لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله جهاد المتطوع
قارنت بين العالم علم الملحدين والمؤمن إيمان العجائز فأبدو قد ظلمت الأول وأنصفت الثاني ونسبت إلى الأول تناقض الموقف وإلى الثاني تناسق الموقف.
وعللت حكمي بكون الدين ممارسة قد يكفي فيها التقليد وإن كان مكروها والعلم لا اجتهاد لا يتوقف ومن ثم فهو محوط بالشك فلا تجوز فيه الوثوقية.
وتجاوز العمل إلى النظر في شروطه ودلالاته من كمالات الدين. وتجاوز النظر إلى العمل بثمراته وقيمه من كمالات العلم. والمفقود واحد في الحالتين.
فالنظر في شروط العمل ودلالاته هو النظر الخلقي في الدين. والعمل بشروط النظر ودلالاته هو النظر الخلقي في العلم: ما علاقة هذين الوجهين الخلقيين.
علاقتهما هي أنه لا عمل من دون نظر في ثمرته الخلقية ولا نظر من دون عمل بثمرته الخلقية: والواصل بينهما هو قطع مسافة تفصل بين الإرادة والقدرة.
فلكأني عذرت صاحب إيمان العجائز عن غياب كمالي تدينه ولم أعذر حاصب علم الملحدين عن غيابي كمالي علمه. ذلك ما يبدو للوهلة الأولى. والحقيقة غير ذلك.
فكمالي الدين يأتي بعد الضروري. أما كمالي العالم فقبله: أي إن العالم الذي ليس له أخلاق طلب الحقيقة لا يمكن أن يشرع في البحث العلمي.
وطلب الحقيقة ليس تحصيل شهادة في اختصاص. فهذا لا يعطيك وظيفة في النظام الجامعي ولا يعطيك علماء مبدعين: قصارى هم تعليم الحاصل بفهم سطحي غالبا.
ولن تجد بين المبدعين وطالبي الحقيقة من يلحد إذ قصاراه أن يبقى شاكا لا يؤمن ولا يلحد بل يتلظى نار عدم اليقين الإيماني وعدم الحقيقة العلمية.
ولذلك فالملحدون لا يمكن ألا يكونوا وثوقيين يتصورون ما علموه من الوجود كافيا للجزم بنفي وجود الله والاكتفاء بالمعادلة الوجودية المبتورة.
فالملحد بتعليل معرفي لا يعتمد على حقيقة علمها بل على وثوقية في علم ظنه مطلقا وهو لا يساوي ذرة من الممكن: علمه ليس علما بل جهل بحدود العلم.
سأفترض أن منطلقات الإيمان والإلحاد واحدة وهي إما بدوافع نظرية أو عملية في مجالات أفعال الإنسان الخمسة: إرادته وعلمه وقدرته وذوقه ورؤاه.
أعلم أن السائد من الأـحكام المسبقة وخاصة لدى أدعياء التحديث العرب ينسب الإلحاد إلى العلماء مباهاة والإيمان إلى الأميين تحقيرا.
وطبعا فكلامي لا يوجه إلى المباهي الواصل بين الإلحاد والعلم ولا إلى المحقر الواصل بين الإيمان والامية. فهما بمجردهما دليل سخافة دعي الحداثة.
لا يعنيني إلا من يعاني حقا معاناة معرفية تتعلق بإرادته وعلمه وقدرته وحياته (ذوقه القيمي) ورؤاه الوجودية: فهؤلاء هم من أخاطب دون سواهم.
فهذه الحالات الخمسة هي التي ينطلق منها الإيمان والإلحاد عند من تجاوز الموضة فبلغ إلى الأسئلة التي أهمها سؤال الذات عن ذاتها وعن الوجود كله.
يعني السؤال الذي به يكون الإنسان إنسانا متحررا من “فساد معاني الإنسانية” بمعناه الخلدوني تحررا يخرجه من “الغرق” في سيلان الاحداث الأبدي.
فمن يغرق فيها لا يطفو فيسأل بل هو غير موجود أصلا لأن من لا يتجاوز مور الطبيعة وغليان التاريخ ليس إلا قشة يجرفها تيار الأحداث والأحاديث.
ولا طفو فوق المور والغليان من دون قطبي المعادلة المتلازمين وبينهما الطبيعة والتاريخ ويتوسط هذا البين والبون حوار بين القطبين المتراسلين.
ولا أبداع في الإرادة والعلم والقدرة والحياة (الذوق) والوجود (الرؤى) من دون هذا التراسل بين القطبين الله والإنسان بتبادل دري البث والتلقي.
ولأضرب أمثلة: فرمز الإرادة التي لا يحدها إلا الوعي بالمطلق إيمانا رد الرسول على من أغراه بالتخلي عن الرسالة: الإرادة إيمان وعلم في آن.
ورمز العلم أي إنسان يتمحض لطلب الحقيقة ولو كان المآل فقدان الحياة من اجلها والرمز سقراط الذي قبل شرب السم على أن يتنازل: العلم علم وإيمان.
والقدرة رمزها من يتخلى عن كل ثروته المادية وحياته من أجل إيمانه ورمزه الصديق الذي قال “عدم الإدراك إدراك” ما يعني أنه مريد وعالم وقادر.
والحياة أو الذوق علم وإيمان لأن الفنان المبدع إرادة خلق وعلم بشروطه وقدرة عليه وهو يتجاوز الموجود إلى المنشود بعلم وإيمان بلا أثلام.
أما الوجود ورؤاه فهو أصل كل علم وعمل إرادة وقدرة وذوقا ورؤى. إنه جوهر الوعي بالذات المشرئب إلى الإمساك بالممكن من إدراكها ما أمكن له.
لكن هذه الأفعال نفسها هي التي يمكن أن تكون منطلق الإلحاد: بدافع الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود. إنها أصناف الإلحاد ضديدة الإيمان.
يمكن الكلام على الحاد الإرادة: وهو طفولة الإلحاد. فالطفل الذي يرفس الارض لأنه لم يحصل على ما يريد يلحد لأنه يطلق إرادته بعقلية سحرية.
وإلحاد العلم يكفي ما قلناه فيه. والحاد القدرة هو نقيض إلحاد الإرادة بمعنى أن صاحبه لم يعترضه ما يحد من قدرته فيتأله تأله الطغاة (ابن خلدون).
وإلحاد الحياة أو الذوق هو إلحاد أدعياء الإبداع وخاصة بين الروائيين العرب الذين يتصورون أنفسهم خلاقين وهم مقلدون للسطحي من عجائب الحياة.
أما إلحاد رؤى الوجود فهو ما سميته بكاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث. فهؤلاء دونكيخوتيون يحاربون نواعير الطواحين متوهمينها تاريخ الأمم.
وهذه الأصناف الخمسة لا تخلو منها حضارة. وهي باجتماعها تعرف حقيقة الإيمان بما يفضل به واجبه واقعه وحقيقة الإلحاد بما ينقص به واقعه عن واجبه.
المسافة بين الواقع والواجب هي معيار التراتب بين درجات منطلق الإيمان ودرجات منتهى العلم: فالإيمان بداية العلم وغايته والعلم جسر يصل بينهما.
والجسر الواصل بين البداية (إيمان بوجود الحقيقة) والغاية (إيمان بعدم احاطة الإنسان بها) هو الوعي بنسبية الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود.
والإيمان بنسبيتها يجعل صاحبها ها مشدودا للمطلق المحيط بها فيصبح الإنسان مشدودا إليه بسعي دائبا ليطفو فوق الطبيعة والتاريخ: وتكل هي حريته.
والإيمان بنسبيتها يجعل صاحبها ها مشدودا للمطلق المحيط بها فيصبح الإنسان مشدودا إليه بسعي دائبا ليطفو فوق الطبيعة والتاريخ: حرية الإنسان.
وحرية الإنسان فلسفيا هي تكليفه دينيا: والتكليف والحرية هما أساس الأخلاق دينيا وفلسفيا. فيكون ما ينقص الموقفين هو الوعي بالأساس الخلقي.
فإيمان العجائز ينقصه الوعي بالأساس الخلقي للدين. والعلم الملحدين ينقصه الوعي بالأساس الخلقي للعلم: والأساس الخلقي واحد هو الوعي بالفرق.
وقد أطلت الكلام على الوعي بالفرق في الفصول السابقة. إنه الوعي بالمسافة أو تبين الرشد من الغي الذي يجعل الإيمان والعلم حرين نابعين من الذات.
والنبع من الذات يعني أنها صارت في حوار مباشر مع المطلق بوصفها النسبي المشدود إليه اشرئباب للحقيقة مع العلم بنسبة علاقات الإنسان الخمسة بها.
فهو يريدها ويعلمها ويقدر عليها ويذوقها ويرى وجودها بإرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود كلها مدركة لذاتها وخاصة لنسبيتها: إنها مؤمنة وعالمة في آن.
وكل ذلك مداره الوعي الصادق بالذات: فغياب الوعي بنسبية هذه الأفعال متلازم مع غياب الوعي بوجود الحقيقة المطلقة (دون الإحاطة بها)غرق في الفاني.
وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها