ثورتا الاسلام، بدأتا تصبحان مطلب كل شباب العالم – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله ثورتا الاسلام بدأتا تصبحان مطلب كل شباب العالم

تحول الفلسفة إلى إيديولوجيا عامة حدث في تاريخنا مرتين: الأولى صارت فيها الفلسفة كرؤية عامة تدعي العلمية أداة أصحاب الفتنة الكبرى ما حال دونها والتطور المعرفي الحقيقي في حدود الممكن للعلم بدعوى تجاوز حدود العقل العلمي والإيهام بأن العلم اكتمل ولم يبق أن يعلم ويتعلم (الفارابي). وكان أساس هذه الرؤية الساذجة توظيف فلسفة أرسطو والأفلوطينية المحدثة من اصحاب الفتنة الكبرى ضد الإسلام رغم أن الإسلام لم يكن معاديا للعلم وما يجعل الفقهاء يصبحون محاربين له هو هذا التوظيف وخاصة في مدرسة الباطنية واخوان الصفاء وكل الخرافات في ما يزعم من دجل العرفانيات. ولم يفد في ذلك محاولات الغزالي التمييز بين الممكن معرفيا واللاممكن وبين العلم والميتافيزيقا (الرياضيات والمنطق في مقدمات التهافت) لأن تحويل الفلسفة إلى دين مضاد للإسلام (انظر الحروف للفارابي) جعل علماء الدين في موقف أكثر سذاجة من موقف موظفيها يحاربونها ومعها العلوم الحقيقية. فكان ما كان من تخلف في علاج العلاقتين العمودية مع الطبيعة والافقية مع التاريخ حتى صارت الامة مطلقة العجز عن الاستعمار في الأرض بأدوات العلم النظري وتطبيقاته والاستخلاف فيها بأدوات العلم العلمي وتطبيقاته وصارت الأمة عزلاء في الحماية وجهلاء في الرعاية عالة على غيرها. والمحير فلسفيا هو أن أصحاب الفتنة الصغرى لهم نفس النسبة إلى فلسفة هيجل: عندهم العمل اكتمل ولم يبق إلا أن يعلم ويتعلم (عبارة الفارابي في الحروف). ومعنى ذلك أن فكر الحداثيين العرب لم يتجاوز بعد ذهنية القرون الوسطى وإن عوض هيجل أرسطو. فهو مؤسس لليبرالية الرأسمالية لطغيانية الماركسية. وهو يؤسسهما على نهاية التاريخ بمعنى تمام علمه له كما يؤسس أرسطو نهاية الطبيعة بمعنى تمام علمه لها وقد لا يكون هيجل وأرسطو قائلين بذلك لكن تلاميذهما والسكولاستيكية التي تكونت من بعدهما فرضت هذه الرؤية وعمل بها فكرنا الوسيط والحديث وكلاهما قائل بنظرية الحقيقة المطابقة. وقد حاولت أن أبين في محاضة نقد أدلة وجود الله بين ابن رشد وهيجل أن مدرستي الفكر العربي الحالي مغترا بتصنيف أرنست رنان وأرنست بلوخ لم يتجاوزوا الهيجلية التي وحدت بين الثيوقراطيا والانثروبوقراطيا على أساس تأويل هيجل للثالوث المسيحي في فلسفته الدينية وتذويت وحدة الوجود. وقد ضربت مثالين من هذا المنحى كلاهما حصل بينهما وبيني حوار منشور: فحسن حنفي فيورباخي والتيزيني ماركسي. أما الجابري فبين بين وهو بثالوثه يطبق مفهوما أرسطيا مختزلا في مستويات منطقه القائل بالخطابي والجدلي والبرهاني في عصر لم يعد أحد يقول بالبرهان الأرسطي. فالبرهان الأرسطي مشروط بمفهوم الذاتي والعرضي ومن ثم بالميتافزيقا وتطبيقها في نظرية العلم (التحليلات الأواخر) وكلها لم تعد ضرورية لأن العلم يكفيه الفرض الاستنتاجي الذي تقاس فاعليته التفسير بمدى صلوحية الفرضيات وهي دائما شرطية وليس خبرية كالحال في البرهان الارسطي. ومنطق الجدل الهجيلي وإن كان يلغي المقابلة بين المتناقضين ويقبل بالثالث المرفوع من ثم فإنه مع ذلك يزعم أن ذلك ليس مجرد فنيات للعبارة عما ندرك من الوجود بل هو يعتبرها عين حقيقة الوجود فيكون بذلك قد عاد إلى القول بالمطابقة بين الإدراك والوجود ويعتبر ما يتجاوز ذلك من وهم الإنسان. ومن ثم فلا فرق بين النظامين الثيوقراطي في نظام الوجود وليس في نظام الحكم السياسي فحسب والانثروبوقراطي في نظام علم الوجود وليس في نظام الحكم السياسي فحسب: وهما تحريفا الدستورين اللذين تكلمت عليهما عندما انتقلت الامة إلى حالة الطوارئ التي دامت فيهما منذئذ إلى الآن. لماذا لم يعد أحد يقول بالبرهان الأرسطي لأنه لم يعد أحد يفهم حقا حدود العلم والعقل يسلم بالمطابقة بين الوجود والأدراك حتى لو لم يكن من القائلين بالغيب. فما نعلمه من الوجود إلى بالقياس إلى ما نجهله هو نسبة المتناهي جدا إلى اللامتناهي جدا. ومن يجهل هذه الحقيقة لا يعتد بعلمه. والعلم بحدود العلم هو المقوم الرئيس لأخلاق العلم. وهو لا يتناقض مع القول إن الوجود لا ينحصر في الإدراك