لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله جهاد المتطوع
فما الوعي الصادق بالذات؟ أو ما الوعي الكاذب بالذات؟ ويجمع بين السؤالين: سؤال متقدم: ما الأمور التي تحول دون صدق الذات مع ذاتها فتكذب عليها؟
سؤال فلسفي صيغته الدينية: حياة الدنيا خلب وخداع وراءها حياة أخرى هي بالقياس إليها دون جناح بعوضة ومع ذلك فلا تحرر منها من دون سلطان عليها.
فيكون الانتقال إلى هذا الموقف الفلسفي والديني مشروطا بالتخلص من الفقر المادي لإدراك الفقر الوجودي بداية العلم الحق وشرط الإيمان الحق.
والتخلص من الفقر المادي ليس مسألة ذهنية يكفي فيها الزهد المبدئي. ذلك أن زهد المرء فيما لا يملك خداع ذاتي. وهو مصدر تدين تعويضي غير موجب.
فالحياة الأخرى لا تعني التخلي عن الأولى لأنها هي الطريق إليها: فمن دون الأولى لا معنى للأخرى. فدلالة هذه ومعناها مصدرهما تقدير عمل الأولى.
والعلم والإيمان بفعلهما وأخلاقهما هما ما يتحقق في الأولى بصورة تجعلها موصلة إلى الاخرى في الأولى وفي الأخرى: إذ هما متساوقتان ومتواليتان.
ويتجلى ذلك في مفهومي الفقر: المادي والروحي أو الوجودي الدنيوي والوجودي الأخروي. وتوجد عتبتان:
عامة لا يخلو منها إنسان
وخاصة بمتجاوزيها
ومن لا يتجاوزها هو من لا يشبع فيعيش دائما في الفقر المادي والدنيوي وهم من وصفهم القرآن بالمخلدين إلى الأرض لا يشرئبون لما يتعالى عليها.
فالمعدم فقير ماديا إلى حد يحول دونه والوعي بالفقر الروحي. التحرر من الفقر المادي شرط ضروري لكنه غير كاف للوعي بالفقر الروحي لأنه لا يشبع.
وهذا هو نوع البشر الذين وجدوا الجواب عن ذاتهم بردها إلى أعراض ظهورها: فيكون وجوده مقصورا على ظهوره لأنه ما ينتظره من راي غيره فيه بعلاماته.
وغاية الامر أن ذاته ليس رب ما به تظهر بل ما به تظهر هو ربها: وهذا هو مصدر النفاق دينيا ومصدر العجب بالنفس إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجودا.
فإذا ساد الإنسان على مظهره وتحرر من العجب بنفسه وضع رجله اليمنى على عتبة الولوج لمعرفة ذاته أو لنقل إن ذينك هما شرط الشروع في معرفة الذات.
وحينئذ يكتشف الإنسان الفقر الروحي أو الوجودي: يدرك معنى نسبية الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود فيعلم ثنائية وجوده: نسبي مشدود لمطلق.
ذلك هو جوهر الإيمان إيمان البداية في الدين والفلسفة في آن. وكل من لم يصل إلى هذه الرتبة أو العتبة في الولوج إلى الذات لا معنى لكلامه فيهما.
وكل دعوى في الإبداع أيا كان جنسه الجهوي (الحرية) والجمالي (الفنون) والجلالي (الأخلاق) والسؤالي (العلم) والتعالي (الدين والفلسفة) كذب صرف.
فالإبداع لا يبدأ إلى بعد تجاوز العتبة التي وصفت: فمجال الإبداع هو بين البون أو مقدار الوعي بالفرق بين هذه الصفات في الإنسان وفي الله.
وكلما غاب الوعي بالفرق بين ضربي وجود الصفات كان الإنسان مخلدا إلى الأرض ومن ثم ففنه يحاكي المظاهر وعلمه دونه وهو إذن من الصم البكم العمي.
غياب الوعي بالفرق هو جوهر الإخلاد إلى الأرض بالمصطلح القرآني وهو الغرق في الفاني. وشرطه بديل خلب خداع من التعالي: سماه باسكال باللهو.
وهو مفهوم قرآني كذلك. وقد ذكرت باسكال-رياضي فرنسي-لأنه جمع بين ذروتي الإيمان والعلم وقليل أن تجد مثيلا له بين مفهومي العلم في لحظة انحطاطنا.
والهدف من هذه المحاولة هو تحرير الدين من السفاسف وادعاء علم ممتنع عقلا ونقلا للعودة إلى ما يعتبره القرآن شرط الديني والفلسفي: تلازم الفعلين.
لا يمكن للإنسان أن يعمر الارض من دون علم يحرره من الفقر المادي ومن دون دين يجعل التعمير مؤهلا للخلافة: العلم أداة للتعمير والدين غاية لقيمته.
والعاجز عن التعمير يبقى فقيرا ماديا فلا يرقى للوعي بالفقر الروحي لأن ما يعتبر فقرا روحيا عن الفقير المادي تعويضي في غياب الوعي بالفرق.
والخلط بين الفقرين هو الذي أفقد الأمة الفضيلتين: تعمير الارض بقيم الاستخلاف. والقضية تبدو سياسية بالمعنى العادي وهي إياها بمعنى خلقي ووجودي.
فالدين ليس مهربا يعزي الفقراء ماديا فإذا استعمل بهذا المعنى صح عليه حكم ماركس. لكنه على الأقل في رؤية الإسلام هو يحرر من هذا الهروب.
وهو يجعل الحرية الروحية شرط عمليْ الفرد (الإيمان والعمل الصالح) والحرية السياسية شرط عمليْ الجماعة (التواصي بالحق والتواصي بالصبر).
وليس في هذا كلام في الغيب بل هو من صريح القرآن: فهذا هو مضمون الاستثناء من الخسر كما حددته سورة العصر أصلا لهذه الأفعال المحررة للإنسان.
والوعي بالخسر اصلا للإيمان والعمل فرديا والتواصي بالحق والتواصي بالصبر جمعيا علته الوجودية هي الوعي بالفرق الذي ينتج هذا الانشداد للمطلق.
فوعي الإنسان بالخسر هو تبين الرشد من الغي فيصبح جوهر كيانه الانشداد إلى المطلق في إرادته وعمله وقدرته وحياته ووجوده فرديا وجماعيا.
وشرط أبداع هذا الاشرئباب الى المطلق في النظر والعمل اللذين لا بد لهما من حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وحياة الجمال ووجود الجلال.
وهذا الاشرئباب إلى المطلق في القيم الخمس هو المشترك بين الفلسفة والدين بل هو الفلسفي والديني ومن دونه لا يكون أي من القيم الخمس ذا معنى.
ذلك أن ما سميناه الفرق هو المسافة الفاصلة بين الوعي بالذات في نسبتها إلى الوعي بالمطلق وهذه المسافة هي هامش الحرية الإنسانية وجوهر الإنسان.
وبمجرد التخلي عن هذا الاشرئباب لا يزول الإلهي المطلق بل يزول معه الإنساني فيتوهم بما يسميه ابن خلدون تألها بمعنى الطغيان والعجب بالنفس.
لذلك فالمبدعون بحق لا يمكن أن يروا في إبداعهم عملا ذاتيا بل هو قريب من مفهوم الوحي لأن الله لا يوجي للأنبياء وحدهم بل حتى للنحل الجماد.
الإبداع العلمي والادبي والديني والفلسفي كلها تلق لما في الوجود من قيم وقوانين. هو انفعال وجداني ينقلب إلى فعل ما ينقال منه إلى فعل إبداعي.
إنه أشبه ما يحدث النسيم من خرير الماء أو من أصوات لا يسمعها إلى المبدع بين تضاريس الطبيعة عندما يدرك الجمال والجلال فيرى الجمال والجلال.
والرسام والموسيقي هما أصل كل تلق رغم أننا نراهم يبثون ما تلقوه وخاصة عندما يتركون زمام الإشارة المرسومة والانغومة الموزونة تنبجس طليقة.
والرسم والموسيقي هما أول تطبيق رياضي للنسب الهندسية والعددية وأول موجود فعلي هو في آن موضوع رياضي خالص ومن ثم بداية كل علم حقيقي.
هما أصل لغة الفن الأرقى ولغة العلم الأرقي أي لغة الابداعين المحققين لشروط مقومي كيان الإنسان المعمر والخليفة بقدر صدق الاشرئباب للمطلق.
وأخيرا فغاية اجتهادي وجهادي التطوعي تمكين الشباب من تدارك ما فات في دفقة الثورة الأولى حتى يكون قادرا على أنجاح الدفقة الثانية بروح العصر.
وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها