لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
– الفصل السادس –
والآن إلى غاية المحاولة للكلام على الثورة الإسلامية أعني الكلام على قلب معادلة الأفعال الخمسة أعني القدرة أي انتاج القيم المادية: الاقتصاد.
وقبل الخوض في أعسر فصول المحاولة سأبدأ بملحة البطل الذي تنسب إليه هو الصديق والمرحوم عبد الوهاب المسيري ولعله من أواخر رجال مصر الكبار.
يقال إنه قد قال إنه عجز عن فهم ما أكتب. وقد يكون قالها لكنه بذهنية المفكر المصري الذي يعبر عن المحبة النكتة. فقد برهن على محبته قبل أن أراه.
كنت في ماليزيا لما شعرت بذلك. فهو أوحى لمسؤولي مكتبة الإسكندرية بدعوتي معقبا على فيلسوف الاعتزال في محاضرته على الوسطية وتدخل لحل مشكلتين.
الأولى دبلوماسية، إذ أن سفير مصرفي كوالالمبور عمل كل ما يستطيع لمنع الزيارة بحجة أن الوقت لا يكفي للحصول على التأشيرة، فحلها لما علم بالأمر.
والثاني اراد جماعة المكتبة أن يقتصدوا في كلفة سفرتي فبعثوا بطاقة درجة اقتصادية. لكن بعد المسافة وسني جعلاني اعتذر، فحلها كذلك بمساعيه المؤثرة.
كل ذلك أعلمني به من أصبح صديقا مشتركا بينه وبيني ولما التقينا في ندوة كبيرة كان موضوعها الانحياز في القاهرة التي صارت لسوء الحظ مقهورة.
لماذا هذه القصة؟ ملحة واعتذار للشباب وتشجيع على الصبر. فالفصل بحق صعب، وقد يوطد خرافة أرباع المثقفين الدرد وفاقدي القدرة على الصبر للفهم.
لماذا قلب المعادلة -القدرة أو انتاج القيم المادية أو الاقتصاد-هو أصعب فصول المحاولة؟ لأن القدرة بالجوهر هي القدرة على الخير وعلى الشر في آن.
فلا خير ولا شر في أي جماعة إلا وأصله وفصله من انتاج القيم المادية وتوظيفها. فهي توظف في الشر أو توظف في الخير في الأفعال الأربعة الأخرى.
القيم المادية قلب المعادلة. فمن دونها يستحيل تحقيق ما قبلها (الإرادة السياسة والعقل العلمي) وما بعدها (ذوق الحياة الفن وحدس الوجود الرؤى).
وكنت قد بينت في مواضع كثيرة أن رمز هذه الفاعلية في الخير أو في الشر تتعين في رمزها الذي سميته رمز الفعل أو العملة. وغاية شرها عبادة العجل.
لكن ما مصدر عسر فهم هذا الدور العجيب لإنتاج القيم المادية الذي يتعين في رمز الفاعلية “العملة” وقد أبدع في وصفه حد كبار فلاسفة الألمان.
جيورج زمل كتابه الشهير فلسفة المال-Philosophie des Geldes ليصف فاعلية المال وتأثير في السلوك الإنساني ولا أحتاج لبيان منزلتها في الإسلام.
العسر الأكبر مصدره هذا الدور في الفكرين الفلسفي والديني ولعله هو المشترك الاساسي بينهما على الأقل في الإسلام ضبطا شرعيا للخير وللشر في آن.
صحيح أني أشرت في بحوثي السابقة إلى أن رمز الفعل العملة-له نظير هو فعل الرمز-الكلمة-وصحيح أن تأثيرهما متماثل لكن الغلبة للأول في كل تحد فعلي.
فمليشيات القلم تثبت ذلك الغلبة: فهم جميعا أبواق مأجورة من قبل مافيات المال والحكم. وهو في الأنظمة القبلية والعسكرية جزية مفروضة على الشعوب.
الكلمة أو فعل الرمز مخدر يحتاجه صاحب العملة أو رمز الفعل ليحقن به الشعوب إيديولوجيا لتكون في خدمة خدمهم أي حكام الأنظمة القبلية والعسكرية.
والحكام في هذه الحالة خدم المافيات الداخلية والمافيات الخارجية والسيد المتحكم في مليشيات العملة والكلمة هو الحامي للمستبدين علينا والفاسدين.
وهذا هو الشر الأكبر. ويقابله الخير الأكبر عندما يكون المال والكلمة في خدمة الإنسان الحر صاحب السيادة وسيد حكامه المؤمنين بسيادة الأمة.
عندئذ يكون انتاج القيم المادية (رمز الفعل أو العملة) وانتاج القيم الرمزية (فعل الرمز أو الكلمة) في خدمة ما قبل القلب وما بعده في المعادلة.
هذا من حيث التوظيف في الخير أو في الشر. والعلاقة أعقد ذلك أن الأفعال الأربعة الأخرى المتقدمين عليه والمتأخرين عنه هي شرط إمكان القلب ووجوده.
فالشعوب التي ليس فيها سياسة رشيدة وعلم مبدع وذوق راق ورؤى عميقة تكون دائما عاجزة عن إنتاج القيم المادية والرمزية وعن حماية ذاتها ورعايتها.
أي إنها بلغة ابن خلدون تكون عالة على غيرها حتى لو أمدتها الطبيعة بثروة طبيعية. فهذه الثروة مهما عظمت ناضبة ولا ثروة بحق إلا بالعلم والعمل.
ما وظيفة الفعلين المتقدمين والمتأخرين عن القلب؟ المتقدمان: السياسة شرط سداد والعلم شرط قدرة وهما علة فاعلية للثروة الدائمة في أي جماعة.
والمتأخران عن القلب: أي الذوق الجمالي والرؤية الوجودية علة غائية أي إن القدرة تكون مدفوعة فاعليا بالسياسة والعلم وغائيا بالذوق والرؤية.
وهذا هو ما يغيب عن بال حكام العرب في الأنظمة القبلية والعسكرية والغبي من النخب التي تطبل لاستبدادهم وفسادهم ولقتلهم صاحبة البيض الذهبي.
فمن دون سياسة رشيدة وعقل مبدع للعلم يمتنع إبداع القيم المادية (الاقتصاد) والرمزية (الثقافة)علة فاعلة لثروة الأمة: بل هما يصبحان مصدر الشر.
ومن دون ذوق جمالي ورؤية وجودية يموت الدافع الغائي في الجماعة ويصبح أصحاب الفعلين مصدر كل الشرور: دعم الفنانين والدعاة للسيسي وبشار مثلا.
والظاهرة لا تقف عند السيسي وبشار. فغالبية الحكام وميليشياتهم النخبوية وأجهزتهم القمعية وظيفتهم الأساسية قتل العلتين الفاعلية والغائية.
وإذن فالإرادة السياسية والعقل العلمي يمثلان العلة الفاعلة للثروة المادية والرمزية. فالفاعلية السياسية تتعلق بأنظمة التبادل والتواصل الحرين.
وتلك هي وظيفة الحماية بالمعنيين القضائي والأمني داخليا والدبلوماسي والدفاعي خارجيا، وتلك هي شروط التعاون والتعاون بحماية الحقوق والمنازل.
وبذلك تكون السياسة المتعينة في الحكم والمعارضة والمراقبة الشعبية جهازا فاعلا في خدمة الرعاية التي لا تكون من دون ثروة: سيادة القانون والوطن.
أما العلم فدوره علة فاعلية لكنها من جنس ثان: فهو اساس السلطان على الطبيعة وعلى التاريخ. فعلوم الطبيعة والإنسان شارطة لإبداع الثروة بالتراث.
الأولى شرط استخراج الثروة من الطبيعة. والثانية لحسن التصرف فيها بالعدل. وما يجعل التنافس عليها إلى مصدر خير وتنمية بدل أن يكون مصدر شر وتخلف.
لذلك فكل الجماعات الواعية فهمت أن البحث العلمي هو اساس التنمية والثروة أي إن الإنتاج الرمزي هو الأساس في الإنتاج المادي شرط إمكان وشرط نمو.
ومثلما أن الفعلين المتقدمين على القلب يؤديان وظيفة العلة الفاعلة، فإن الفعلين المتأخرين عنه يؤديان وظيفة العلة الغائية بصورتين متكاملتين.
فالوجود أو الرؤى علة غائية تفعل بالنموذج المثالي الذي تعتبره غاية حياة الإنسان وجاذبية سعيه في الوجودين الدنيوي والأخروي: مشترك ديني فلسفي.
والحياة بتعبيرها الذوقي الجمالي ذات فاعلية غائية كذلك لكنها ليست بغائية نهائية بل بغائية مساوقة أو مصاحبة للحياة كلها: الأنس بالعشير خلدونيا.
وهي مفهوم السعادة التي تعني الاستمتاع بالحياة أو بلغة القرآن النصيب من الدنيا. وأهمها المال والبنون والجنس والخيل المطهمة وكل رموز المتعة.
وبعبارة أوجز لو قارنا العملين المتقدمين على القلب المتأخرين عنه لوجدنا الأولين لشروط الاستعمار في الأرض والثانيين لشروط الاستخلاف.
فتكون السياسة والعلم شرطين لنجاح الاستعمار في الأرض خاصة، والوجود والفن والرؤى شرطين لنجاح الاستخلاف فيها: ومجموعهما عين كيان الإنسان.
وكلما كان الإنسان متخلفا، رد كيانه لتعينه المادي لأن ينكص إلى ما فيه من حيواني فيصبح جوهر وجوده معبوده هواه وهمه دنياه، فيكون أذل مخلق وأحقره.
وتلك هي العبودية أو عبادة العجل التي جعلت بني إسرائيل ينحطون في غياب موسى عليه السلام فيصنعون من الذهب المسروق ربا يخور لحياة ناكصين تبور.
وما للفساد والاستبداد الذي يسيطر على أنظمة القبيلة والعسكر وميليشياتهما وأجهزتهما من علة إلا هذا النكوص لعبادة العجل: أكل أنعام ولهيث كلاب.
وهذا هو ما يسميه ابن خلدون فساد معاني الإنسانية ورمزه النفسي الخلقي الكسل (عدم العمل) والكذب (عدم الصدق) والجبن وقبول العبودية: تلك حالهم.
لذلك فهم قد جعلوا دار الإسلام مزقا لتكون محميات يوليهم عليها سادتهم فلم يكفهم استعمار الأرض واستغلال الثروة يريدون قتل المرجعية والتراث.
وإذن فالمجال المركزي من الأنشطة الخمسة قلبها المتعلق بالقدرة الشارطة لما تقدم عليها منها وما تأخر والمشروطة بها هو مصدر الخير والشر في آن.
ففيم تتمثل ثورة الإسلام في هذا المجال الأوسط بين السياسي والعلمي قبله والفني والرؤيوي بعده؟ أولا بيان شروط خيريتها لتحقيقها وشريتها لتجنبها.
وهي بصورة لم تبلغ درجة النسق النظري من أهم موضوعات الفقه لأن “الملكية” والالتزامات التعاقدية من أهم مواد تشريعاته وممارساته القضائية.
وأتم محاولة فلسفية مثلت نقلة نوعية من التشريع بمقتضى الأحكام السلطانية إلى التشريع بمقتضى طبائع الأشياء هي من إنجاز ابن خلدون دون منازع.
وهي بداية جدية لوضع نظرية في الاقتصاد الإسلامي الذي أسس للجمع بين فضائل الفاعلية الاقتصادية الجامعة بين محفزات الإنتاج والتوزيع العادل.
فالملكية والتعاوض العادل خلال التبادل مع أهم مشجعات الإنتاج بالتعاون والتعاوض العادل والحد من تدخل الدولة واستقلال العملة مبادئ صريحة.
ومنها اقتصاد الدولة وقواعد ماليتها وقواعد الجباية ومنع الاحتكار والسخرة ومنع دور الجاه ومنع الدولة من التدخل في الأسواق والاقطاع عطاء وأخذا.
لكن أهم مبادئ وضعها ابن خلدون مستمدا إياها من فهمه لثورة الإسلام الاقتصادية، تمثلت في تقدير القيمة بكمية العمل المنتج للبضاعة أو الخدمة.
وثاني أهم مبدأ هو القول باستقلال العملة عن السلطة التنفيذية (السلطان) وضمنها إلى السلطة الرمزية(الخليفة) ومعها المكاييل والموازين ومراقبتها.
وثالث مبدأ هو منع الاحتكار وفرض حرية السوق بمنع تدخل الدولة فيه وخاصة المشاركة في التجارة وتحديد الأسعار بقوة الدولة أو إثقال الجباية.
وقد وصل إلى جعلها من جنس الزكاة من حيث النسب، حتى لا يفقد المنتجون والتجار الأمل الذي يجعلهم يعلمون بجد لأن ثمرة عمله لا تؤخذ منهم بالغصب.
وهو طبعا يقول بان انتاج الثروة هو المشكل الأول للجماعة ويعتبر عدل التوزيع من مجال الاقتصاد الاجتماعي الديني أو تضامن الجماعة الخلقي الديني.
وهو تابع لوظيفة الرعاية التي تكمل وظيفة الحماية: فالاقتصاد بحاجة إلى حماية شروط الإنتاج وهي تقنية (شروط التعاوض) وقضائية (عدل التعاوض).
وهو بحاجة إلى الرعاية بتوفير شروط التكوين والتموين ومنع ما يحول التنافس الضروري على تنمية الرزق إلى مصدر تنازع بدلا من أن يكون مصدر تعاون
فيتحقق المعنى العميق للاقتصاد السياسي الذي هو في الحقيقة التدبير السياسي لشروط الإنتاج والتوزيع الماديين بصورة تجعله لحمة توحيد وازدهار.
الكتيب