لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
– الفصل الخامس –
المجال الذي يبدو الكلام عليه شبه مستحيل هو التعبير عن الحياة أو الفنون والذوق لفرط ما قيل ضده من فقهاء الانحطاط البعيدين عن ثورة الإسلام فيه.
كيف يمكنني أن ادعي أن للإسلام ثورة ذوقية وفنية وجمالية وكل الفنون تقريبا يحرمها فقهاء الانحطاط، حتى صار الفن من صناعة الأقليات غير المسلمة؟
وطبعا ما كان لي أن أصل إلى أعماق ثورة الإسلام في التعبير الذوقي عن الحياة من دون تنزيله في نظام القرآن ككل لتحديد نظرية الذوق القرآنية.
وقد كتبت في ذلك كتاب “الشعر المطلق والإعجاز القرآني” لأبين علاقة نظرية الذوق بنظريتي العلمين الأسميين: جوهر الرياضي شكلا وجوهر الأخلاقي مضمونا.
لكني فيه لم أهتم ببيان مصدر هذا التحديد القرآني لأن همي كان تحقيق وعد لم يف به ابن سينا جاء في شرحه لكتاب الشعر الأرسطي: الشعر المطلق.
نظرية الذوق القرآنية هي الشعر المطلق غاية للتعبير بالشكل الرياضي والمضمون الوجداني في علاج الشأن الإنساني بالعلم الرياضي والحرية الوجدانية.
لكني هنا أريد أن أبين ذلك بالاستناد إلى سورة الشعراء في علاقتها بسورة هود. وللاسمين علاقة بالذوق الفني والمعنى الخلقي الأسميين إذ ينحرفان.
والانحراف بيّن فيما آلا إليه في ظاهر الوجود الذي لا يغوص إلى حقيقة الثورة القرآنية. فالشعراء قد يحرفون الابداع الذوقي وشرطه الخلقي: الصدق.
و”هاد” ومشتقاتها الوظيفية والأسمية قد يحرفون الدين فيصبح ذا دلالة “فولتيرية” أساسه النفاق والتقية. وهود والشعراء تشتركان في تحديد التحريف.
وهما تحددانه بوصفه تخليا عن ثمرة الحرية والتكليف والعبارة الذوقية عنهما في الأذهان برمز “تنزل الشياطين” وفي الأعيان بمجالات الفعل الخمسة.
ومجالات الأفعال الخمسة رمزها أزواج متناظرة:1- موسى ونوح 2-وهود وشعيب 3-وصالح ولوط 4-إبراهيم ومحمد 5-لتحديد دور العقل والوجدان في حفظ الكيان.
ولن يستطيع متابعة الاستدلال من ليس له علم بدروس شللر في التربية الجمالية وفي علاقة الإبداع عامة بالحرية الابداع الرمزي والمادي في التاريخ.
بعبارة وجيزة ثورة القرآن الذوقية جعلت الإبداع مشروطا بالصدق والابداع الفعلي في ترقية الإنسان نحو شروط التحرر مما يحول دون الاستخلاف.
وبعبارة أوجز، هو دحض لنظرية العرب في الشعر: أجمل الشعر أكذبه. فهذا المعيار يوهم الناس بأن الشعر يتكلم في الخيال المخالف للواقع: خطأ مضاعف.
فأصحاب هذه النظرية السخيفة يحرفون معنى الخيال ومعنى الواقع. ظنهم أن الواقع هو الأمر الواقع، وأن الخيال هو ما يخالف المثال العقلي والوجداني.
يحرفون مدلول الابداع متصورينه صناعة السكارى اللفظية بدل كونه عصارة العلم الرياضي والوجدان الروحي تعبيرين عن الخلق الرمزي والقيمي التاريخي.
نظرية الذوق القرآنية في أسمى الفنون، قلبت المعايير العربية السطحية: أعذب الشعر ليس أكذبه بل أصدقه. إنه ليس خيال بل إبداع مثال الواقع الخفي.
ومثال الواقع الخفي كما تبين سورة يوسف بوضوح إبداع يتجلى في شكل رؤيا أولا تصبح تاريخا ثانيا، وذلك في مجال الحب والرزق والعلم والسلطة والدين.
وهذا الابداع الذوقي يكون رياضيا بشكله الموسيقي ووجدانيا بمضمونه الروحي. ثرثرات الذين يهيمون في الحانات (بدل الفيافي) فتزل الشياطين وليس فنا.
وجلافة فقهاء الانحطاط ظنهم خلطهم بين الفن وأساليب التكدي عند شعراء الانحطاط الذين اعتبرهم ابن خلدون سبب ابتعاد الأشراف عن تعاطي الشعر.
واليوم أكثر من تسع وتسعين في المائة من شعراء العرب كداؤون لأنهم لا يصبرون عن التخدير الذاتي ثم يزينون كديتهم بمساحيق ثورية لا تنطلي إلا على السذج.
فليس أفسد منهم بل إن جلهم، خدم لمخابرات بلدانهم أو لمخابرات أسياد حكامهم وحماتهم يفسدون الذوق لجهلهم بمقومي كيان الشعر وقيمه العلمية والخلقية.
لست غافلا بأن أدعياء النقد سيتصوروني أخلط بين الشعر والوعظ. وهذا دليل على أنهم هم الذين يخلطون بين الشعر والوعظ المضاد أو ما يتصورونه ثورية.
الإبداع الرمزي والفعلي بمعزل عن الوعظ والوعظ المضاد لأنهما يسهمان في الخلق الوجودي علما ووجدانا. ولهذه العلة وصلت بين سورتي الشعراء وهود.
وقد أقبل الاعتراض على علاجي مثل هذه القضايا المعقدة وشديدة الدقة في وسائل الاتصال الاجتماعي. لكن ذلك من مقتضيات المرحلة: التواصل مع الشباب.
فهم نهبة لهذين الكاريكاتورين من الذوق ونظريته القرآنية التي يشوهها مدعي التأصيل ومدعي التحديث ليس جهلا بها فحسب، بل بحقيقة الشعر ايضا.
ولا يمكنني الكلام على ثورة الإسلام في مجالات الأفعال الإنسانية الخمسة ثم أهمل الكلام في نظرية الذوق الجمالي من حيث عبارة الحياة الأسمى.
وما يكاد يقتلني ضحكا طرق إلقاء الشعراء المحدثين لشعرهم ظنا أن “تعويج” أشداقهم وزعاقهم وبصاقهم يعوج رياضيات الشعر الموسيقية. وهيهات هيهات.
وهم بذلك لا يختلفون عن عياط الوعاظ الجدد أو الدعاة “المعد” وزياطهم: كلاهما يجعل ما يبيعه للعامة وللمتحكمين فيهم من بضاعة مجرد ظاهرة صوتية.
لما أسمع النواح وكاريكاتور الذاتيات المباح عند الرهطين وما يصبهما من صياح ونباح، أفهم من الممول ومن المستهدف بهذا التحريف للشعر والدعوة.
هما في الحقيقة دعويان ودعوتان: تشتركان في التحريف بهدف التخدير وضرب البندير لمن يدفع أكثير للسكير ومنافقي أدعياء النطق باسم النذير والبشير.
لا فرق عندي بين تحريف الدين تحريف الشعر: كلاهما ناطق بتنزل الشياطين أو بما يفسد عقل الإنسان ووجدانه بدلا من بنائهما المبدع رياضيا وروحيا.
فمن دون التناغم الروحي لا يمكن للأناغيم الموسيقية أن تؤثر: والقرآن الكريم مؤثر بهما لأنه يخاطب مثال الواقع بصادق الخطاب لطالب الصواب.
أعلم أن أشباه النقاد سيرون في كلامي أخلاقوية وهي حجتهم المتبذلة بدعوى أن الفن بمعزل عن الأخلاق. دعوى حق يراد بها باطل. فالذوق أصل لا فرع.
والأصل أسمى من الفرع. لكنه يصبح أدنى إذا نفى فضائل فروعه لأنها هي ما به يكون أصلا لفروعه: وأعني الحرية شرط الإبداع والكرامة شرط تعبيريته.
وكلاهما يتجلى في سلوك أدعيائه: هل بالصدفة انحياز كل من يسمون أنفسهم فنانين ودعاة للاستبداد والفساد سواء كان قبليا أو عسكريا؟ أليس لكديتهم؟
فالمقاتل المرتزق لا يمثل الشجاعة والفروسية والشاعر والداعية المرتزق لا يمثلان الإبداع والدين بل يمثلان تحريفهما فضلا عن الجهل بمقوميهما.
وما يتنافى مع الارتزاق هو الصدق وابداع مثال الوجود بالشكل الرياضي تعبيرا عن العلم وبالمضمون الوجداني تعبيرا عن الخلق: تعالي جوهر الأصل.
ولو كانوا دارين بنظرية الشعر الارسطية وبقيمها الأفلاطونية لعلموا أن مجرد انحصار ما يسمونه شعرا في التعبير عن أحوال نفوسهم يخرجه من الشعرية.
ولو عملوا أن غياب البعد الرياضي (الموسيقى) والخلقي (الوجدان الكوني) لا يلغيه من الشعر فحسب، بل من التعبير عن مثال الواقع الخفي أساس كل إبداع.
فالشعر هو قمة ما يطلبه الدين والفلسفة لأنه غاية ما يمكن أن يتحقق فيه مفهوم الإنسان الذي هو الإبداع المحقق للاستعمار والاستخلاف في الأرض.
وهذا الإبداع مشاركة في الخلق. خلق مثال الواقع لأن الواقع ليس ما يجري في الأحداث بل ما يجعلها ذات وقع في الكيان والوجدان: إنه جوهر الحضارة.
لكنهم بالتحريف جعلوه عين الدعارة أي تنزل الشياطين بلغة القرآن فهو بمصطلح ابن خلدون “يفسد معاني الإنسانية” بالتربية التحريفية (أفلاطون).
فمن يتجاهل رأي أكبر شعراء يونان القائل إن الكلام على أحوال النفس دليل الاستثناء من الشاعرية ورأي شللر أن الإبداع والاخلاق شرطهما الحرية.
فهل رأيتم حرا مرتزق؟ أغلب أبواق الدعوة والشعر أبواق لتحريف الدين والإبداع وخدمة شياطين الإنس الذين أفقدوا الإنسان العربي حريته وكرامته.
ويكفي أن ترى من كانوا يدعون قيادة ثورة التجديد فإذا بالأحداث بينت أنهم عبيد الطائفية والعنصرية وخدمة الحرب الاستعمارية على شعبهم وأمتهم.
وحتى هذه الرذائل فهي عندهم ليست معتقدات صادقة، بل هي أدوات ترشحهم عند أعداء الإسلام لعلهم يناولون جائزة نوبل بدون نبل ولا شرف ولا كرامة.
ولست بحاجة لذكر الأسماء لعلتين:1- لأن التعريف بالوصف يغني عن الأسماء و2- لان هذه الصفات بلغت من العموم ما جعلها تصدق على جلهم أو كلهم.
لم يبق إلا أن أبين العلاقة بين سورتي الشعراء وهود فيما يتعلق بتطبيق الوظيفة الابداعية في الأزواج الخمسة الذين يمثلون الأفعال في كل حضارة.
سأفترض أن القراء مطلعون على السورتين ووحدة الأزواج فيهما: 1-موسى ونوح 2-هود وشعيب 3-صالح ولوط 4-ابراهيم ومحمد 5-مبدأ وحدة الزوجين فيها.
فمبدأ وحدة الزوجين فيها جميعا هو عين المرجعية الواحدة في ابراهيم الأول مؤسس الحنيفية الأولى وابراهيم الثاني الذي أسس الحنيفية المحدثة.
ابراهيم مؤسس الوحدانية لأنه يرمز لتحرير البشرية من داءين: بتخليصها من عبادة الطبيعة الأسمى (الأفلاك) ومن التضحية بالكائن الأسمى (ذبح ابنه).
ومحمد مجدد الحنيفية الأولى ومؤسس الحنيفية الثانية بجعل هذين الثورتين جوهر سياسته فأعاد عبادة الله وحده وحرر الإنسان نهائيا من التضحية به.
لكن هذين الثورتين اللتين كانتا في الحنيفية المحدثة الأولى (ابراهيم) مجرد مبادئ عامة أصبحتا ذاتي مضمون سياسي خلقي ترمز اليه بقية الأزواج.
فموسى ونوح: تحرير بالشرع من سلطان الطبيعة ومن الفرعونية. ثورة علمية وقانونية. العلمية إعادة بناء الطبيعة نفسها (استنبات زوجين أثنين منها).
والقانونية يرمز إليها ألواح موسى التي تضيف إلى الثورة العلمية (نوح بإعادة الطبيعة صناعيا) الثورة السياسية والقانونية ضد العبودة بالحقوق.
ويأتي دور الزوجين المواليين: هود وشعيب. رسالتهما في السياسة الاقتصادية وشروط التبادل والتعاوض العادلين ورمزها منع التطفيف كيلا واكتيالا.
والزوج الأخير أعني صالح ولوط: رسالتهما تدور حول سر الحياة أي الماء والجنس. فمن لم يفهم ذلك فهو إما غبي أو من جنس محرفي الدين والشعر.
فالدين هو التعين الفعلي للأخلاق أي للصدق (النفاق نفي له) وللجمع بين القول والفعل (التقية نفي له وهي أكبر مقت عند الله): والتحريف نقيضهما.
وحقيقة الشعر تعين فعلي لإبداع مثال الواقع الخفي وبه يكون الإنسان أهلا للاستخلاف: الحرية والكرامة وشرطهما الصدق والتطابق بين القول والفعل
الكتيب