حرب العرب الأهلية، عللها وشكلها النهائي بين الثورة والثورة المضادة – الفصل الأول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله حرب العرب الأهلية

قد يعجب الكثير من قولي أمس في إحدى تغريدات المحاولة المتعلقة بالانحطاط وما نحن عليه بعد ثورة الشباب أن اليسار والقوميين في المجمل عملاء وإن الإسلاميين غير مؤهلين لأنهم إما مخترقون أو طامعون في حكم جنيس لما وقعت عليه الثروة من حيث التبعية لنفس القوى الاستعمارية.

في هذا الحكم على ما يبدو الكثير من التجني ليس على اليسار والقوميين لأن وصفهم بالعملاء مبني على مواقفهم من الثورة فضلا عما تقدم عليها: فكلى الصفين افتضحا بافتضاح مضاعف.

فالقوميون افتضحوا بافتضاح ما يسمى بالمقاومة التي من جنس عنتريات حزب الله ذراع إيران.

واليسار افتضح منذ أن سقطت لعبة المعارضة في الجهر والمساندة في الخفاء لأنظمة الاستبداد والتبعية وخاصة في تونس: فجلهم يجمع بين المعارضة التي يحتاجها النظام لتجميل وجهه في الغرب والمساندة لكل ما يمكن النظام من سلوك استبدادي ومافياوي إزاء الشعب لأن لهم منه حظ.

وما أظن أحدا يخالفني الرأي الآن أن جل اليسار العربي الذي لا يقتصر على الكتابة اليسارية بل يمارس السياسة اليسارية في صف السيسي وبشار وحفتر وكلب حكام الإمارات والليبراليين الخليجيين مجمعين على أن حربهم المقدسة هي ضد الإسلام وليست ضد الاستبداد والفساد لأنهم منهما يتمعشون.

بقي المشكل مع الإسلاميين. فهم المقاومون بحق للاستبداد والفساد لأنهم هم ضحاياه بسبب استمداد اصحابه وجودهم من حربهم على الإسلام عربوا يقدمونه للدلالة على ولائهم لسادتهم الذين نصبوهم حكاما على الامة بعد أن فتتوا دارها وشتتوا صغارها وأرهبوا كبارها فجعلوها أضحوكة العصر.

لكني مع هذه الشهادة التي أقدمها لدورهم والتي عللت نضالي إلى جانبهم رغم أني لا أنتسب إلى أي حزب من أحزابهم لاحظت أن صنفيهم المجاهد حربيا (أو ما يسمونه بالإسلام السياسي الجهادي) والمجاهد سلميا (أي ما يسمونه بالإسلام السياسي الديموقراطي) كلاهما مخترق وغاية مسعاه عقيمة.

فـ”الإسلام السياسي الجهادي” و”الإسلام السياسي الديموقراطي” أقبل وصف هذين النوعين من الإسلام بالسياسي رغم خلافي معه لأن الإسلام بل وكل دين هو بالجوهر سياسي كما بينت بعد أن فهمت السياسة الحديثة تجاوز وظيفة الحماية في الدولة التقليدية بل صار لها وظيفة الرعاية.

فما كانت الأديان تركز عليها في فهمها للسياسة بكونها في آن متعلقة بالرعاية وبالحماية أي إنها نظام روحي وسياسي في آن تحمي الجماعة بنظام قيمي في الرعاية التربوية والتعاونية وبنظام سياسي في الحماية يجعل الجماعة مجاهدة لحماية ذاتها من غيرها أصبح المفهوم الحديث للسياسة.

وبهذا المعنى استحوذت الدولة الحديثة وخاصة في أوروبا بعد الإصلاح الديني (ألمانيا) والثورة السياسية (فرنسا) على الجزء الثاني من وظيفة الأديان أي البعد الاجتماعي والرعاية بمعنييها فضمت إليها وظيفة الرعاية ولم تعد مكتفية بوظيفة الحماية مع التبرك بالدين كما كانت في القرون الوسطى.

ومن هنا يأتي مشكل الإسلام السياسي بمعنييه الجهادي والديموقراطي. ولنبدأ فنميز بينهما تمييزا جوهريا. فما يسمى الإسلام الجهادي هو الإسلام الرافض للديموقراطية والذي يتصور عودته للاستبداد باسم الدين (كما في إيران) هو مفهوم السياسة في الإسلام. لذلك فهم يمثلون كاريكاتور الإسلام.

ذلك أنهم يتوهمون أن الخلافة الإسلامية حتى في عهد الراشدين حكمت بنظرية الدولة القرآنية. فالراشدون لم يكن لهم رؤية واضحة لنظرية الدولة الإسلامية والدليل أنهم مروا على الأقل بثلاثة أساليب في تعيين الحاكم ولم يحددوا شروط تنحيته ولا شروط مراقبته بل بقيت عفوية وارتجالية.

ومعنى ذلك أن الراشدين لم يكونوا راشدين إلا بفضل أخلاقهم التي ما تزال متأثرة بسلوك الرسول وأخلاقه. لكن الاخلاق لا تكفي في السياسة إذا لم تتحول إلى مؤسسات ضامنة لتحققها في إدارة الشأن العام سلما وحربا وفي وضع تشريعات صريحة للنظام السياسي وأسلوب الحكم.

ولهذه العلة لم يدم نظام الراشدين طويلا وحدثت فيه اغتيالات وانتهت إلى انقلاب شعبوي ضد آخر الخلفاء الراشدين -عثمان بن عفان-واعتبره آخرهم لأن الرابع لم يحكم ولان اغتيال عثمان آل إلى حرب أهلية وانقسام الأمة ومن ثم فحتى لو قبلنا بتسمية علي خليفة فهو على بعض الامة وليس عليها كلها.

أعلم أن هذا يغضب السنة أكثر مما يغضب الشيعة لأن الشيعة لا يعترفون إلا بخلافته. وهو يغضب السنة لأنهم ينزهون عليا عن أن يكون غير شرعي بمقتضى عادات الحكم غير المصوغ مؤسسيا. لكنه حتى بهذه العادات لم يحصل على شروط الشرعية: لم تكن له غالبية بين أهل الحل والعقد لقلة من بايعه منهم.

ولست بحاجة إلى احصائيات انتخابية: لأن دليل الأغلبية-باصطلاح الغزالي في الفضائح-هو أن الحاكم الحاصل عليها هو الحاكم الذي يستقر حكمه لأن الأقلية حتى لو خرجت لن تضره بل هي ستزيد لحمة الأغلبية التي تسنده. وهذا معيار موضوعي لا جدال فيه. وعلي لم يحكم يوما لأنه لم يحسم الحرب الاهلية.

وحصيلة القول إن الخلافة بمرحلتيها التي حكمها من تبين الرشد من الغي والتي حكمها من لم يتبينه ليست نظرية الحكم الإسلامية. فهي في حكم الراشدين كانت بصدد التحدد التجريبي بما يمكن تسميته التردد بين الصواب والخطأ بناء على معايير خلقية فكانت راشدة لأن الراشدين كانوا على خلق الإسلام.

ثم بعد الحرب الاهلية -أربعة حروب: اثنان مع علي وواحدة مع ابنه وواحدة مع ابن الزبير -صارت الأخلاق الحاكمة هي أخلاق الجاهلية والقبلية على الأقل فيما يتعلق بالحماية والحقوق السياسية لأن الرعاية والحقوق الاجتماعية لم تكن حينها من وظائف الدولة بل من وظائف المجتمع الاهلي والدين.

وما ظل المسلمون يرفضون هذه الحقائق فلن يكون بوسعهم تحقيق شروط الإصلاح التي تقتضي التمييز بين ما في القرآن من مؤسسات بينة المعالم لتنظيم الحكم وما في التاريخ من عدم وجود مؤسسات لتنظيم الحكم الذي هو متروك لأخلاق الحاكم دون سواها والذي يجعل ظاهرة الراشد الخامس ممكنة.

لذلك فالجهاديون خطابهم يوهم بأنهم يطلبون حكما من جنس حكم الراشدين لكن أفعالهم كلها من جنس حكم غير الراشدين: يريدون الجمع بين قول راشدي وسلوك جاهلي. فظاهرة أمراء الحرب وتفتيت المقاومة لا يمكن أن تفهم إلا بالعودة إلى صراع المذاهب أي إلى نفي وحدة الإسلام الذي هو جوهر الجاهلية.

وبهذا المعنى فالحكام المستبدون والفاسدون رغم ذلك يبقون أقرب إلى الإسلام منهم حتى لو كانوا ملحدين. ذلك أن الجهاد الذي يتحول إلى صراع القبائل الجاهلية والإغارة المتبادلة بين أمراء الحرب كما يحدث في سوريا ولدى داعش مثلا ليس أعدى على الإسلام منه لأنه يبعد عنه شعبه ويقوي عدوه.

أما الإسلام السياسي الذي يدعي أصحابه أنهم ديموقراطيون فهذه أكبر كذبة عرفها التاريخ. ذلك أن الديموقراطية مبنية جوهريا على الانتساب الطوعي والاختياري للقوى السياسية أو الاحزاب. وكل الحركات الإسلامية ليست أحزابا ولا يمكن أن تكون احزابا ما ظلت “ساكت” أو “فرقة” دينية.

صحيح أنها يمكن أن تكون ذات وحدة قوية ما ظلت سرية ومعارضة. لكنها لا يمكن أن تبقى واحدة وقوية إذا خرجت إلى العلن بدعوى انها تحولت إلى حزب مع المحافظة على مبادئ الانتساب إليها أعني العلاقة الهرمية بين سلطة روحية وتوابع لها ككل “ساكت”.

ومن ثم فهذا التعارض بين معايير الانتساب ووظيف الحزب هي التي تجعل الفساد يطرأ إما على وظيفة الحزب أو على معايير الانتساب: فيسهل اختراقها وخاصة عندما يصبح لها أمل الحكم بأي ثمن فلا يبقى لها وظيفة الإصلاح الروحي بل تقتصر على الحكم ولو بشروط أشد يفرضها الحامي للنظام السابق.

ولهذه العلة كان سؤالي: هل يقبل الإسلاميون في تونس شرطي الحامي على النظام السابق وهما سيكونان أشد:

  1. القبول بالتبعية لفرنسا أي مواصلة السياسة الاقتصادية والثقافية التي كان النظام السابق يعمل بها؟

  2. التطبيع مع إسرائيل بصورة أكثر صراحة مما كان عليه الأمر مع النظام السابق؟

وتبين لي -ولعلي مخطئ- أن ما حدث هو ما توقعته: لم يسمح للإسلاميين بالمشاركة الرمزية في الحكم إلا بهذين الشرطين. وآمل أن يكون تحليلي مخطئا. لكني إلى حد الآن لم أر شواهد تكذبه بل إن الشواهد تتوالى لتصديقه خاصة وكل بلاد العرب أصبحت ساعية إلى التبعية المطلقة.

والتبعية المطلقة ذات مستويين:

  1. التبعية للذراعين إيران وإسرائيل.

  2. والتبعية لموظفي الذراعين: روسيا وأمريكا.

وهذا الوضع لا يخص الحاكمين بالفعل ونخبهم فحسب بل إن المعارضين الذين هم حاكمون بالقوة ونخبهم. ومن ثم فثورة الشباب لن تنجح إذا لم تصبح ثورة واحدة مثل الثورة المضادة واحدة.

وإذا كان للثورة المضادة فضل فينبغي الاعتراف به: هي فهمت أن الثورة نجحت روحيا لأنها نالت ولاء كل الشعوب إذا ما استثنينا الحكام وبطانتهم وطباليهم من المثقفين بنوعيهم التقليدي والحداثي فاتحدت ضد هذا السند القلبي للثورة بالتساند العنيف أو المال والسلاح في كل الوطن العربي.

وعلى الثورة أن تبدأ فتثور على أمراء الحرب من الإسلام السياسي الجهادي وأمراء “السلم” من الإسلام السياسي الديموقراطي لأن هذين أصبحا عائقي وحدة الثورة استراتيجيا وقياديا ومسرح معركة: فالمسرح واحد (كل الوطن) والقيادة واحدة (باسم شروط الاستئناف) والاستراتيجية واحدة (تراتب هذه الشروط).

فوحدة المسرح تمت بمنظور الثورة المضادة: فالذي يمول الانقلابات على الثورة لا يتوقف عند حدود قطره بل هو يعمل في كل الوطن العربي. وعلى الثورة ألا تعترف بالحدود الاستعمارية وأن تتحد في كل الأرض العربية. والقيادة واحدة بمنظورها: وحدة النظامين القبلي والعسكري ضد الحرية والكرامة.

وطبعا فهتان الوحدتان للثورة المضادة يسندها الاستعمار وذراعاه في الإقليم وإلا لما حصلت. وعلى الثورة أن تتحد على الأقل كرد فعل قبل أن تصبح ذات استراتيجية لأن الغايات بينة وواحدة: تحقيق شروط الحرية والكرامة لأهل الإقليم بقيم القرآن وقيم الحداثة. ولا معنى للصراع بين الإسلام والحداثة.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي