعملنا الدواب وليس السيارات والطائرات. لكن هذه الأعضاء تم تجويدها خلال تاريخ صنع السيارات حتى أصبحت أقدر على أداء هذه الوظائف وأجمل أيضا رغم ان الوظائف ثابتة من أدنى أنواع السيارات إلى أسماها.
لكننا أضفنا أن كون الدولة آلة ذات أعضاء متغيرة ووظائف ثابتة على نحو ما وصفنا في السيارة هي آلة تصبح كائنا حيا بمن يشغل هذه الأعضاء لتؤدي هذه الوظائف. وقد ذهب التطوير الآلي إلى جعل الآلات ذاتية التسيير كما في الفرق بين مبدل السرعة الآلي أو في ملاح الطائرة الآلي.
المشكل أنه حتى في التقنية يبقى الملاح الإنساني ضروريا ويستعين بالملاح الآلي. لكن السياسة عامة والدولة خاصة لا يمكن فيها أن يؤدي الوظيفة العضو الآلي من دون العضو الحي الذي هو إنسان مكلف بمسؤولية. فتصبح أعضاء الدولة آلية الجهاز (المؤسسة) وإنسانية القرار(المسؤولية).
وبذلك يتبين أن بنية الدولة تقينا آلية وخلقيا إنسانية ومن ثم فالأخلاق حاضرة فيها مرتين: في صناعة بنية الدولة الآلية أو في نظام الحكم وأسلوبه وفي القوامة عليها أي في من له مسؤولية استخدام هذا النظام بالأسلوب المحقق لغايات هي ما لأجله صنعت الآلة أي الحماية والرعاية بإرادة الجماعة.