لأن هذه الحقيقة هي عين العلم بل العلم ليس شيئا آخر غير مراقبة الإدراك وما قد يغريه من رد الوجود إلى ذاته فلا يميز بين الحلم والعلم. والعلم قد يصبح علما بالسعي لتجاوز ذاته. فتكون حركة العلم هي الدليل على أنه لا يحيط بالوجود بل هو يتدرج نحو استكمال لا متناه في المعرفة شرطه ألا يتوهم في لحظة من لحظات سعيه أنه بلغ الكمال. وهذا الوعي بالاستكمال هو شرط المعرفة المتزنة التي تتدرج في الكشف عن أسرار الوجود بالقدر الممكن للمحدود في فهم اللامحدود. وما يحيرني حقا هو أن أصحاب هذه الفهوم العقيمة لو سألتهم هل تردون الطبيعة على محاولات التعبير عنها أي مراحل التدرج في معرفتها لاعتبروك تسخر منهم ولقالوا الطبيعة قائمة بذاتها ولا ترد لمحاولات علمها والعبارة عنه. فإذا قلت لهم لماذا تعتبرون الدين مردودا لعبارة الإنسان عنه لم يفهموا. وهنا تتبين سذاجتهم ولن يستطيعوا فهم ديكارت مثلا عندما قال إن اثبات وجود الله بالعقل أيسر من أثبات وجود العالم. فنحن نعتقد في وجود العالم لأننا ندركه بالحواس ولكننا لا نستطيع إثباته بالعقل والعكس صحيح بالنسبة إلى الله نحن نثبته بالعقل ولا ندركه بالحواس. لن يفهم ذلك عبدة “الواقع”. ولو سألتهم هل رأيت نظام القوانين التي تحكم الطبيعة؟ لاستغربوا. فهي لا ترد إلى العبارات التي تصوغها بالرموز الرياضية بل هي شيء آ خر. وهي ليست ما ندركه بالحواس من ظاهرات الطبيعية التي تتلقاها الحواس سواء من خارج الذات أو من باطنها. فما هي إذن؟ وما طبعيتها؟ وكيف تفسير نظام العالم؟ هي ذي الطبيعة نفسها مؤلفة من نظامين أحدهما هو ما ندركه بالحواس والثاني هو ما ندركه بالعقل وغالبا ما يكون الثاني عكس الأول أو على الأقل لا يرد إلى الاول بالأول يرد إليه فيكون ما لا يدرك بالحواس هو النظام الاصلي لما يدرك بالحواس لذلك سأل الغزالي: ماذا لو وجد طور وراء العقل؟ لن يستنكر هذا السؤال إلا أحد اثنين: إما جاهل بالفرق بين نظام المحسوس ونظام المعقول أو قائل بردهما إلى نظام واحد بين ما في الأعيان وما في الأذهان ومن ثم ناف للوجود الفعلي لغير المحسوس. لكن إذا سلم بان غير المحسوس لا يرد للمحسوس فسيسأل عنه ما طبيعته وهل وراءه غيره. وطبعا لا الغزال ولا أنا خاصة يمكن أن يزعم أن له جوابا عن سؤال طور ما وراء العقل. كل ما يعنيني هو أن ذلك من مجال الممكن حتى لو كان هذا الإمكان ذهنيا فحسب. فيكون السؤال حنيها لماذا للإنسان هذه القدرة على التوجيه بين الممكن والواجب والممتنع؟ وهذا هو بداية السؤال عن وجود الله. فلو كان الإنسان مطابقا “للواقع” وكان الواقع أمرا حاصلا وثابتا ولا محدد في مداركنا لامتنع أن يخرج الإنسان من الواقع ليسأل عن الممكن الذي ليس بواقع. ما الذي يجعل الإنسان يطرح أول سؤال في كتاب الميتافيزيقا الأرسطية: لماذا يوجد شيء بدل لا شيء؟ ولو لم يكن للإنسان تشوف إلى ما وراء العالم لما طرح هذا السؤال الأرسطي ولما أضاف إليه لايبنتسز سؤالا ثانيا يعتبره شرط تأسيس الفيزياء أو شرط النقلة من الرياضيات إلى الفيزياء: لماذا ما يوجد، يوجد على تلك الصفة والكيفية التي يوجد عليها. وليس للإنسان جواب حاسم عن السؤالين رغم الضرورة والجواب لا يخلو من أحد الحلين: إما جواب إيماني أو جواب فرضي. لدين يفضل الجواب الإيماني والعلم الجواب الفرضي والفلسفة مترددة بين الجوابين لأنها لم تسلم بعد بأنه لا يوجد جواب علمي على شرط العلم: لا بد من التسليم إيمانا أو فرضا بأن العالم موجود وله نظام وبأن العقل قادر على معرفته ولا يحتاج إلى وهم حصر نظام العالم في ما يعلم منه. يكفيه أنه يعلم بعضه ويتقدم في توسيع معرفته ولا يتقدم إلا بشرط التخلص من وهم المعرفة المطلقة لأنه يواصل الشك في ما وصل إليه والسعي لتجاوزه إلى ما هو أفضل منه: وهذه هي القاعدة الجوهرية التي وضعها ابن تيمية كل تصور وراءه ما هو أفضل وهكذا نرى أن كبار الفلاسفة يتفقون على أن العلم الإنساني ليس محيطا وأن الوجود أوسع من الإدراك وأن ذلك يترك مجالا للإيمان وللفكران وهما علامتا الاختيار الحر الذي ربطه الله في قرآنه بتبين الرشد من الغي الملغي للحاجة إلى الإكراه. ذلك هو أساس الحريتين ثورتي الاسلام دين الله.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي