**** حثالة النخب حجرة عثرة ضد التحديث المستقل ولا مستقبل لها
لو بعث سارتر مثلا، لصار اضحوكة بين النخب التي تسير العالم اليوم، فخرافة “صنع المفاهيم” الفرنسية لم يعد يقول بها بل البديل هو صنع الأدوات الفعلية ولم يبق لصنع “المفاهيم” إلا الدور الارذل أي استخدام الإيديولوجيا ليس للإعلام والتنوير بل للإبهام والتخدير. لذلك فلن تجد بينهم غير هذا. ففي تونس أو في مصر، يكفي أن ترى من المنظرين ومن الشعراء ومن يقدمونهم على أنهم حداثيين وتنويرييون فتعلم أنك أمام حثالة الثقافة التي شبعت موتا: فالمزغني شاعر في تونس، والشرفي مفكر في تونس وهلم جرا. يكفي تأسيس محكمة دستورية بمن لم نسمع به كتب شيئا في القانون والدساتير والفلسفة السياسية. وخذ لك مثال إصلاح التربية والإشراف على أهم وظائف رعايتها كالتفقد والبرمجة: فلا أحد ممن يكلف بمثل هذه المهام له إنتاج نظري يذكر في المجال.
عندما تأسست التربية النظامية في أوروبا كان المتفقد العام مثلا، أكبر رياضيي فرنسا. وعندما أسست ألمانيا شروط نهضتها كان جوته وزير الثقافة والتربية. وعندما تأسست الجامعات النظامية في الخلافة برعاية سلجوقية، كان أساتذتها من جنس الغزالي وما أدراك ما الغزالي، وليس دجالي الجامعة التونسية الذين كانوا فرنكوفيليين أكثر من الفرنسيين الذين درسونا ومنهم أكابرهم في الفلسفة والاجتماع والقانون والاقتصاد وعلم النفس.
ويكفي دليلا قاطعا على أن هؤلاء الدجالين أخطر على ما يمثلونه منهم على ثقافة الجماعة: فكون زعمائهم ما زالوا من نفس الجيل -مثلهم مثل جيل النخبة السياسية التي لم تتجدد- دليل عقم وتسلط حتى على تلاميذهم الذين صاروا شبه مخصيين أمامهم، يكتفون بأن يكونوا من بني “وي وي”. وأنا متيقن أن الأفاضل من تلاميذهم بدأوا يتحررون من سلطانهم، وخاصة منذ أن وقع الحد من سيطرتهم على الارزاق تعيينا وترقية واستقرابا واستبعادا من المركز. وهذه الحركة اعتبرها مباركة، واعتقد أن أبرز عناصرها يخص الفرع الذي يسيطر عليه أكبر منتحل صفات، أعنى فرع الحضارة في أقسام الآداب. واغرب ما حصل في عهد ابن علي، وبالذات في عهد وزير “تجفيف المنابع” محمد الشرفي، أنهم استقدموا القمني، الذي اشترى دكتوراه بمائتي دولار من جامعة امريكية موجودة على الورق فحسب، لينير التونسيين حول فلسفة الدين والقيم الروحية في الجامعة الزيتونية لما سيطر عليها من نكبوا نظام التربية. والأغرب من الأغرب هو أن كل أدعياء “النقد الفلسفي للفكر الديني” من خريجي الأقسام الأدبية في تونس ومصر والجزائر والمغرب، لا أحد منهم له صلة بالفلسفة ولا بالدين، بل هم منتحلو صفتين: 1. فلاسفة نقد الأديان. 2. وعلماء دين. فلا أركون ولا أبو زيد ولا الشرفي لهم صلة حقيقية بالمجالين. وعندما أقرأ مثلا ما يكتبه أبي زيد -وهو أشهرهم بسب غباء الرادين عليه-حول التفسير الماركسي للتاريخ الفكري في الإسلام بثنائية “النص والواقع”، لا يمكنني أن أجد مسرحا هزليا يمكن أن يضحكني مثل ما يكتبه هذا الرجل الدعي. فمصر الأجيال التي انتهت ببدوي وصار فيها القمني فيلسوفا، لم يعد لها ذكر. وعندما أسمع الشرفي الذي يقود لجنة الحريات الفردية ويتفلسف في تأسيس أفكارها الصبيانية، فإن أبا زيد يعتبر أمامه عبقرية. كلاهما منتحل صفة وكلاهما عمشة في دار العميان، وفيلسوفنا التونسي لا يمكن أن يعيش من دون أن يتكئ على سلطة اللحظة. شبه مثقف “لحاس” دائما للنقابيات والحزبيات وخاصة للكنسيات. ولست بحاجة لتكرار ما تكلمت عليه بخصوص موقفيه من ابن رشد وابن خلدون في أحداث حصلت بحضور شهود في القيروان وفي الطريق بين مطار القاهرة والاسكندرية. ويكفي التذكير بالمكانين حتى لا ينسى ولا يجادل في ما أقول لخوفهم من الشهود الذين ما يزالون احياء ولا أذكر الاحداث لغياب كبار شاهديها.
وأعود. لا يمكن لتونس بعد الشابي أن تسمي المزغني أو حتى اولاد احمد-وهو أفضل من المزغني-شاعرا. ولا يمكن أن يكون بعد المسعدي وشيخ الفلاسفة ابن ميلاد الكلام على أدعياء التحصيل الحقيقي على فكر الغرب الحداثي وقيمه العلمية والخلقية وبعض سمات إبداعه وتنويره. فمن ينحاز للسيسي وبشار وحفتر أمير الإمارات وأمير السعودية وإيران وإسرائيل ومن وراءهم، لا علاقة له بالحداثة وقيمها، بل علاقته الوحيدة هي المافيات التي تمكنهم من أمرين لا يمكن أن يعيشوا من دونهما: 1. انتحال صفة الثقف والمعارض الفكري في النهار 2. الاستعماع بفضلات موائدهم كطبال في الليل ويكفي مثال من يعارض في النهار ويدرس في الحزب ليلا. ولا حاجة لذكر الأسماء حتى أبقي للجماعة ما يحتاجون إليه من ماء وجه يخفي الرقاعة. والغريب أن هؤلاء يحرفون الكلم لما يتهمون من وجه رسالة إلى ابن علي يشترط عليه ما من أجله قامت الثورة فسموه “مناشدا” حتى يقللوا من سوء صنيعهم. لم يكن أحد منهم يستطيع أن يطالب ابن علي شرطا في قبول التمديد له بالشروط الخمسة التي طالبته بها إن كان يريد التمديد: 1. أن يستقيل من الحزب ليصبح رئيس البلاد 2. أن يسمح بتكون اربعة أحزاب أخرى، اسلامي وقومي ويساري وليبرالي 3. أن يعلن عفوا تشريعيا عاما 4. أن يحور الدستور للحد من سلطاته. 5. وأخيرا أن يصبح النظام التونسي ذا غرفتين، واحدة بالتمثيل الشخصي للتشريع، والثانية بالنسب لمشاركة الجميع في التفكر والتدبير دون سلطة تشريعية، وأن تكون القرارات التي تمس السيادة مشروط بالأغلبية في الغرفتين. ذلك أني لم أتكلم في المسألة الدستورية بغير علم مثلهم.
وما أعجب له حقا هو أن الباجي قائد السبسي، الذي عايش خمسة تجارب في حكم تونس يعتمد على من اختارهم في بلاطه أولا، ومن اختارهم في تكوين لجان الاقتراح ثانيا، وأن يعتبر نفسه رئيسا لبعض الشعب وليس لكل الشعب، فلا يكرم إلى لونا واحدا منه: هل هو مغلوب على أمره إلى هذا الحد؟ هل يتصور أنه بمثل هؤلاء يمكن أن يترك اثرا في تاريخ تونس، وهو يرى أن من هو أفضل منه ألف مرة، أعني بورقيبة، صار موضوع قدح حتى ممن استفادوا منه، ولما “أطاح به الدهر” كان هو نفسه ممن قلبوه ولم يدافعوا عنه، بل صاروا وزراء ورؤساء مجلس عند من أطاح به وعذبه أكثر من الاستعمار الفرنسي. وها هو يرى وهو حي كيف أنهم يتآمرون عليه ويسخرون من ابنه ويفتتون كل ما بنى دون أن يتبعهم في ما كانوا يريدون الإقدام عليه، ليس حبا في من يتعامل معهم، بل لأنه يعلم أن ما فشل فيه بورقيبة وابن علي وكان لهما الوقت الكافي لن يستطيعه هو، فضلا عن كونه ليس له الوقت الكافي.
فإذا جمعت المسارين الصاعد في الثقافة الشعبية أي الفنون والرياضات، والنازل في الثقافة المختصة، لن تجد لهذه الحثالة مكانا أو دورا إلا كأدوات يستعملها الاستبداد في ما يشبه داعش التي تمثل الإرهاب المادي وهم يمثلون الإرهاب الرمزي: مليشيات القلم مثل الحشد الشعبي، وحزب الله مليشيا السيفّ. لذلك، فلا تجد أحدا منهم مذكورا بين الفنانين الكبار ولا بين الرياضيين الكبار، وهؤلاء هم بالجوهر ممثلون للثقافة الشعبية ولا يمكن أن يكونوا محاربين لثقافتهم التي كما بينت تتبنى المبنى الكوني وتحافظ على المعنى الخصوصي، أي على قيم ثقافتها: فلا أحد أكثر إيمانا من الرياضيين. والعلة بينة، فهم أدرى الناس بأن جهد الإنسان مهما حذقه صاحبه يبقى فيه للحظ والصدفة دور كبير فلا يكونوا أدعياء دغمائية وضعانية مثل هؤلاء الأنصاف من المثقفين الذين تسكرهم زبيبة فيدعي أنه يعلم علم اليقين ما هو بالطبع ممتنع العلم، فضلا عن علم اليقين. ولن تجد بين هذه الحثالة التي تدعي الثقافة والريادة والحداثة من يعتد به في الفكر والفن الراقيين لأنهم مبتذلون بالطبع، وأقصى ما تراهم قادرين عليه هو ما يعتبر ملح الفنون فيكثرون منه فيتحول جمال الجنس إلى قبح البورنوغرافيا كما في ما يسمونه رواية أو سينما أو عرض أحوال أنفسهم. وهمهم بأنهم من الصفوة يجعلهم لا ينتسبون إلى المسار الصاعد، وعجزهم عن الانتساب الفعلي إليها يجعلهم لا ينتسبون إلى المسار النازل، ومن ثم فهم حثالة تبيع الروبافيكيا التي لم يعد أحد في الغرب يعيرها اهتماما. ولم أر أحدا محقورا بين المفكرين الغربين في حوار الاديان أكثر من زعيمهم “عركون”. ولولا كذبة “وشهد شاهد من اهلها” التي يحتاج إليها اليمين الغربي المعادي للإسلام والباحث عما يؤيد الإسلاموفوبيا، لما سمع أحد لتخريفهم، لأن من يتزعمونهم، وبعضهم أعرفهم مباشرة وبعضهم قرأت له، كلهم من سقط المتاع الفكري، وما اصابهم مرض التضخم إلا بسبب سطحية ثقافة علماء الدين عندنا.