كلما سمعت حداثيا يتكلم على العقل وخاصة إذا كان من دارسي الآداب العربية الذي ليست أدري لماذا يحلو لهم التظاهر بالعقلانية والحداثة وحتى بالأفراط في التظاهر بالتفلسف وتقديم الأحكام الحاسمة في أهم قضايا الوجود الإنساني وخاصة في الأديان بعجلة وسطحية علتها ظنه عموميات الصحافة فكرا. أما إذا أضاف مع الكلام على العقل الكلام على الواقع والعلم به فإنه لم يبق لكل ذي عقل إلا أن يقول لا حول ولا قوة إلا بالله. وطبعا من خبرهم لا ينزعج لأن من يسمعهم لا يميزهم عن تخريف العامة في المقاهي بوثوقية المدارك الغفلة وانتفاش المختصين في الإسلاميات أو الإسلامولوجيا. وكم تكادس من المختصين في “انثروبولوجيا القرآن” ولست أدري هل يقصدون نظرية الإنسان في القرآن أم يعتبرون القرآن موضوعا للانثروبولوجيا. وقد أفهم المعنى الأول لكني أتحير في فهم المعنى الثاني إلا إذا كان القصد انثروبولوجيا المسلمين الذين قد ينسبون إليهم “تأليف” القرآن أو سياق تأليفه. وعندنا في تونس أحد الخرافين ومكثر الكلام في ما يسميه انثروبولوجيا القرآن وإلى الآن لم يحدد قصده وعلى كل فهو لا المعنى الأول ولا المعنى الثاني بل معنى غائم غير قابل للامتحان لأن ما كتبه في الموضوع لا علاقة له بالانثروبولوجيا ولا بأي علم في معهود الأكاديميات لدى الجماعة العلمية. وحتى لا ينفرط عقد الكلام في “العقل” الذي يكثرون من دعوى الكلام باسمه لن أطيل الحديث حول تخريفهم كله بل سأكتفي بما يمكن أن يعنيه العقل لديهم مع تعريج سريع على “الواقع” الذي يتغنون بالاستناد إليه في مقابل من يتهمونه بالنزعتين النصوصية والنقلية في فكرهم من لا يجاريهم في “عقلانيتهم”. إذن عندنا مقابلتان يكثرون الكلام فيهما: 1. المقابلة عقل نقل وهي موروثة عن علم الكلام والفلسفة الوسيطين. 2. والمقابلة سلطة العقل وسلطة النص وهي كثيرة التردد عند أدعياء الماركسية من مفكري العرب الذين يتفلسفون من منطلق ما يزعمونه من اختصاص في الحضارة من أقسام العربية وجلهم منها. فاركون وأبو زيد والشرفي وجل تلاميذهم هم من هذا الجنس يليهم بعض خريجي المدارس الدينية التقليدية الذين يريدون الطير دون أجنحة في المسائل الدينية والفلسفية لكأن الامر يكفي فيه الاطلاع على عموميات النقد الديني لكي يصبحوا من النقاد المسموعين. ويكفيني أن أتكلم إذن في المقابلتين وأصلهما. هي إذن أربع مفهومات وأصلهما يساء استعمالها مع أصل سوء الاستعمال الذي يولد الدغمائية فيها تصوراتها جميعها: مقابلة العقل والنقل ومقابلة العقل والنص والأصل نظرية المعرفة التي آلت بهم إلى رد الوجود إلى الإدراك وهو ما يقصدون بالواقع دون أن يقصدوا التطابق الهيجلي بين العقل والواقع. فلا يمكن أن يقصدوا ما يعنيه هيجل بأن كل ما هو عقلي واقعي وكل ما هو واقعي عقلي لأن ذلك يقتضي أمرين ما اظنهما يخطران على بالهما: 1. المعنى التأملي للقضية المنطقية وهو معنى يتنافى تماما مع العقل الاستريائي الذي يعتمدون عليه. 2. والمعنى الجدلي للواقع الذي يتنافى مع المقابلتين. فهيجل لم يجعل المطابقة بين العقلي والواقعي مطابقة مباشرة بل هي مشروطة بالطابع الجدلي للعقل والواقع بصورة تلغي هذه المقابلات السطحية ولا تعني ما يفهمونه من العقل ولا من الواقع بل شيئا آخر يقتضي تذويت الموضوعي ووضعنة الذاتي في نظرية وجود كل مقولاتهم لامعنى لها ولا تنطبق عليه. وهو ما يعني أن العقل عنده ليس ملكة نفسية كما يتوهمون في دماغ الإنسان بل هو قيام المفهوم نفسه من حيث هو عين صورة الموضوع الذي هو كذلك ليس كيانا قابلا للعيان الحسي خارج هذا المفهوم القائم بنفسه. فالقيام بالنفس ليس ما في الذهن ولا ما في العين بل هو ما به يقوم كلاهما قياما واحدا. فلا العقل صفة نفسانية للإنسان ولا الواقع صفة عيانية لموضوعات العقل بل هما وحدتهما القائمة بذاتها. ولهذه العلة فمنطقه هو عين ميتافيزيقاه. وهؤلاء المتكلمون على العقل والواقع يدعون السخرية بكل ما يتجاوز رؤاهم القائلة بالعقل والواقع والتطابق بينهما أي ما يسمونه موضوعية المعرفة. العقلي الذي هو واقعي والواقعي الذي هو عقلي عند هيجل ليس هو عقل الإنسان ولا مدركه خارج عقله بمعنى ملكته النفسية بل هو أشبه بمثل أفلاطون التي تكون في آن مفهومية وجودية غير مؤلفة من إدراك الإنسان ومدركه بل هي شرط الإدراك والمدرك لأنها هي القيام في موجودات العالم والإنسان أحدها. لذلك فهم لا يفهمون معنى أن تكون القضية التأملية في المنطق الهيجلي الذي هو عين الميتافيزيقا مطلقة الاختلاف عن القضية الجملية في المنطق الأرسطي الذي هو مجرد أرغانون للاستدلال ولا يدعي منزلة لا يوليها أرسطو إلا إلى الميتافيزيقا أو ما في منطق هيجل من مطابقة بين المنطقي والميتافيزيقي. وهذا كاف ولأعد إلى أصل هذه المعاني الأربعة التي أريد بيان وهاءها وسطحيتها أعني القول بالمطابقة في نظرية المعرفة الساذجة التي يبني عليها هؤلاء المتفلسفة بالمعرفة العصامية التي ينقصها النضوج الكافي للخوض في تفاهات إيديولوجية ضد الدين والمتعاليات الإنسانية باللغو الإيديولوجي. سأكتفي بملاحظة سريعة قبل الكلام على نظرية المعرفة المطابقة التي سبق الدين إلى رفضها وانتهت الفلسفة الحديثة وخاصة العلوم الحديثة إلى الاقتناع بأن أساس العلم هو ضرورة التخلص منها والاعتراف بأن العلم الإنساني والعقل الذي ينسب إليه إبداعه لا يكاد يتجاوز الصفر بالقياس إلى أعماق الوجود. وهذا لا يقلل من قيمته ولا من دوره الجوهري في الوجود الإنساني وما الحواس إلى أفضل مثال من جوهر دوره: فهو شرط البقاء الإنساني لأنه أهم أدوات تحقيق ما به يتحقق قيام الإنسان العضوي والروحي بما يمكنه من أدوات تحقيقه ومناهجه ومن تنظيم حياته وشروطها في متلاطم أمواج الوجود اللامتناهية. كيف أدرك الدين سطحية الرؤية القائلة بنظرية المعرفة كمطابقة التي يترتب عليها أن الوجود يقبل الرد إلى الإدراك؟ ولماذا جعل ذلك من شروط الإيمان الصادق؟ مقدمة وجودية يترتب عليها نتيجة خلقية. المقدمة: لم نؤت من العلم إلا قليلا والوجود لا يقبل الرد إلى الإدراك الإنساني أو الغيب. النتيجة الخلقية: الإيمان بوجود حقيقة متعالية على علمنا هي الغيب في الوجود الشاهد معناه الإيمان بأن علمنا لا يطابقها وهو بالأساس اجتهاد دائم لا يمكن أن يطابق الوجود ومن ثم فالعلم بالجوهر سعي دائب لتحصيل الممكن من إدراك الوجود دون ادعاء المطابقة ومن ثم فلا يمكن ادعاء العلم المطلق. وعندما يزول ادعاء العمل المطلق يحصل التواضع الذي هو شرط التواصي بالحق أو البحث المشترك عنه بين العقول الإنسانية من حيث هي ملكات إدراك منظم إما قبلي فرضيا لما نفترضه نظاما قانونيا لما نطلب معرفته أو بعدي لما نصل إلى اثبات كفايته للعبارة عن معطيات التجربة التي اخترناها لامتحانه. وما تؤيده معطيات التجربة مما افترضناه يبقى دائما فرضيا لأنه متناسب مع أدوات إدراكنا لها وهي تبدأ بحواسنا ثم تترقى كما ترقت فرضياتها في الغوص إلى بواطن الأشياء التي نطلب معرفة قوانينها. وليس لهذا المسعى نهاية معلومة تمكن من القول إن علمنا صارت معرفة نهائية. فهو دائما علم إضافي إلى ما حصلناه من خبرة إدراكية وأدوات تيسر النفاذ إلى أعماق الموضوعات التي نبحث فيها من منطلق علاقتنا بها وحاجاتنا. ودعوى المطابقة على نوعين: 1. من بداية الفلسفة إلى نهاية الحداثة (كنط). 2. ومن نهايتها إلى ما يسمى ما بعدها. والأولى اوضح من الثانية. فالأولى تؤمن بوجود حقيقة قائمة بذاتها خارج الأذهان وتدعي أن العلم الذي يقوم في الأذهان يمكن أن يصل إلى المطابقة معها فيكون الإدراك مطابقا للوجود في ذاته. وهذه الأسطورة أنهاها كنط. لكنه لم يقل بالغيب بل قال بالشيء في ذاته أو المعقول(نومان)غير قابل للعلم إلا لعقل حادس علمه مبدعها. مشكل الفلسفة الألمانية كلها من بعده كان البحث عن التخلص من “الشيء في ذاته” أو المعقول لعقل حادس علمه بالوجود هو عين إيجاده. وكانت المحاولة الأولى التي ظنت ناجحة محاولة هيجل الجدلية التي تجعل المعقول والموضوع شيئا واحدا بالطريقة الجدلية التي حاولت بيانها. فعادت المطابقة الساذجة. وكل المخرفين من الحداثيين وخاصة الماركسيين منهم يعتمدون على هيجل دون فهم لأنه لا يتكلم على المطابقة بين العقل النفساني (الاسترياء) والمدرك الحسي بل المطابقة الجدلية بين الذاتي والموضوعي والتي تنفي هذه الثنائية السطحية التي لم يتجاوزها أي من القائلين بالمقابلتين موضوع بحثنا. أما النوع الثاني من المطابقة فهو النوع الذي تقول به ما بعد الحداثة والذي يمكن نسبته أبوته إلى نيتشه. لا معنى للكلام على الحقيقة ولا حاجة للكلام على مطابقة ولا عدم مطابقة لأن الأمر الثاني الذي نتكلم على المطابقة معه هو بدوره من مبدعات الفكر الإنساني فكل شيء سردية خيالية ناجحة. ولو أخذت رؤية تصوف الوحدة المطلقة وأزلت الكلام على رب أو إله والحكم الديني بالإيمان والكفر لكان ذلك أقرب الأشكال تعبيرا عن القصد النيتشوي في نفي ما وراء هذه السرديات التي ترد كل شيء إلى فاعلية إبداعية هو يسميها جوهر الفن ومعنى الإنسان الأتم أو الأسمى الذي يبشر به.