ثورة الهلال،
مرة أخرى أقحم نفسي في ثورة سوريا. فالكثير قد يحبط بسبب ما يجري في ادلب بعد المعركة.
لكن ذلك لا يحبطني بل إني أراه فرصة حتى يفهم الثوار الخطأ الاستراتيجي المضاعف الذي نبهتهم اليه منذ سنوات والذي يمكن رده إلى أن بعضهم من العسكر المنشق الفاقد للخيال فيطبق بغباء منطق المناجزة في حرب شعبية مبدؤها هو منطق المطاولة.
والخطأ الاول هو استعمال السلاح الثقيل لكأنهم جيش دولة وليسوا مقاومين لجيش دولة. وهو أمر يستحيل فيه الحصول على الندية بين دولة لها سند خارجي قوي وطيران.
والخطأ الثاني هو استعمال حرب الصفين جبهة مقابل جبهة لكأن الأرض التي حرروا صارت دولة تحارب دولة.
وفي ذلك عنت لا يطاق بالنسبة إلى حاضنة الثورة.
فلكأن الثوار يتخذون الشعب والمدن رهائن في مقاومتهم. مع علمهم بأن حمايتهما آخر هموم النظام وحلفائه.
وهذان الخطآن قاتلان لأي مقاومة. وقد سبقتهم إليه المقاومة الفلسطينية مرتين أولاهما في الاردن والثانية في لبنان. وكلنا يعلم النتيجة في الحالتين.
لكنهم لا يتعظون.
فالخطأ الأول لا يمكن لتركيا أن تعالجه لأنه مراقبة ويتربص بها الاعداء من كل جانب وبتمويل عربي لروسيا وللأكراد العلمانيين وحتى لإسرائيل فهي الأشد حرصا على فشل الثورة.
لم يدرسوا مقاومة الجزائر وكيف استعملوا البراري والجبال والصحاري وحتى المدن فهم فيها فرق بسلاح خفيف وليس بسلاح ثقيل مثل الجيوش النظامية. وقيسهم على فيتنام خطأ لا يغتفر.
فلا توجد دولة فيتنامية تساندهم ولا خاصة وراءهم الصين وروسيا بل العكس هو الصحيح لأن روسيا وامريكا يسندان النظام ومعهما ذيليهم الرئيسيين إيران وإسرائيل وذيول الذيلين أي كل الأنظمة العربية.
فأنا واثق أن ما شجع روسيا على التدخل ليس التمويل العربي وحده ولا دعوة إيران وحدها بل لأن إسرائيل بدأت تشعر بالخطر من إمكانية نجاح الثورة بحيث إن مجيئها كان لحماية إسرائيل أكثر منه لحماية النظام الذي كان مجرد غطاء دبلوماسي لإضفاء شرعية القانون الدولي على التدخل بدعوى الدعوة من نظام رسمي لأن الجميع يعلم أنه انتهى فعليا.
ولا أنفي أنه يوجد عاملان آخران كانا مساعدين على هذه النتيجة: داعش التي صنعتها مخابرات من ذكرت من المشاركين في الحرب على الثورة خاصة وعلى الاسلام بصورة أخص أولا وتفتت المقاومة إلى جماعات بأمراء حرب كل واحد منهم كان يتصور نفسه قد أصبح “امير” دولة يجري وراء الجباية واستغلال المناطق التي تقع تحت إمرته بحيث إنه هم أول من فتت أرض المعركة فمكن منها مليشيات إيران بالتوالي لأنهم لا يحاربون معا بل مناطقيا.
لكن ذلك على خطره يبقى دون الخطأين الاستراتيجيين الذي شرحت أولهما. ولأمر الآن إلى الثاني.
فاستراتيجية الصفين بتسليح لا يضاهي تسليح الجيش السوري ومسانديه في الأرض وفي الجو يجعل الضحية الاولى هي حاضنة الثورة التي تصبح في هذه الحالة قدم أخيل في كل ثورة لأن الحاضنة ينبغي ألا تكلف ما لا طاقة لها به حتى يبقى حماسها للحماية الثورة.
وهو أمر كان يمكن تجنبه بخلاف ما يجري في فلسطين لأن أرض سورية أضعاف اضعاف أرضها.
ومع ذلك فقد كنت ضد تكليف الحاضنة حتى في غزة ما تفعله حماس أو غيرها من الحركات لأن استراتيجيتهم تصب في النهاية في مصلحة إسرائيل وهي افقاد الحاضنة الصبر إلى اليأس من أمل الحل وهو شرط المطاولة.
لذلك فقد اعتبرت ما يجري في غزة تحول إلى ورقة تفاوضية إيرانية مثل جنوب لبنان ولم يعد في خدمة قضية فلسطين.
ولم أخف ذلك وقد صارحت به قياداتها كلما لقيتهم سواء في دمشق قبل الثورة أو في طهران أو في الدوحة وفي تونس بعد الثورة. ذلك أن مقاومة إسرائيل بخلاف كل المقاومات من طبيعة مختلفة تماما.
فإسرائيل ليس دولة مثل غيرها بل هي مركز مافيات العلم الغربي وعملائه في المعمورة.
ومن يجهل ذلك لا يمكن أن يحدد استراتيجية مقاومتها. ولا يعني ذلك أن استعمال السلاح ليس ضروريا في مقاومتها لكنه أقل أدوات المقاومة فاعلية لأن الحرب عليه تصبح كونية بأدوات الحرب اللطيفة التي تجعل إسرائيل تمرر كل جرائمها وكأنها في وضعية الدفاع عن وجودها وليس عن العدوان.
وليس هنا محل الكلام في الاستراتيجية المناسبة لمقاومة إسرائيل ويمكن العودة إلى ما كتبته حول “ميتافيزيقا التطبيع” لفهم أبعاد الحرب مع إسرائيل وكيف يمكن الانتصار عليها.
وعلى كل فرفض ما يعرضه الغرب بدعوى الإنصاف ليس الاستراتيجية الناجحة بل لا بد من عرض الحلول بدل الكلام على الحقوق التي لو كان الكلام عليها مؤثرا لما وجدت القضية.
وعندي أن الحل الأنجع بعد الفشل المتراكم بدءا من رفض التقسيم وختما برفض كل المقترحات بما فيها المقترح العربي للأرض مقابل السلام من كلا الجانبين -وهو مقترح دال على الحمق لكأن العرب قادرون على الحرب حتى يعرضوا السلام-لم يبق إلى سلاح واحد هو عرض الدولة الواحدة ذات القوميتين.
وطبعا لا أجهل أن إسرائيل سترفضه.
لكن المخاطب الاقتراح ليس إسرائيل بل افحام كل من يؤيدها لأن قضية التمييز العنصري هي السلاح اللطيف الأقوى ضدها.
وطبعا موقفي من تحميل الحاضنة ما لا يحتمل لا أعني به ما يعنيه القائلون إن استعمال السلاح في المقاومة عبث لعدم الندية في التسليح كما يحاول من يبررون الاستسلام من أنظمة العرب التي تحارب الثورة وتقبل بقانون الأقوى بدليل أن بلدانهم صارت محميات تمول قواعد محتليها ومرتزقة اجانب.
فالمؤثر في المقاومة الشعبية ليس السلاح بحد ذاته بل كيفية استعماله بصورة تحول دون العدو والمناجزة.
فلا أحد يجهل أن سلاح المقاومة لو كان من جنس سلاح العدو لكانت الندية مستحيلة.
وهذا مبدأ وضعه ابن خلدون.
فسلاح الأضعف هو اختيار المكان والزمان في ضرباته الخفيفة. حينها لن يفيد العدو تفوقه السلاحي لأن المعادلة تختلف فهي تنتقل إلى مسألة الكلفة الاقتصادية الناتجة عن المطاولة واستحالة توقع أفعال المقاومة فيصبح خاسرا ولن يستطيع المداومة وذلك هو سر نجاح سلاح المطاولة.
وهنا لا بد توسيع ساحة المعركة لأن وسع المكان هو الذي يمكن من إطالة الزمان فيرفع في كلفة الحرب ليس كمعركة متواصلة بل كاستعداد دائم مكلف أكثر من المعارك.
وفي تلك الحالة يمكن لمقاوم بسلاح بسيط أن يقتل عدو بكلفة أقل من دولار.
والعدو المدجج بالسلاح لا بد له ليقتل مقاوم من استعمال صاروخ يكلفه ملايين الدولارات. وبطول المدة وكلفة الاستعداد الدائم والمعارك المتوالية تدفعه للتفكير في الحل ويصبح هو من يجنح للسلم قبل المقاوم وخاصة في البلاد التي لشعبها رأي في قرارات الحاكم.
وضربة المقاومة مهما كانت ضعيفة مفيدة لأن الموجع ليس الضربة بحد ذاتها بل ما يمثله ذلك من اسقاط المهابة أولا ومن عدم الشعور بالأمن في شعب العدو لأنه لا تدري من أين ومتى تأتي الضربة ولا مدى قوتها.
ولما كانت مؤسسات الدولة موزعة على الأرض فأي ضربة تحقق الهدف من المطاولة.
فتكون الدراجة مثلا أقوى من الدبابة لأنها أسرع وأقل كلفة وقدرة على التخفي.
ولهذه العلة فإني اعتبر أن ما يحدث الآن يمكن أن يكون فيه الكثير من الخير إذا فهم المقاومون كيف يتخلصون من استراتيجية يغلب عليها الحمق والغباء لأنها تصورت انتصارات البداية كافية ما يعني أنهم لم يكونوا يدركون أهمية ما كان سيحدث وأهميته للأعداء ومن ثم أنهم لن يتركوه يحصل بسهولة.
واعتقد أن هذه الاستراتيجية كان ينبغي أن تبدأ أولا بمعرفة أهمية المعركة محليا واقليميا ودوليا وأن تتخلص من أمراء الحرب وألا يتوهموا أن العرب سيساعدونهم بل كانوا يحاولون احتواءهم لأنهم خائفون من نجاح الثورة مثلهم مثل إسرائيل وإيران والغرب الذي يحتل الإقليم ويعتمد على تخويف الأنظمة منها لكي تحتمي به.
لكني أعتقد أن الثوار ككل العرب يخلطون بين عنتريات استسهال النصر وحقائق المقاومة التي يمكن أن تنتصر ولكن باستعمال عاملي المكان والزمان وتوزيع القوة البسيطة لتشتيت القوة المعقدة فتعوقها.
فالسعودية كانت تتصور أنها ستقضي على الحوثيين في أقل من شهر.
نسوا من وراء الحوثيين وخبرتهم في المطاولة.
والآن اعتقد أن المقاومة إذا تعلمت الدرس فهي التي ستكون في مساعدة لتركيا وليس العكس.
إذا بقيت كما هي الآن فهي ستكون عبئا على تركيا ولن تستطيع مساعدتهم لأن روسيا قررت أن تكشف على أقوى ورقة ضد تركيا حاليا أي منعها من استعمال قوتها وطيرانها خارج حدودها بتواطؤ مع أمريكا وإسرائيل.
وقيادات تركيا لا تنقصهم الخبرة لتوقع الفخ الذي ينصب لهم من روسيا وإيران ومن أمريكا واسرائيل وخاصة من أوروبا التي تريد تحقيق ما يشبه ما حققته في الحرب العالمية الاولى لمنع صعود مارد تركي في الاقليم قد يخرجها منه.
ولهذا هم يريدون توريطها في ليبيا ليسهل ضربها بالخونة من العرب خاصة (الثورة المضادة) أو بالجبناء منهم الذين يتلكؤون في نصرة ثورة ليبيا (تونس والجزائر).
تركيا الآن مهددة حقا وعليها أن تكون حذرة.
وإذا كانت الثورة السورية لها شيء من العرفان لما بذلته تركيا في مساعدة الشعب السوري فعليهم ألا يكونوا عبئا عليها وعليهم الشروع في حرب عصابات ستكون الطريق الوحيدة التي تمكنها من مساعدتهم بالخبرة والمعلومة وحتى بالسلاح بشرط وصول المقاومة إلى البحر لئلا تتهم تركيا بأنها مصدر التسليح.
فوصوله الثورة إلى البحر يجعل مدها بالسلاح من تركيا قابلا للتخفي. وهو أمر مستحيل إذا بقيت المنفذ الوحيد على العالم الخارجي رغم أن الاعتماد على العراق يمكن كذلك أن يصبح في المتناول لان احفاد ثورة العشرين تجاوزوا الطائفية وأصبحوا يريدون تحرير أرضهم بوصفهم عراقيين.
وهذا مرتبط بالثورة السورية.
ذلك أن العراقيين يعلمون أنهم إذا لم ينفتحوا على ثورة سوريا -الانفتاح على الاردن والسعودية والكويت مستحيل لأن هذه الانظمة تابعة-ستحاصرهم إيران التي بدأت تتفاوض مع أمريكا لحل وسط في العراق ولبقاء النظام دون السلاح النووي كما حصل في كوبا ولن يمنعها ذلك من وهم المحافظة على مطامعها.
وكما أسلفت فإن خرافة اخراج أمريكا من العراق كذبة.
ذلك أن من أتوا على ظهر دباباتهما يعلمون أنها لو خرجت لاضطروا للخروج معها لأن الشعب العراقي لم يعد مغترا بالتحرير المزعوم ونظام إيران لن يستطيع حمايتهم بعد أن صار شعبها في ثورة على الملالي وبعد أن أفلست وأفلست العراق ولم يبق لها القدرة على مقاومة أبناء الفلوجة واحفاد ثورة العشرين.
وختاما فكما قلت منذ سنوات: الثورة ستنتصر إذا تحررت من حدود سايكس بيكو وصار الهلال كله من حدود العراق مع إيران إلى البحر الابيض المتوسط مرورا بلبنان أرض المعركة وحينها روسيا نفسها ستفكر ألف مرة قبل تهديد تركيا أو البقاء غير المكلف في سوريا وتلك هي طريق النصر والله ولي التوفيق.
وبعبارة أوضح طريق النصر هي نفس الطريق التي كانت طريق هزيمة الثورة لما كانت إيران تنوي استعمالها لتوطيد استعمارها للهلال ولكن في الاتجاه العكسي التي تعني هزيمة إيران.
لا بد من تحقيق نفس الاستراتيجية من لبنان إلى العراق وليس من العراق إلى لبنان حتى يصبح مسرح المعركة كافيا للقضاء على النظام وطيران روسا من دون مليشيات إيران.
فما اتوقعه هو أن إيران لم تعد قادرة على تمويل المليشيات وما عندها منها ستعيده إلى إيران حتى تسيطر على الوضع الداخلي وهي مهددة بالتفتت ومن ثم فهي ستعمل كل ما تستطيع لتعود إلى عقر دارها قبل أن ينفجر وضع القوميات المختلفة التي تريد الاستقلال فضلا عن ربيع فرسها ضد نظام الملالي.
ولا بد أن يكون المطلب أوسع من تحرير الهلال من البحر إلى حدود إيران بل لا بد من استئناف المشاركة في تحرير إيران والخليج كله من عبادة العباد بعبادة رب العباد كما حدث أول مرة في الفتح.
فقد الغيت عبادة رب العباد وعادت عبادة العباد بسبب وثنية العنصرية الصفوية في إيران ووثنية القبلية في الخليج العربي.
فصرنا في لحظة تاريخية إيران فيها اليوم أشبه بدولة الباطنية في مصر وتفتت الهلال قبل انتصار صلاح الدين في القضاء على دولتهم وتحرير القدس.
واليوم نحن أمام الكثير من أوجه الشبه بل إن احفاد دولة الباطنية في مصر هم من شيع إيران وأسس دولة الصفوية.
ولا أنتظر صلاح الدين ثانية لأن ما كان يمثله الأبطال الذين من جنسه أصبح الشعب هو نفسه ممثله: ثورة الشعوب هي البطولة وهي التي ستحرر القدس وفلسطين.
وليس ذلك بالأمر الخيالي: فالأعداء يؤمنون به أكثر من الكثير من المسلمين.
وتلك هي علة سايكس بيكو الأولى ومشروع الثانية لأنهم يعلمون أن دور الامة عائد لا محالة.
ولست أتكلم على فتح يحرر العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد يكون فيها أهل الهلال وأهل المغرب الكبير متحررين حقا من هذه النكوص إلى الوثنية في الاقليم بل نحن بدورنا نسعى للتحرر من هذا النكوص فنحرر الإقليم فيكون الفتح الثاني مختلفا عن الفتح الاول حيث كان الفاتحون أحرارا.