وصلنا الآن إلى بيت القصيد من المحاولة وإلى ذروة السخافة في النقد الذي تسمعه من الحداثيين العرب عامة ومن الماركسيين منهم على وجه الخصوص: المقابلة بين النص والواقع. يجمعون على أن الثقافة العربية الإسلامية ثقافة نصوصية وهم ينقدونها بالواقع الذي يصلون إليها بسحر ساحر وليس بالنصوص. ثم يبالغون فيزعمون أن هذه خاصية لثقافة المسلمين وليست من شروط كل معرفة بمعنى أن ذلك صار من علامات تخلفنا. وكنت أقبل مثل هذا النقد لو كان القصد سلطان النصوص في أي معرفة انسانية تكلست فلم تبدع نصوصا بديلة من نصوص صارت جامدة. فيكون النقد نقدا لجمود النصوص وليس لوجودها في المعرفة. ولا يمكن أن يكون هذه قصدهم لعلتين: فالفلاسفة في اللحظة التي يركزون على نقدها كانت نصيتهم أكثر جمودا من غير الفلاسفة لأن جله فكرهم كان شروحا لنصوص أرسطو وتلامذته ولم تكن إبداعا حيا يصوغ تجارب غير التي يتكلم عليها أرسطو وتلامذته حتى إن الامثلة التي تضرب فيها كانت هي بدروها أمثلتهم. بل أكثر من ذلك فنقد هؤلاء الحداثيين كان مبينا على نصوص جمدت منذ قرن وهي نصوص المدرسة الماركسية في أدنى مستوياتها التي عملوا بها بوصفها شعارات يعتبرونها علما وهي مجرد مواقف تأويلية فاقدة للقدرة التفسيرية للظاهرات الاجتماعية وخاصة عند الاقتصار عليها. فلنفكك المسألة علنا نصل إلى فهم دقيق لقضية النص في علاقته ليس بالواقع لأني لا أعرف الواقع ما هو بل بنص آخر يعتبر أكثر أمانة في “مطابقة” صورة أفضل من الواقع الذي يبقى دائما مجهولا وإن كان بوسعنا أن نفاضل بين الصور المتوالية لترجمة ما نفترضه عليه نظرا لما وصلنا من أعراضه وتمظهراته. فلا يزال تعريف أفلاطون للنظرية صالحا: فهو يعتبرها ما ينقذ الظواهر أي ما يكون صورة تمكن من تفسير تمظهراته الأساسية التي نعتبرها نسقا متماسكا منها بعبارة رياضية تمكن من تفسيرها أو من تعليلها إن سلمنا بأن الشيء الذي نسميه “واقعا” له نظام ما هو ما نسميه قوانينه أو عبارته الرياضية. و”النصوص” هي عادة ما تراكم من هذه النظريات حول موضوع معين لولا وجودها لاستحال على المعرفة أن تتقدم. وليكن مثالنا رياضيات اقليدس. فلا يمكن لأي باحث في الرياضيات إلى حدود اكتشاف الأنساق الرياضية الحديدة الاستغناء عنها بوصفها النصوص المعتبرة في مجال البحوث الرياضية. وليكن مثالنا الثاني من العلم الحديث. هل يمكن تصور أحدا ذا عقل يفكر في الفيزياء بين القرن السابع عشر والقرن العشرين دون الاستناد إلى فيزياء نيوتن؟ هل هذه نصوصية أم ضرورة معرفية؟ طبعا سيرد علي: نحن لا نتكلم على النصوص العلمية بل على النصوص الدينية عامة والفقهية خاصة. ولست غافلا عن الاعتراض. ما يعنيني الآن هو اثبات الظاهرة عامة أيا كانت الممارسة المعرفية ودور الرصيد المعرفي المتراكم في المجال حول موضوعاته ونسق العبارة العلمية عنها. وسنأتي لاحقا للتفصيل بحسب المجالات وهي ستبين تناقضهم في القول بالمقابلتين معا. ذلك أن المشكل ليس في النصوصية. المشكل هو في عدم تجدد النسق العلمي رغم تجدد المضمون العلمي الذي تجاوز صيغ التعبيرا لقديم عنه. فلا فرق بين من يعمل في الفيزياء وكأن رؤية نيوتن على صحتها ما تزال كافية في علمها ومن يعمل في أصول الفقه كما بينت للشيخ البوطي رحمة الله عليه وكأنها كافية رغم تجاوز صيغ التعبير القانوني لها. لو كان نقدهم لسلطة النص بهذا المعنى لما كان لي أدنى اعتراض لأن ذلك لو كان كذلك لكان نقدهم للفلاسفة المعاصرين أولى بالعناية من نقدهم لعلماء الدين الذين يركزون عليهم. فهؤلاء على الاقل كانوا يعتمدون على نصوص كان معاصرة لموضوعاتها لأنها صيغ نظرية وضعت لها في الممارسة الحية لمجتمعها. ولكان الأولى نقد النصوصية التي يعتمدونها هم في نقدهم. فبخلاف ما يتوهمون لم يكونوا ينقدون “نصوصية” دينية بالاعتماد على “الواقع” كما يزعمون بل بنصوصية ماركسية (ناصر حامد أبو زيد) أكل عليها الدهر وشرب ولم يعد يعتبرها علمية إلا هؤلاء الحداثيين المزعومين. وهذا هو مربط الفرس. مغالطتان إذن: 1. تصور علم من العلوم قابلا لأن يكون خاليا من نسق من النصوص تتراكم فيها نتائج المعرفة المتقدمة على العمل المنقود وتوهم ذلك خاصا بنا وبثقافتنا الدينية 2. تصور عملية نقد الظاهرة خالية هي بدورها من مثل هذا النسق النصوصي في ثقافة الناقد العلمية إن كان بحق عالما. ومع هاتين المغالطتين في المقابلة الثانية -نص واقع-نجد مغالطتين أخريين: فلا يمكن طرح هذه المقابلة وفي نفس الوقت طرح المقابلة السابقة-نقل عقل-. فالنقلي في المعرفة هو مضمون العلم وهو دائما نقلي بمعنى أنه معطيات تجريبية سواء كانت طبيعية أو روحية. فهي تعني أن العقلي نص بلا “واقع” لأن العقلي في مقابلة النقلي يعني أنه خال من النقل أي من “الواقع” والنقلي خال من “العقل”. فيكون هذا واقعا غير عقلي وذاك عقلي غير واقعي. وهذان المغالطتان بينتان لكل ذي عقل لأن ما يثبت لأحدهما ينفى عن آخرهما وإلا لما تقابلا هذا التقابل ولما احتاج النقلي للرد إلى العقلي في خرافتهم. وكما سبق أن بينت منذ الفصل الاول في كلامي على أصل هذه المفارقات الاربع كل ذلك يرد إلى القول بنظرية المعرفة المطابقة في الفلسفة السطحية: يتوهمون أن “عقلهم” متطابق مع “واقعهم” فيستنتجون أن ما لا يوافق علمهم ليس واقعيا بل هو من خيال علماء الدين أو المتكلمين عن التجربة الروحية فيه. لم يدر بخلدهم أن اخلادهم إلى الأرض يحول دونهم والبصيرة التي تعتمد على مبدأين: عدم توهم العلم المطلق الذي يرد الوجود إلى الإدراك ومن ثم التخلص من نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة ثم عدم الاقتصار على التجربة الطبيعية لخارج الإنسان والالتفات إلى التجربة الروحية لداخل الإنسان. ولو كان لهم أدنى درجة من البصيرة لكان أول سؤال يتبادر إلى أذهانهم هو شرط العلم نفسه أي “الوعي” الإنساني أو الإدراك بكل درجاته. فهذه الظاهرة نرى أن لها أدوات عضوية يمكن حصرها في الجهاز العصبي. لكن علمنا لنشاط الجهاز العصبي لم يفسر وقد لا يفسر أبدا طبيعة الوعي والإدراك. ما نعلمه من الوعي والإدراك والشعور وحتى “العقل” هو جهازه العضوي لكن تحول ذلك إلى حضور الذات لذاتها حضورا يصاحب الوعي بغيرها هو من أسرار الوجود التي لم تكتنه إلى الآن بصورة تشفي الغليل حتى وإن كان القياس على أدوات الفكر الصناعي يقربنا من نماذج تشبهه كميا لكنها مختلفة كيفيا فهذه الأدوات التقنية التي تشبه الفكر الصناعي مبرمجة من الإنسان بما لا يدري طبيعته ما هي حتى لو استطاع أن يجعل ما يبرمجه من هذه الآلات “المفكرة” صناعيا قادرة على برمجة آلات تصنعها كصنع الإنسان لها. فنحن نقيس هذه الآلات على فكرنا لكن العكس يبدو مقصورا على أبسط أعمال فكرنا. وقصدي أن هذه الآلات لا تستطيع إنجاز عمل لم نجعله نحن بخوارزميتنا قابلا للخوارزمية بمعنى أنها لا تستطيع أن تنجز إلا ما أنجزناه قبلها بلغة نحن وضعناها لها. لو كانت نسبتها إلينا مناظرة لنسبتنا إلى من نعتبره قد “صنعنا” فنحن ما زلنا شديدي التخلف في محاكاة صناعة صانعنا المبدعة. وهو ما يعني أن أول الأسرار الذي كان ينبغي أن يتحير أمام هؤلاء السذج هو عمل الفكر نفسه أو الوعي والإدراك الشارطين للمعرفة. فخزينة اسرار الوجود هي في الإنسان نفسه إرادته الحرية وفكره المدرك وقدرته المؤثرة وحياته المبدعة ووجوده المطابق لهذه الفاعلية لغز الألغاز وتجربة التجارب الروحية. والمعلوم أن من أهم مباحث القرآن الكريم بل وأسمى أدلته على التجربة الروحية هي كلامه على أبعاد الإنسان هذه وتلازمها مع أسرار الوجود شهادته وغيبه. ولما تسمع تخريفهم في ما يسمونه نقدا للقرآن خاصة تعلم مدى السذاجة التي تسيطر على فكرهم إن كان ما يتفوهون به يستحق هذا الاسم. وكم أعجب من محاولات تفسير متن القرآن بكونه ليس إلا “سرقات” من الكتب السابقة. وقد سألت بعضهم: هب ذلك صحيحا. فهل الكتب السابقة هي بدروها سرقات من كتب سابقة أم هي منزهة والعيب خاص بالقرآن؟ فإن قال لكنها هي السابقة سألته ومن أدراك هذه غير مسبوقة؟ ثم دللت أحدهم إلى ظاهرات مفحمة. هل ينكر أحد أن القرآن يتكلم في الأديان السابقة؟ وأنه يورد منها استشهادات لينقدها؟ فما الفائدة إذن من الكلام على وجود السابق فيه كلاحق؟ هل يمكن أن ينقد نصا من دون الشواهد؟ حضور الشواهد فيه لا يدل على السرقة بل بالعكس يدل على الأمانة بمنطق “مصدقا لما بين يديه ومهيمنا عليه”. وسألت أحد المتعالمين: هل زرت جامع عقبة ابن نافع في القيروان؟ فتعجب وكاد يقهقه من سؤال كهذا خلال الكلام على “مسروقات القرآن” المزعومة. لكنه بشيء من أدب الحوار قال نعم زرته عدة مرات. سألته ألم تلاحظ أن جل حجارته وأساطينه رومانية؟ قال لاحظت. سألته هل للمسجدية علاقة بمادة المسجد؟ تلعثم. ثم سألته: هل إذا اشتركنا أنت وأنا في استعمال العربية للعبارة على فكرنا نستنتج من ذلك أنك سرقت افكاري أو أنا سرقت أفكارك؟ فرد متفاصحا: أنت تخلط بين الامور. سألته: هل الفنون المتماثلة لها لغة متماثلة أم لا؟ ألا توجد لغة المسرح؟ ولغة السينما؟ ولغة الأدب؟ ولغة الشعر؟ هل تعتقد أن الاديان لها لغة مشتركة أم لا؟ فهي تستعمل بلاغيات التعبير عن الروحانيات وحتى الميثولوجيا والاساطير لها بنى متماثلة في كل الحضارات رغم أنها نشأت عندما لم يكن بوسع أهلها أن يطلعوا على تجاربهم المختلفة لأن التواصل الحالي لم يكن موجودا. هل لك تفسير لوحدة الأساليب. والحصيلة امران: 1. مجرد محاكاة للنقد الديني دون فهم لكون القرآن لم يترك شاردة ولا ورادة في هذا النقد وأن ما النقد الحديث ما يزال دونه فيه لكنهم يتجرؤون عليه تجرؤا يمنعهم جبنهم على استعمالها في كلامهم على المسيحية ناهيك عن اليهودية. 2. دافعهم إذن ليس العلم بل حداثوية ترضي سادتهم فقد باتت علامة الحداثة الجرأة الساذجة على القرآن والحديث والإسلام والرسول من أنصاف مثقفين لا يميزون بين العلم ومضغ الشعارات الحداثوية التي يترشحون بها للمناصب العليا لدى حكام يستمدون بقاءهم ليس من شرعية الولاء لحضارتهم وشعوبهم بل من سند حماتهم وسادتهم في الاقليم وفي العالم.