لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهجهاد المتطوع
بعض القراء والأصدقاء يعجبون من توقفي عن نشر الكتب بتوسط دور النشر منذ وقت طويل.
لماذا أقدم هذا الجهد عن طريق وسائل التواصل دون النشر المعتاد؟
لماذا تخليت عن النشر الأكاديمي المعتاد والتوجه المباشر للشباب وخاصة منذ الثورة؟
أهم دوافعي اثنان:
العلاقة بالناشرين
الشكليات الأكاديمية
والمسألة الأولى حقوقية مادية والثانية علمية خلقية. فأما المسالة الحقوقية المادية ففيها وجهان:
– ظروف النشر العربية
– وعدم الاعتراف بحقوق المؤلف
وكلا الوجهين معلوم لغالب القراء ولكل الكتاب. فضياع حقوق الكاتب بضعها يرد إلى ظروف النشر العربية وخاصة تضييق سوق الكتاب بسبب الحدود الحديدية.
وغالبا ما يضيف إليها الناشرون عدم اقبال العرب على القراءة ما يجعل هامش ربحهم قليلا فيعتبرون أنفسهم ذوي فضل على الكتاب إذا نشروا دون مقابل.
وفي ذلك هم محقون لأن النشر في الغرب بمقابل يدفعه المؤلف والتعويض يأتيه لأن السوق واسعة والقراءة من عادات القوم. لكن ذلك لا يكفي للتفسير.
ذلك أنه لو كان يكفي لما صرح الناشرون بطبع كم معين في العقود مع الكتاب وتجدهم يسحبون أضعافه في الحقيقة. وذلك عسير الاثبات ولعله مجرد تهمة.
فرأيت أن تفاهة ما يدفع للكاتب خاصة إذا كان له مورد رزق يجعل اعتبار الكتابة هواية جزاؤها حصولها. ولتكن تصدقا بالفكر للعاجزين عن شراء الكتب.
لكن العلة الثانية هي الأهم عند من بلغ إلى سني: فمن لامس السبعين لم يعد ممن يخدعه الماكياج الأكاديمي الذي صار أغلبه من ثقافة جوجل لا يعدوها.
وهي في الغالب مضغ للمعلوم من أدبيات أي اختصاص. وهي قد تصلح للإعلام بالموجود ولكنها لا تعلم جديدا وخاصة في الرسائل الجامعية بشكلها الحالي.
فهي لا تتجاوز استعراض الأدبيات الحاصلة وقلما تجد اطروحات حقيقية تثري التخصص وعلى كل فذلك ما تبين لي مما تابعته من الرسائل الفلسفية العربية.
فقد صارت العناوين الأكاديمية تشريفاتية وقدت معنى البحث العلمي الذي لا يكتفي بعرض أدبيات الاختصاص بحيث لم يبق فرق بينها وبين حواشي القدامى.
وفي سني لم يعد لي ما يكفي من الوقت أضيعه في عرض الموجود. ما أسعى إليه هو البحث في شروط تجاوزه إلى المنشود بمقتضى حاجة ثقافة عربية مأزومة.
وهي مأزومة في الفكر بدرجة لا يتصور الكثير أنها تفوق أزمتها السياسية. ذلك أن الفكر نفسه لم يبق له إلا سوق واحدة مصدر رزق كما بين ابن خلدون.
عنوان الفصل 6 من باب المقدمة 5 ليس غريبا من مثله “في أن السعادة والكسب إنما يحصل لأهل الخضوع والتملق وأن هذا الخلق من أسباب السعادة”. فهو أسهم في السياسة ونال منها ما يبين أنه يتكلم عن تجربة. لكننا نصدقه عندما نرى ما يجري حاليا: فلا علاقة لمنزلة الفكر بما فيه من حقائق.
حال الفكر عندنا معلومة للجميع. وعنوان ابن خلدون يعني أن: منزلته لا علاقة لها بحقيقة الفكر بل بوظيفته عند من يسميهم الغزالي “معتبري الزمان”.
وفي ذلك مما لا يقبل القدح: ذلك أن الفكر ككل إنتاج إنساني خدمة وبضاعة في آن وهو من ثم رهن سوقه الكاسدة أو النافقة. وسوق الفلسفة هي الأكسد.
لذلك فمن العسير محاسبة الناشرين لغير ما تطلبه السوق من منتجات فكرية أدبية وعلمية وفلسفية في شعب لا يكاد مثقفوه يقرأون صفحة في الشهر.
فإذا أضفت ما يتهم به أسلوبي من عسر يذهب البعض إلى أنه تقعر من صاحبه فالأمر محسوم ويجعلني أعذر ناشري بعض أعمالي وخاصة الأكاديمي منها.
لا أستطيع الا أكتب فيما اعتبره من ثغرات فكرنا واعتقد أن لي رايا في علاجها والكتاب ليس مورد رزق إلا كاسترزاق فإني فضلت اعتباره تطوعا جهاديا.
ومفهوم التطوع كما هو معلوم يعني أن المجاهد يتقدم للجهاد وليس له عدته بمعنى أني لا أستطيع أن انشر على نفقتي فالواب هو الذي يمدني بمركوب.
وجهاد المتطوع فيه بعدان: الجهاد الفعلي وتجهيز المجاهد. فمني جهاد المتطوع ومن النات التجهيز لأنه يحقق المطلوب بما يمدني به تجهيز تواصلي.
وقد حذرني ابني نزار يعرب من إمكانية سرقة أعمالي لأن نشرها بهذه الصورة غير محمي. فكان جوابي لا أخشى ذلك لأن القراء سيفضحون اللصوص حتما.
ذلك أنه يوجد دائما من بين القراء من لهم من الإنصاف والامانة من يمكن أن يصبح أحرص مني على حماية أعمالي الفكرية مع إيماني بأن سرقتها عسيرة.
فلا يهتم بسرقتها إلا من يفهم قيمتها. وقلما يوجد من يفهم ما أعمل ثم يكون بأخلاق السراق. فمن له مستوى فهم ما أكتب يكون عادة رفيع الخلق.
ومن له أخلاق حب العلم والحقيقة لا يمكن أن يسرق وخاصة أن يكذب فيستمد منزلة علمية كاذبة مما لم ينتجه بذاته. وإذا سرق أحد فألف سيفضحونه حتما.
أنشر ما يوصلني إليه اجتهادي وأوجهه لمن اعتقد أنهم يطلبون الحقيقة حبا فيها. وهذا النوع من القراء موجود دائما وإذن فأنا مطمئن على أعمالي.
والهدف مما صرت ميالا للكتابة فيه مضاعف:
جبر الكسر بين ما تقدم على عصر الانحطاط وما نحاول استئنافه من الإبداعات الضرورية لأمة سيدة.
فهذا الجبر شرط ضروري دون أن يكون كافيا للوصل بين ضفتي جرح في الوجه لم يندمل أو اندمل بصورة لم تبق تواصلا بين الضفتين فبقي الاندمال مشوها له.
فيكون جبر الكسر عملية فتح للجرج المندمل بصورة مشوهة لإعادة الوصل بين ضفتيه لجعل التواصل بينهما تواصلا حيا: أستعمل فكر المدرسة النقدية.
فالوصل بين الماضي الحي والحاضر الذي يريد استئناف الحياة يقتضي حتما عملية جراحية تزيل تشوهات الاندمال المرتجل والسطحي في بداية النهضة.
والعلة الثانية هي أن يكون عملي على دراية تامة بمجريات الفكر الإنساني المعاصر للحظتنا من أصوله وبلغة أهله حتى لا نكرر خطا اللقاء الأول بالفلسفة.
وخطأ اللقاء الاول بالفلسفة مضاعف:
لا يوجد فيلسوف عربي واحد كان قادرا على قراءة التراث الفلسفي اليوناني في لغته الأصلية: رواية بلا دراية.
لذلك فهي فلسفة تقتصر على دراسة النصوص ولا صلة لها بدراسة موضوعاتها في حركتها التاريخية. بمعنى أن أرسطو وأفلاطون كانا ينظران للممارسات حية.
فلاسفتنا كانوا يشرحون نصوصهم دون علاقة بممارسات حية وكل ما أضافه البعض منها اعتبره ابن رشد في شروحه تحريفا للفلسفة المقصورة على ارسطو.
ثم وهو الاخطر أصبحت الفلسفة مقصورة على سلاح إيديولوجي يستعمله الباطني للحرب على الإسلام ويستعمله الإسلامي للحرب على الفلسفة: تماما كالآن.
وتلك هي علة سعيي الدائم لبيان الوحدة الغائية بين الفلسفة والدين والاختلاف الأداتي بينهما: شرط المصالحة بين الفكرين لأنهما متحدين غائيا.
ومن شروط “زرع” الفكر الفلسفي في حضارتنا زرعا يؤتي أكله التحرر من هذا العداء الذي لا علاقة له بهما. هو حرب بين كاريكاتوري التأصيل والتحديث.
فإذا أقنعت طالب الحقيقة الدينية وطالب الحقيقة الفلسفية من شبابنا بأن الطريقين لهما نفس الغاية ولا يمكن لأي منهما أن تصل إليها إلا بالأخرى فلا يمكن فهم الدين من دون تكوين متين في الفلسفة والعكس بالعكس: فالعلم بحاجة للتقوى حتما. والتقوى دينيا هي الأخلاق فلسفيا. والعكس بالعكس.