لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
– الفصل السابع –
بينت ثورات الإسلام في الأفعال الخمسة، أي في الإرادة والسياسة وفي العقل والعلم وفي القدرة والاقتصاد وفي الحياة والذوق وفي الوجود والرؤى: فلم؟
لم أفعل من موقف دفاعي ضد اعداء المسلمين أو بدافع عقدي ضد اديان منافسة. فلست أنطلق بدوافع سلبية تحركني بالإضافة إلى ما يحاك ضدنا وضد ديننا.
فدافعاي إيجابيان: 1-علمي نظري وهو إظهار ما اعتبره حقيقة يجهلها المسلمون أكثر من أعدائهم و2- خلقي عملي وهو الاسهام في تخليص الشباب من العقد.
فلا يكفي أن ينتسب الإنسان إلى الإسلام وحضارته وهو جاهل بفضائلها التي بها حررت الإنسانية كلها من داءين يحولان دون حريته الروحية والسياسية.
ولا معنى للاستئناف المنفعل الذي يتحول إلى مرض المعقدين أو ضغينة المحتقرين لأنفسهم الذين يدفعهم حب الانتقام كذراعي الاستعمار في الإقليم.
فأحدهما -إيران-يريد استرداد مجد سياسي أفقده إياه الإسلام بعقد أعمته عما أمده به الإسلام ليتحرر من عبادة العباد، فيصل إلى عبادة رب العباد.
والثاني-إسرائيل-وبنفس الضغينة دافع فعله ضد الإسلام القيم الكونية والموجبة، بل الانتقام من سلطان روحي كان يعتبره حكرا على شعب الله المختار.
مشكلهم مع المسلمين والإسلام أنه حرر البشرية من احتكار القوة السياسية والقوة الروحية، وجعل ذلك تراثا إنسانيا كونيا شرطه أخوة البشر وتساويهم.
فكيف لبيان الثورة الإسلامية في الأفعال الخمسة أن يجعل الأمة قادرة بهاتين الغايتين العلمية النظرية والخلقية العملية على الاستئناف السوي؟
كل من يصل هذه الفصول السبعة حول ثورة الإسلام في الأفعال الخمسة بما سبق الكلام عليه في مسألة درس التراث يدرك عسر المهمة ونبلها في آن.
ذلك أن عسرها الذي قد يحول دون علاجها قد يغلي رؤية نبلها خاصة وكلا صنفي المثقفين العرب النافذين باسم التأصيل والتحديث يمثلان أكبر العوائق.
فنخب التأصيل يخلطون بين ثورة الإسلام ونكوص المسلمين للجاهلية فيحاربون الإسلام بسبب الغفلة والحمية الجاهلية: يشوهونه بدعوى إحيائه قشوره.
ونخب التحديث بنفس التشويه لقيم الحداثة التي يشوهونها، إذ يقدمون أنفسهم ممثلين للحداثة فيحاربونها بمعاملة شعوبهم معاملة الاستعمار لأنديجان.
فيكون كلا النوعين من النخب التي لها موقف كاريكاتوري من الإسلام والحداثة في حرب أهلية دونكيخوتية تحول دون الاجتهاد والجهاد المبدعين للحضارة.
فثورة الإسلام لم تحرر البشرية بقشوره التي هي الفهم الكاريكاتوري لمرجعيتيه (القرآن والسنة) بل بلبه الذي هو تربية الإنسان وحكمه بالحريتين.
فبالحرية الروحية أبدع الإسلام المسلم المريد والعاقل والقادر والحي وصاحب الرؤية الوجودية التي تجعل الأحرار لا يعبدون إلا الله: قيم فقدناها.
وفقدها هو ما سماه ابن خلدون “فساد معاني الإنسانية” بسبب فساد النظام السياسي بوجهيه تربية (الأخلاق والعلم) وحكما (القانون والعمل):فصرنا عالة.
وما لم نحرر الأمة من “فساد معاني الإنسانية” بالإصلاح السياسي بوجهي نظامه التربوي والحكمي، لن يتحقق التحرر الروحي لأفرادها: فيمتنع الاستئناف.
لكن غايتي تتجاوز مجرد الاستئناف لأنه قد يكون استئنافا سلبيا هدفه الانتقام من الآخرين تماما كما يفعل ذراعا الاستعمار: أريده استئنافا موجبا.
فالبشرية واحدة من حيث هي مستعمرة في الأرض (أمهم المرضعة واحدة)، والبشرية مستخلفة فيها (مطيتهم لما يتعالى عليها): خلقت لتعبد الله وحده.
وعبادة الله هي غاية العلم والعمل على علم، أي الاجتهاد والجهاد في مدلولهما الذي حددته سورة العصر شرطا في الاستثناء من خسر الاخلاد إلى الأرض.
فالحرية الروحية هي التي تتعين في إيمان الفرد وعمله الصالح، والحرية السياسية تتعين في تواصي الجماعة بالحق وبالصبر: مستويا الاستخلاف الموجب.
لذلك فينبغي أن يكون الإسلام كما كان: قائلا بضرورة التعدد الديني شرط التسابق في الخيرات وبضرورة منهج التصديق والهيمنة علامة وحدة الحقيقة.
وكان ينبغي أن يكون نهجه المصدق للصادق والمهيمن على غيره نقدا تفكيكيا للتجارب الروحية والسياسية السابقة ومشروعا بديلا لتحقيق قيم الاستخلاف.
فتكون حقيقة الإنسان قابليته للتكليف وهو معنى الإرادة الحرة والمسؤولة المجهزة بعقل يفهم، وقدرة تنجز وحياة تذوق ورؤية تختار الشرعة والمنهاج.
كان لا بد إذن من إطلاع الشباب عن ثورة الإسلام في مجالات أنشطة الإنسان من حيث هو ذو إرادة وعقل وقدرة وحياة ووجود ثورته التي من حقه أن يفخر بها. وألا يكون فخره بها واعتزازه بداع عقدي فحسب، بل وكذلك لأن التحليل العقلي يثبت أنها فعلا ثورة تحرر وتحرير يخاطب الإنسانية كلها دون عنصرية.
فليس لأي دين من الدينين المنزلين أو الدينين الطبيعيين أي ما كان ذا تأثير في عصر نزول القرآن بذي كونية حقيقية لأنها جميعا قومية بل وعنصرية.
وحتى استثناء المسيحية من هذين الوصفين فهو متأخر بعد رسائل بولس. فالمسيح نفسه قال في الانجيل ردا على سيدة إنه إنما بعث لنعاج إسرائيل الضالة.
أما القرآن فهو للإنسانية كلها، بل ولكل الموجودات وخاصة المكلف منها ويكفي بخصوص الإنسانية الآيتان الأولى من النساء والثالثة عشرة من الحجرات.
وأولها رمز العلاقة المباشرة بالله (الصلاة) ثم أن يكون الأمر أمر الجماعة وأن تكون رعايته بالشورى بينها وأن يكون ذلك لإنفاق الرزق في وجوهه.
وأصل هذه الأركان هو الاستجابة إلى الرب وهي فروعه. فيكون الإسلام كدين خاتم نظاما تربويا رمزه الصلاة، وسياسيا رمزه رعاية شورية للأمر والرزق.
وقد بينت أن تحليل “أمرهم شورى بينهم” يثبت أنها تضمر أن الأمر أمر الجماعة وأن الجماعة ترعاه بالشورى. وهي مفهومات ثورية من اليسير بيانها.
فيكفي أن نترجم “أمر الجماعة” بمصطلح الفلسفة السياسية اللاتيني لكي نجد “راس+بوبليكا” أي إن طبيعة النظام جمهورية. فراس تعني أمروبوبلكيا جمهور.
وإذا ترجمنا “شورى بينهم” بالمصطلح السياسي اليوناني كان المعنى “ديموقراطية” أي حكم الشعب. فتكون طبيعة النظام جمهوري وأسلوبه ديموقراطي.
وانطلاقا من الحرية الروحية (النشاط الخامس) وتطبيقا في السياسة (النشاط الأول) نستنتج باقي فروع الثورة بنفس التناظر بين العاملين الرابع والثاني.
فالنشاط الرابع أو الإبداع الرمزي يؤسس للإبداع العلمي لأن الفنون الجميلة من حيث هي عبارة الذوق تكون جمالية منطلقا للمعرفية: الفن والعلم.
وهو لا يكون به إلا بتجنب ما يمكن أن ينتج عنه من شر: فهو مجال التنافس الذي ينقلب بيسر إلى التنازع فالتقاتل من أجل الرزق وخاصة من أجل احتكاره.
بإدراك هذه الحقيقة نفهم لماذا كان القانون الجنائي الإسلامي شديد التشدد في مجال حماية الملكية ورعايتها حتى إن الحقوق كلها هي رهن حمياتها.
فأساسيات السياسة والاقتصاد بل كل فروع الثورة الإسلامية فيها بوصفها رؤية للديني في الأديان: الاستعمار في الأرض علما وعملا بقيم الاستخلاف
الكتيب