****
جل نخب العرب “مؤمنون بدين العجل بلا حدود”
خرافة “ما لله وما لقيصر” التي يرويها الحواري بولص منافية تمام المنافاة لرؤية المسيح.
وكل ما يقوله العلمانيون العرب في التمييز بين دعوة محمد ودعوة المسيح دليل جهل مضاعف لفهمهما للعلاقة بين الديني والسياسي ظنا أن الظرفي في طبيعة دورهما العيني هو المحدد لطبيعته البنيوية.
وحتى أيسر على القارئ بهم هذه المقابلة المجردة:
فليفرض داعية يخاطب سلفية الاسكندرية وداعية يخاطب أعيان برجوازية مصر.
وليحاول المقارنة بين دور الديني في السياسي في الحالتين.
• فالأول سيكون خطابه من جنس خطاب المسيح
• والثاني من جنس خطاب محمد
إذا فرضناها إنسانين عاديين وليسا رسولين.
كلاهما يتدخل في السياسة بمنظور ديني وخلقي.
• فالمسيح يخاطب منافقي بني إسرائيل في علاقتهم بالحكم الروماني
• والثاني يخاطب عتاة الجاهلية بنفس المنظور.
كلاهما له نفس الرؤية للعلاقة بين السياسي والديني، كلاهما يريد السياسة ذات قيم تحرر الإنسان من الجامية (المسيح) ومن الجاهلية (محمد).
ما فعله بولص هو جعل المسيحية جامية أي إنه “هودها” أي جعلها في خدمة النظام الروماني فعاد بثورة المسيح إلى سلوك “الفيليستان” أي المنافقين من اليهود الذين ثار عليهم المسيح: وتلك هي الجامعة التي تسمي سلفية عكس السلف لتجعل الصحابة وكأنهم في خدمة الاستبداد وليسوا ثائرين عليه كما كانوا.
وعندما تنظر في موقف علمانيينا من علاقة الديني بالسياسي تجدهم في الحقيقة مثل الجامية:
لا يريدون للقيم الدينية والخلقية أن يكون لها سلطان على الاستبداد والفساد الذي هم أول المستفيدين منه. فأشباه البرجوازية من العرب والنخب التابعة متحالفون مع الاستبداد والفساد تماما مثل الجامية.
عندنا إذن نوعان من الجامية:
• واحدة باسم الدين
• والثانية باسم العقل.
وكلاهما من وثنيي دين العجل: فكلاهما يمثل خوار العجل من أجل معدن العجل.
الحكام المستبدون يعطونهم اجر (معدن العجل) مقابل عمل (خوار العجل).
ومعدن العجل هو رمز الفعل أو العملة وخوار العجل هو فعل الرمز أو الكلمة.
• الجامية نقيض تام للثورة باسم القيم الدينية.
• والعلمانية نقيض تام للثورة باسم القيم الفلسفية.
ونوعا القيم هي علة ثورة الأنبياء والفلاسفة وهي قيم كونية واحدة شارطة لحرية الإنسان وكرامته جمعهما ابن خلدون تحت تعريف واحد للإنسان” رئيسا بالطبع (فلسفة) بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له (دين).
والمعلوم أن ابن خلدون يميز بين “رئيس” و “سيد”.
فالرئيس هو من يعترف عيره له بأنه جدير بالتقدير والاعتبار لذاته دون خوف منه أو طمع فيه.
والسيد يخضع له غيره خوفا وطمعا.
• وإذن فالأول إنسان حر وكريم يعترف به الاحرار والأكارم.
• والثاني إنسان عبد ولا كرامة له يخضع له العبيد عديمي الكرامة.
فنحن إذن أمام رؤيتين للوجود والعالم الطبيعي والتاريخي. ففي الرؤية الأولى العالم الطبيعي والتاريخي ذو نظام مبني على غايات لا يمكن تصوره إلى خلق كائن حر وكريم يتعامل مع كائنات حرة وكريمة حتى لو كانت من خلقه وبأمره (الله) والإنسان بوصفه خليفة لا يكون إنسانا إلى بهذه الشروط.
وذلك هو جوهر الديني والفلسفي وهو في ثورة دائمة رافضة للرؤية المقابلة التي تنفي الغايات من الوجود وتجعله نظام الضرورة الطبيعية في العالمين الطبيعي والتاريخي وذلك هو دين العجل الوثني:
والضرورة هنا هي الخضوع لرمز الفعل (العملة أو معدن العجل) وفعل الرمز (الكلمة أو خوار العجل).
ماذا فعل بولص؟
أعاد ثورة المسيح إلى سلوك “الفليستان” أي المنافقين اليهود الذين ثار عليهم المسيح.
وما يفعل جامية المسلمين؟
أعادوا الإسلام إلى سلوك جاهلية العرب أي وثنييهم الذي ثار عليهم محمد.
بولص هود المسيحية والجامية جهلت الإسلام.
ذلك أن الجاهلية لا تنقصها الشعائر بل القيم.
ولما كان علمانيونا يقيسون الإسلام على كلمة بولص التي ينسبها إلى المسيح حول قسمة حياة الإنسان بين قيصر والله فإنهم قد هودوا الإسلام فجعلوا وظيفة الدين هي الوظيفة الجامية: دين وعقل الشعائر التي لا علاقة لها بقيم الدين والفلسفة أي بـ”الرئاسة بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”.
ولذلك فليس بالصدفة أن كانت كل الانظمة العربية المستبدة والفاسدة سندها الفكري المبرر لأفعالها يشمل الجامعية والعلمانية أو “الفيلستان” أو المنافقين من الجامية تلاميذ بولص وعتاة الجاهلية أو تلاميذ أبي جهل. وهما نوعي النخب: كاريكاتور التأصيل (الجامية) وكاريكاتور التحديث (العلمانية).
لكن المسيح ومحمد وكل الرسل وأفلاطون وسقراط وكل الفلاسفة كانوا دائما ثوارا على الاستبداد والفساد باسم قيم كونية صالحة لكل مكان وزمان وتقبل الرد إلى معاني الإنسانية بلغة ابن خلدون أي ما حصيلته تعريف الإنسان بكونه “رئيسا بالطبع (معنى فلسفي) بمقتضى الاستخلاف (معنى ديني) الذي خلق له”.
واتماما لهذه التحولات الدلالية للثورتين الدينية والفلسفية اود أن أشرح قضية “تاريخ الله” الشهيرة والتي تكررت في الندوة التي كانت منطلق قضية يونس قنديل ومؤمنون بلا حدود التي سميتها مؤمنون بالنقود بلا حدود: فهذه القصة سبق أن نظم لها حفل في تونس قدمها العظمة: تاريخ الله.
وهي في الحقيقة من مبتذلات اليسار الهيجلي لأنها ناتجة عن خرافة فيورباخ حول الإنسان خالق الله تعويضا عن نقائصه مثالا من الكمالات التي يتمناها لذاته. وطبعا فقصد فيورباخ أنه تصورات الإنسان لله لا يوجد وراءها وجود فعلي لله ومعنى خلق الله هو تصور هذا المثال وتاريخ هو تاريخ هذه التصورات.
لكن الحمقى من “مفكري عقاب الزمان” جلهم من أقسام العربية بين حركيي الجزائر (أركون) ونسختيه المصرية (حامد أبو زيد) والتونسية (الشرفي) وتلاميذهم من المقتحمين للتفلسف دون عدة فلسفية أو علمية بتاريخ الأديان والفكر الديني يعتبرون ذلك كشفا وهو من “الفريب” الهيجلي قبيل التمركس الختامي.
فأن يدعي الإنسان أنه “خالق” تصوراته لله أمر طبيعي بل القرآن نفسه يقوله ليحذر من الخلط بين تصوره وموضوع تصوره.
خلق التصور لا جدال فيه.
خلق موضوع التصور هو مناط الإشكال.
وتاريخ التصور لا جدال فيه.
تاريخ موضوعه هو مناط الإشكال.
لذلك فالإضافة إلى الله تعني الإلحاد في هذه الحالة.
ولأختم بطرفة فيلولوجية:
أليس بين الإلحاد واللحد الذي يوضع فوق الميت للفصل بينه وبين تراب القبر علاقة لسانية هي الانتساب إلى نفس المجال الدلالي؟
فكل ملحد بهذا المعنى يلتحد وهو حي عضويا لكنه ميت روحيا.
والعلة هي ظنه علمه محيطا فيزعم أنه أثبت عدم وجود الله فالتحد قبل أن يلحد.
وبالمناسبة، كنت أعجب دائما من اليسار العربي عامة واليسار التونسي خاصة وأتساءل دائما: هل خطابه السياسي دال على الحمق السياسي والصدق الخلقي؟
فهو لا يخفي عداءه لثقافة شعبه ولا يستعمل النفاق السياسي في ذلك كما تقتضي الديموقراطية التي تعتمد على إخفاء عقائد المترشح احتراما لعقائد الشعب.
هل هم يعكسون معادلة الخطاب السياسي فيصدقون بالقول ويكذبون بالفعل؟
كيف يعلنون عن اتباعهم طريقة الوصول إلى الحكم بالطرق الديموقراطية ثم يعادون ثقافة الناخبين؟
ألا يدل ذلك على أن سعيهم بالأفعال مناقض للأقوال فيكون جامعا بين خطابين متلائمين:
- أولههما يرضي من يعتبرونه صاحب الحل والربط في البلاد أي الغرب وهو حقيقة معتقدهم العلماني ولا يعنيهم رضا “الأنديجان
- والثاني يرضي المافيات التي تحكم من وراء حجاب بالطرق التي يعتمدون عليها للوصول إلى الحكم الذي لا يؤمن بالديموقراطية توظيف العمل النقابي والإعلامي ليكون في خدمتهم ومقاسمتهم مزايا الحكم ضد إرادة الشعب.