جهاد المتطوع – الفصل الثاني

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله جهاد المتطوع

كيف زعمت في جهاد المتطوع: “لا يمكن فهم الدين من دون تكوين متين في الفلسفة” ثم أعكس “لا يمكن فهم الفلسفة من دون تكوين متين في الدين”؟

الا يعني ذلك ما يعنيه التلازم بينهما بمعنى “If and only if”؟

فما هي حقيقة هذا الترابط بين الديني والفلسفي بحيث يكون كلا منهما شرط الثاني؟

ولكي لا نقع في خطأ منهجي فلنميز بين التدين ممارسة والديني الذي هو مضمونه والذي ليس من شرطه أن يكون علما نظريا به بل هو يقتصر على العمل به.

ليس من شروط التدين العلم النظري بالديني ولا حتى الوعي بأن للتدين علما نظريا به: لأن “الذائقة” الدينية وجدانية وخلقية وليست علما نظريا.

وأكثر من ذلك فغالبا ما يكون العلم النظري بالديني علة لمسافة من الذائقة الدينية قد تفسدها لما تدخله فيها من مزلات الشكوك الملازمة للنظر.

فالنظر حتى في العلوم ليست مبينا على الثابت وجوديا بل على المفروض نظريا والمفروض يكون دائما حقيقة مشروطة بالمقدمات الفرضية وليس فيه يقين.

ولا دين من دون يقين: وذلك هو مفهوم الإيمان وحقيقة الفرق بين العلم والإيمان. والعلم عندما يدرك هذا الفرق يحقق الجمع الممكن بين النظر والعمل.

فالوعي بهذا الفرق هو أساس العلم كذلك: فكل علم حتى عند الملحدين ينطلق من مبدأين يقينيين:

  1. المعرفة ممكنة وموضوعها موجود وقابل للمعرفة

  2. والشك لا يتعلق بإمكان المعرفة بل بمداها. ولا يتعلق بواقعة الوجود بل بمطابقة علمنا لها. قد يكون علمنا محدودا لكن وجودها موضوعا لفكرنا ثابت.

إذن لماذا أقول بالتلازم بين الدين والفلسفة وباي معنى إذا كان يمكن للمرء أن يؤمن دون علم (إيمان العجائز) وأن يعلم دون إيمان (علم الملحدين)؟

وقبل الجواب فما علاقة إيمان العجائز بإلحاد العلماء؟

فرضيتي: ان الملحد يؤمن بالعلم بأسلوب إيمان العجائز بالدين. وهذا هو الموضوع الذي أعالجه.

والقصد أن الملحدين موقفهم من العلم من جنس موقف العجائز من الدين (عبارة “إيمان العجائز” لا تصف موقف العجائز هو كناية على عدم البحث والشك).

فالقصد أن الملحد لا يشك في العلم فيكون موقفه من العلم أكثر تناقضا من موقف العجائز من الدين: فعدم الشك في الدين مفهوم بخلاف عدمه في العلم.

لا يمكن لعالم بحق أن يعتقد في إطلاق المعرفة العلمية. لكن يمكن للمؤمن بحق ألا ينسب إيمانه. وتلك هي علة التلازم بين الديني والفلسفي.

فالفلسفي يبدأ من يقين بشرطي العلم (وجود موضوع قابل للعلم ووجود قادرة عليه) والديني من يقين بشرطي الإيمان من دون وجود إله لا وجود ولا علم.

وإذن تنسيب العلم مستحيل من دون الإيمان وإطلاقه مستحيل لأن أساسه التشكيك الدائم في حصيلة علمه التي لا تطابق الموضوع مهما تقدم العلم.

الفرق بين العلم والموضوع هو منطلق السؤال الديني. نسبية العلم هي علة كل فكر ديني: النسبية مضاعفة: فهي ناتجة عن قصور التعبير وقصور الإدراك.

لا أستطيع أن اعبر عن كل ما أدركه ولا أستطيع أن أدرك كل الموجود. فالوجدانيات ليست مما ينقال والمدركات مقصورة على نزر قليل حتى من ذاتي.

لا أعلم كل الماضي الذاتي أو الإنساني ولا أعلم ما يحدث غدا لي أو للإنسانية أو للكون. فمن لا يدرك أن وعيه مصباح ضئيل الإنارة فاقد للوعي.

والملحد هو من يظن أن الوجود منحصر في النقطة المنيرة والخافتة من وعيه فيرد الوجود إلى مداركه ثم يحكم قطيعا فنيفي ما يصدر عن الإيمان بالفرق.

الإيمان بالفرق بين علمنا المحدود والوجود اللامحدود سواء نسبناه إلى رب أو رببناه لا يهم فالمشكل يبقى واحد ولا يختلف بينهما إلى طبيعة الحل.

فالذي يؤمن بإله أو بآلهة والذي يربب الوجود عامة كلهم يدركون الفرق بين العلم وموضوعه أي حدود إدراكهم: وهوما يعنيه الصديق بعدم الإدراك إدراك.

ذلك هو الأصل الواحد للديني والفلسفي. ومن فقد هذا الاصل كان إيمانه إيمان العجائز وعلمه علم الملحدين. لا فرق بين علم الملحد وإيمان العجوز.

وهذا الاصل الواحد هو معنى التلازم بين الديني والفلسفي “If and only if”في علاقة الديني والفلسفي: لا فلسفة من دون دين ولا دين من دون فلسفة.

فالوعي بتشارطهما: “الفلسفي شرط الديني” و”الديني شرط الفلسفي” وعي بالفرق بين التعبير وموضوعه (الوجدان) والإدراك وموضوعه (الإيمان).

ففي وعيي بذاتي أعي أني لا أستطيع قول كل ما أجده بوجداني وأعي أني لا أستطيع أن أعلم كل ما يقوم ذاتي. وقس عليه وجداني لما حولي وعلمي للعالم.

وهذا القصور التعبيري والقصور الإدراكي ليس نقيصة بل هو وعي بحدود الوعي فالشعور بالناقص ليس نقصا بل هو كمال أو هو شرط الاستكمال: مميز الإنسان.

وهو أصل التعالي على الغرق في مجرى احداث الوجود: ما كان للإنسان أن “يطفو” على الأحداث فلا يغرق فيها لو لم يكن له هذا الوعي بالفرق الوجودي.

وغير الواعين به صنفان: متسق أي إيمان عجائز بالدين الخالي من إدراك الفرقين التعبيري والإدراكي. وهو متناسق لتلازمه مع الوعي بالفقر الوجودي.

أي إن ايمان العجائز رغم خلوه من إدراك الفرقين يبقى في ممارسته معتمدا على ما يفيدهما أي إنه مدرك للفقر الوجودي فلا يعتمد على الفاني والآفل.

والصنف الثاني هو علم الملحد. فهو يلحد لأنه يجهل أو يتجاهل الفرقين ويظن أن الاعتماد على الفاني ممكن للإنسان في العلم فضلا عنه في الحياة.

والأمر لا يتعلق بأحوال النفوس بل بشروط العلاقة بالوجود الذاتي والخارجي: وعيي بذاتي لا يحيط بها ووعيي بالعالم من باب أولى أقل إحاطة به.

والوعي بعدم الإحاطة لا بوجود الذات ولا بالوجود الخارجي ملازم لمجرى الحياة نفسها أي للزمان: فكل لحظة حاضرة آفلة بالجوهر ولا تثبت لتدرك.

وعدم ثباتها يجعلها دائما مناوسية بين التفاتين للماضي وللمستقبل وكلاهما موجود عدم وعدم ينوجد في لحظات سيالة لا تتوقف وهي غير القيام العضوي.

إنما هي علاقة القيام العضوي بشروط بقائه الطبيعية والتاريخية فيكون الوعي الضئيل بذاتي هو الجسر الواصل بينها وبين ما يحيط بها من الوجود.

وإذن فحتى الجزء الضئيل من الوعي بالذات ليس وعيا بالذات بل هو وعي بحاجاتها من محيطها وهو إذن وعي بتبعيتها للوجود الخارجي وبرد فعلها على فعله.

والوعي بالتبعية والثورة عليها هو المسألة الدينية. شلاير ماخر اعتبر الوعي بالتبعية أصل الدين. والحقيقة الأصل هو الثورة عليها: أوافل إبراهيم.

ثورة إبراهيم هي غاية الثورة على التبعية أو التحرر من عبادة الطبيعة ووثنيتها أعني إطلاق الإلحاد أو التسليم بأنه لا شيء وراء العالم والطبيعة.

إيمان العجائز لا يقال عن الأفراد بل عن الإنسانية: عبادة الطبيعة هي إيمان العجائز في طفولة الإنسانية التي لم تولد بحق إلا بالثورة على الأوافل.

ذلك هو التلازم بين الديني والفلسفي وهي حقيقة أصبحت جلية وصريحة في القرآن الكريم كرسالة ثورية: ثورة إبراهيم بداية التحرر ثورة محمد غايته.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي