ثورة الشباب، استئناف الأمة لدورها التاريخي

ه

لماذا يتكرر خطاب ترومب الاحتقاري للخليجيين خاصة وللعرب عامة حتى وإن كان تركيزه على السعودية باعتبارها الأكثر التصاقا بأمريكا وحمايتها؟
هل لأن الشعوب العربية عاجزة عن حماية نفسها بمعنى أن الشباب من الجنسين غير قادر على تحقيق ذلك من حيث الكفاءة الفنية والأهلية الخلقية كما قد يظن؟
لست أشك في أن الكثير ممن يحتقرون العرب وخاصة -إيران وإسرائيل وتوابعهما من النخب العربية التي هي مليشيات قلم أو مليشيات سيف في خدمتهما-يعتقدون ذلك. والكثير بلغ به الشك إلى حد الذهاب هذا المذهب في النظر إلى العرب بمعنى أنهم ظنوا نكوص الأنظمة دليلا على نكوص الشعوب. وهو تقريبا ما كان عليه العرب قبل الإسلام.
أريد هنا أن أبين أن ذلك من علامات سذاجة من يحكم على الشعوب العربية حكمه على الحكام والنخب التي تحيط بهم. فكذلك كان شأن العرب قبل الإسلام. كانت قيادات كل قبيلة تعيش على التنافس المرضي مع قيادات أجوارها وتدعي أنها أولى بالسيادة على ما حولها من غيرها وتسعى لاستتباعها بتناكر وتهاج وتقاتل.
وما أن وحدهم الإسلام فحررهم من جاهليتهم حتى صاروا شعب الفاتحين الذين أذهلوا أهل عصرهم فانتشروا في المعمورة بقيمة “جئنا لنحرركم من عبادة العباد بعبادة رب العباد” وكانت أول ثورة إنسانية كونية معيارها الأخوة الإنسانية (النساء 1) والتعارف والمساوة بين البشر(الحجرات 13). ثم نكصوا أسفل سافلين.
وقد فسر ابن خلدون هذا النكوص أسفل سافلين الذي يعني “فساد معاني الإنسانية” (مصطلح خلدوني) فيهم بعلتين: فساد نظام التربية وفساد نظام الحكم لكونهما صارا استبداديين يلغيان مفهوم الإنسان في كيان المسلم وهو المفهوم الذي حدده بالقول الإنسان” رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”. فإذا فقد الرئاسة سفل وانحط.
السفالة والانحطاط فعلا فعلهما في الأمة لأن جل الحكام والمربين التابعين لهم أفسدوا معاني الإنسانية في النخب التي تحيط بالحكام بإعادة ما حرر الإسلام منه الإنسانية أعني الوساطة بين الله والمؤمن في التربية (استبداد العلماء) والوصاية على المؤمن في أمره (استبداد الأمراء) فأفقدوا الإنسان المسلم “رئاسته واستخلافه”.
لكن الله وعد الأمة بالشهادة على العالمين. لذلك فالداء لم يتجاوز هذين الرهطين والخاضعين لسلطانهما وبقيت الأمة في الغالب على سلامتها التي جعلتها دائمة الذود عن البيضة. وصمدت حضارة الإسلام وها هي تتحرك من جديد لتستأنف دورها الكوني مهما حاول أعداؤها الوقوف دونها ودون هدفها.
واليوم أنا واثق بأن شباب العرب عامة الخليج خاصة ولكن شباب الحرمين بصورة أخص لا يمكن أن يواصلوا تحمل ي حماقات ترومب وتذلل حكامهم. لن يصبروا أكثر مما صبروا ولهم القدرة على التحدي علميا وتقنيا وفنيا وخاصة خلقيا حتى يبينوا أنهم مستغنون عن المرتزقة لحماية الأرض والعرض بأنفسهم.
ما يحول دون ذلك ليس عجز الشباب بجنسيه أو جبنه أو قلة كفاءته أو عدم الشعور بالعزة الوطنية أو الإسلامية بل شيء واحد: خوف الحكام منهم والتنكيل بكل من يحاول القيام بواجبه الوطني والديني.
وإذن فالحاجة إلى الحماية الأمريكية ليست للتصدي لخطر خارجي بل لخوف من خطر داخلي. أمريكا في بلاد العرب تحمي الأنظمة ولا تحمي الأوطان لأنها هي التي تهددها. وهي تهددها بذاتها ولكن خاصة بذيليها: إيران وإسرائيل.
إنها تخيف الأنظمة التي تحتمي بإسرائيل بإيران والأنظمة التي تحتمي بإيران بإسرائيل. ولولا خوف الحكام من الشعوب لما كانت إيران أو اسرائيل قادرتين على التغول فتخيف العرب. فهما لا شيء أمام قوة العرب عندما تتحرر الشعوب.
والثورة لن تموت بل هي استؤنفت بصورة توقعتها. وهي الآن تشتعل في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي اليمن وفي ليبيا وفي الجزائر وفي السودان. ولن يتخلف الخليج لأن ما كان يحول دونها انتهى: لم تعد الأنظمة قادرة أن تستجيب لحلب ترومب ولرشوة الشعوب بالمكرمات التي هي ليست تكريما للمواطن بل تنويم.
لعل بعض الأغبياء يفترضون أني متفائل أكثر من اللزوم أو أني محرض لشباب العرب على الثورة. وفي الحالتين مثل هذا الكلام فيه تشكيك في عقول الشباب بجنسيه. فلست وصيا على أحد حتى أحرضه ولست غافلا حتى أتجاوز في تفاؤلي ما أرى علاماته في ثورة الشباب. ولست أنا الذي من دفع خاشقجي الذي ضحى بحياته حتى يثبت لشباب بلاده أن الكرامة والحرية أغلى من “حياة” لأنه فهم تمييز القرآن للحياة عنها.
وما ظن أي بلد عربي ليس فيه آلاف أو مئات الآلاف بل والملايين بحسب حجومها ممن لا يقلون وعيا من خاشقجي في المشرق ومن البوعزيزي في المغرب. وأمثالهما كثير. فكل الشباب اليوم من الماء إلى الماء يريد استرداد شروط الحرية والكرامة. قد يلهونهم بالقشور بمنطق نفس الاستبداد الذي حرمهم منها سابقا لخدمة حاميهم لا شعبهم.
لكن الشباب بجنسيه ليس مغفلا فتنطلي عليه نفس الحيل. طلبت أمريكا منهم استعمال الجهادين فصاروا يبشرون بالجهاد. وطلبت منهم المتصوفين فصاروا يبشرون بالتصوف. وإذن فهم يستغلون الإسلام لخدمة أعدائه لئلا يكون أصلا لعزة المؤمنين به والعاملين بقيمه من اجل ما سماه ابن خلدون معاني الإنسانية أي رئاسته بطبعه.
ولهذه العلة فإني اعتقد أن لترومب فضلا كبيرا على العرب بسبب كراهيته للإسلام وخوفه منه واحتقاره لمن احتمى به من العرب. فلعل حمقه يكون المهماز فيحرك في البعض منهم شيئا من نخوة الرجولة فيفهم أن ما يجري حاليا من خصومات صبيانية بين حكام العرب لن يحقق لهم ما يحلمون به. لن تحميهم أمريكا وإسرائيل وإيران وروسيا. وسيفقدون كراسيهم في محميات سايكس بيكو التي ستنهار قريبا.
لكني لا أولي أهمية كبيرة لفرضية عودة الوعي عند الحكام العرب من المحتمين بإسرائيل أو بإيران. ذلك أن جلهم فقدوا الرجولة بكل معاني الكلمة وتصوروا سايكس بيكو ستعمر قرنا آخر. وهذا هو المستحيل. وتلك هي العلة التي جعلتين أفرح بما سموه الفوضى الخلاقة. هم أرادوها بداية لسايكس بيكو ثانية. لكني أراها بالعكس بداية نهاية الأولى ومنع بداية الثانية. ولأضرب مثالين.
الأول من المشرق الكبير فالحدود بين العراق وسوريا ولبنان والأردن وحتى الكويت لم يعد لها أدنى معنى حتى وإن توهمت إيران أنها هي التي استفادت من ذلك ظنا أن أمريكا وإسرائيل مهدا لها استرجاع ما تعتبره من امبراطوريتها قبل الإسلام. ولا تدري لظن حكامها أنهم دهاة أنها هي التي استغلت لهذه الغاية لصالح إسرائيل: فقد كان الطائفية دائما من أدوات أعداء الإسلام.
لكن الحصيلة التي تعنيني هي عودة وحدة الحيز الجغرافي الكبير الذي يمثله الهلال. فشباب الهلال تجاوز الحدود التي وضعتها سايكس بيكو الأولى لأن ثورته على الاحتلال الإيراني والإسرائيلي ثورة ضد نفس العدو في الاقليم (إيران وإسرائيل والأنظمة العربية العميلة لهما) وضد نفس العدو في الخارج (روسيا وأمريكا).
سيقال أنت تحلم: من يستطيع أن يحارب كل هؤلاء الأعداء؟
وجوابي بين: أجدادنا هزموا أجدادهم. واحفادهم الذين يريدون العودة بالتاريخ إلى ما قبل الإسلام سيغلبهم أحفاد أجدادنا. امكاناتنا الحالية بالقياس إلى إمكانات الأعداء أفضل بكثير من امكانات أجدادنا بالقياس إلى امكانات اجدادهم.
ما ينقصنا هو ما ترتب على سايكس بيكو من ذهنيات قطرية اعتمدت هي بدورها على وضع التاريخ المشترك بين قوسين والبحث عن شرعية للدول القطرية في ما تقدم على الإسلام (فرعوني بابلي فينيقي قرطاجني إلخ..) وهذا هو الذي قضت عليه الفوضى الخلاقة. وهو ما يسعدني لأن الشباب الثائر تجاوز هذه الحماقات القطرية والشرعيات ما قبل الإسلامية.
وقد كتبت منذ سنتين أن الثورة ستهزم أعداءها بمجرد توسع ساحة المعركة فتتجاوز الحدود بين العراق وسوريا ولبنان والأردن. وهذا من مكر الله الخير أو من مكر التاريخ لا يهم. المهم أن الفوضى الخلاقة ألغت سايكس بيكو. هم ارادوها من أجل ما يليها في خطتهم. ونحن نريدها لما تقدم عليها ولكن بمنطق العصر الحالي في خطتنا.
ما تمنيته منذ سنتين صار حقيقة وإن كانت ما تزال شبه سلبية لأنها في طورها الجنيني. بمعنى أن ثورة شباب العراق وشباب سوريا وشباب لبنان ما تزال في أطار قطري. لكنها متحدة الهدف الذي شرطه فهم أن التحرر مشروط بالتحرير والتحرير مشروط بالحكم الذي يمكن من شرطي السيادة: قدرة الرعاية والحماية الذاتيتين.
وهو ما يعني فهم ما فهمته أوروبا. لا بد من الجمع بين القطرية وما يتعالى عليها فيكون العراقي مثلا ذا جنسية ذات مستويين في الدولة القطرية وفي الوحدة الحديثة مثل أوروبا وأعمق لأن وحدة الثقافة عندنا حاصلة بخلاف أوروبا. العراقي ينبغي أن يكون عراقيا وعربيا مثل الألماني الذي هو ألماني وأوروبي يتوفر له الحجم الكافي للتنمية الحديثة علميا واقتصاديا لئلا يتدايك علينا الأعداء.
أما المثال الثاني فهو من المغرب الكبير. كانت تونس وحدها. تبعتها ليبيا. ثم تعزز الصف بالجزائر. ثلاث شعوب لم يعد للحدود بينها إلا المعنى الجغرافي المؤقت الذي فرضه الاستعمار. لكن التاريخ تغلب على الجغرافيا ومطالب الشباب وصلت المستقبل بالماضي قلبا للمعادلة الاستعمارية التي صارت بين قوسين.
أراد الاستعمار الفرنسي والإيطالي والاسباني والبرتغالي -الذي ورثته أمريكا-جعل الإسلام بين قوسين في الإقليم وأحياء التاريخ المتقدم على الإسلام لوصله بما تصوروه قد تلاه أعني تاريخ الاستعمار فيه فإذا بالشباب بثورته يقلب العلاقة فيجعل الاستعمار بين قوسين ويصل ما قبل الاستعمار بالثورة بعده.
صحيح أن سايكس بيكو الأولى لم تتعلق بالمغرب الكبير لأن استعماره تقدم عليها بالزمان. لكنه لا يختلف عنها من حيث الهدف. فالهدف ليس إسقاط الخلافة الإسلامية فحسب بل منع عودة وحدة المسلمين بالمنطق الحديث أعني بنفس المنطق الذي أسس للولايات المتحدة ولأوروبا المتحدة وللمجموعات العملاقة في عصرنا.
ولهذه العلة تلاحظون أن العملاء من حكام العرب المحتمين بإيران أو بإسرائيل وبمن ورائهما روسيا وأمريكا همهم الأول والأخير الحرب على تركيا بدعوى أنها تريد استعادة الخلافة العثمانية لكأن الأتراك حمقى مثلهم ولا يفهمون أن لكل عصر شكلا مختلفا من الوحدات بمقتضى الاستراتيجيا السياسية المناسبة.
أوروبا جارتها لم تعد للقيصرية المسيحية في العصر الوسيط ولا للجمهورية الرومانية في العصر القديم بل أنشأت مجموعة من جنس الولايات المتحدة الأمريكية التي هي دولة مؤلفة من خمسين دولة أدناها أقوى من اي محمية عربية يدعي طغاتها على شعبها أنهم أسياد وهم في الحقيقة عبيد لإيران أو اسرائيل.
وأخيرا فإني متفائل لأن شبابنا بجنسيه لم يعد يقبل أن يكون منفعلا بأحداث التاريخ بل يريد أن يسهم فيها اسهام الفاعلين وهو يستمد هذه الروح الجديدة من مصدرين:

  1. ذاتي يعيده إلى الجذور هو عودة الاعتزاز بما فعله الأجداد الذين ما يزال العقل الغربي حائرا في فهم منجزاتهم وهو يتصرف بالخوف من عودتهم وخاصة إذا اجتمع كل أهل الإقليم تحت راية الإسلام المتحرر من شوائب الانحطاط وذلك هو سر الإسلاموفوبيا.
  2. وتحدي العصر الذي جعله يقارن وضعه بسلفه مصدر عزته ليكون خلفا جديرا به وهو تحد يستحل الرد عليه من دون شروط التنمية المادية والعلمية التي لم تعد ممكن للأقزام بل لا بد من حجم بمعيار عصر العماليق.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي