لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله ثورة الاسلام
الفصل الثاني
الفصل الثاني من سلسلة “ثورة الإسلام أو الحرية الروحية والسياسية في التربية والحكم” للثورة الروحية: غرابة دين يستغني عن سلطة روحية كنسية. وسيليه فصل ثالث منها للثورة السياسية أو قسمها الثاني أي الحكم لأن الفصل السابق يدرس قسمها الأول أي التربية: حكم يجعل المحكوم حاكما في آن. غياب السلطتين “الروحية” و”الزمانية” وعدم الفصل بينهما باعتبارهما بعدي السياسة التي هي تربية وحكم ليس فيهما كنسية ولا سلطة متعالية ظاهرة فريدة. إنها الظاهرة التي اعتبرها هيجل مؤدية إلى هشاشة الدولة وسيطرة العنف واستحالة النظام المستقر المحقق للحرية بلغته: بسبب عبادة المجرد وحماستها. وتلك علة مقارنته بين ما يسميه التعصب الديني للتنوير الإسلامي وما التعصب العلماني لتنوير الثورة الفرنسية: كلاهما يحول دون استقرار الدولة. والعلة نفي الطبقية والعرقية وتعويضهما بالمساواة المطلقة والأخوة البشرية واعتبار الجماعة أصل كل شرعية في الحكم والتربية ولا سلطان إلا للقانون. حسمت علاقتي بهيجل كما بينت في الفصل الأول. فتحرير الإنسانية لا يتحقق بجدلية السيد والعبد أي تحريف الفطرة أو المعادلة الوجودية بل بإصلاحها. ولذلك فالإسلام هو فلسفة الإصلاح الدائم -متعينا في فكرة المجدد على رأس كل قرن-للتحريفات التي تطرأ على الفطرة السوية في المعادلة الوجودية. فمجرد كون الإنسان إنسانا لا يمكن تصوره غير واع بالمعادلة الوجودية: أي بالقطبين الله والإنسان وبالوسيطين الطبيعية والتاريخ وبالتواصل علما وعملا. وهذه المعادلة التي هي عين بنية الوعي الإنساني لا يمكن أن تكون ثمرة لعرضي العبودية والسيادة المعلولتين لتحريفها وليستا علتين لتحقيقها. جدلية السيد والعبد باقية ما بقي الإنسان وتتعلق بقابلية نكوص الإنسان إلى القانون الطبيعي وتخليه عن القانون الخلقي برد ها إلى صراع القوى. وبهذا المعنى فالحرية هي التي تعلل الصراع وليست نتيجته: لو لم تكن بنية وعي العبد المعادلة الوجودية لاستحال أن يصارع ولبقي عبدا أبد الدهر. فما يدرسه هيجل هو الأمر الواقع وليس الامر الواجب. ولا يمكن قلب العلاقة بين الأمرين فيجعل الواجب معلولا للأمر الواقع بدل العكس. فلسفة الإصلاح هي إصلاح الأمر الواقع بمقتضى الأمر الواجب. وهذا يقتضي أن تكون سيادة الواجب فوق الأمر الواقع فتكون وحدة الإنسان وعيه بالواجب. وهذا هو ما يسميه ابن خلدون بالوازع الذاتي قبالة الوازع الأجنبي: هيجل يجعل الوازع الأجنبي أصلا للوازع الذاتي فيصبح التاريخ فاقدا لما بعده. وإذا فقد التاريخ لما بعده وهو “الدين-الفطرة” يكون الخروج من التحريف أو جدلية السيد والعبد مستحيل الوقوع. كلاهما يبقى ما هو بقانون الطبيعة. فلا تكون الحرية والكرامة مقومتين لذاتية الإنسان بل هما عرضيتان لما ينتج عن صراع القوى بمقتضى القانون الطبيعي الذي يخضع للضرورة لا للحرية. لا يمكن استثناء الإنسان من الضرورة الطبيعية من دون “دين الفطرة” الذي يضعه فوق الطبيعة ويعطيه بعدي كرامته أي التكليف والمسؤولية: الخلافة. ومن دون استثناء الإنسان من قانون الضرورة لن يكون لمفهوم القيمة معنى: فخمستها تزول المعرفية والخلقية والجمالية والجهوية والوجودية. فباستثنائه من الضرورة الطبيعية يميز الإنسان بين الحق والباطل وبين الخير والشروبين الجميل والدميم وبين الممكن والممتنع وبين الواجب والعرضي. ولولا هذا الاستثناء لكان مثل عقله مرآة يعكس الموجود ولا يميز بينه وبين المنشود فيغرق في مجراه ولا يستطيع الطفو فوق أمواجه ليعيره فيغيره. فلا معنى لفلسفة التاريخ من دون فلسفة الدين: فلسفة التاريخ التي تستغني عن فلسفة الدين لا تكون فلسفة تاريخ حر بل هي فلسفة طبيعة مضطرة. لذلك كان هيجل يعتبر التاريخ الحكم النهائي والقاضي المطلق بمعنى أنه لا يميز بين الأمر الواقع والأمر الواجب وهو معنى تطابق العقل والواقع. لكن ذلك لو كان كذلك لما كان للحرية والكرامة وصمود المظلوم حتى يهزم الظالم معنى: وحتى لو سلمنا بأن التاريخ قاض فإن قضاءه سيكون في آخره. وتلك هي سخافة قوله بنهاية التاريخ وبخروج الإسلام منه. التاريخ يستأنف والإسلام عادة أقوى مما كان حتى لما كان سيد العالم. فالأمة ثاني قطب. وقريبا ستصبح أول قطب في العالم رغم ضعفها وتشتتها. لكن ما هي بالقوة هو ما ينبغي ألا ننساه. والإنسانية بحاجة إلى ثورة روحية والأمر محسوم. وسنبدأ الآن في إثبات الثورة الروحية أو بعد التربية من السياسة القرآنية: ليس بين المؤمن بالإسلام وربه سلطة واسطة في الدنيا وفي الآخرة: كنسية. وهذا هو الفهم السني في الواجب. لكن السنة بالتدريج صار نظامها التعليمي أشبه بسلطة روحية ليس في التربية والمجتمع وخاصة بتوسط الإفتاء للأفراد. فأصبحت الجماعة السنية تنقسم إلى علماء في الدين وعامة فيه وهذا مناف للإسلام تمام المنافاة. فالعلم بأساسيات الدين فرض عينه وليس فرض كفاية. وللتمييز بين خاصة وعامة في الدين نتيجتان وخيمتان: 1-الأمية ففرض الكفاية يغني غالبا عن التعلم 2-ولم يعد النظام سلطة علمية بل صار سلطة روحية وبسبب هذين الخطرين عمت بدعة الفتوى التي هي من علامات تحول نظام التعليم إلى سلطة كنسية إذ أصبح الفرد المسلم يحتاج لوسيط في كل صغيرة وكبيرة. وكم يضحكني كلام المفتين -وجلهم أميون ولا يدرون لأن حفظ المتون ليس علما فحتى الآلات تحفظها-على مهزلة المهازل: وجوب سؤال أهل الاختصاص. أساسيات الدين ليست اختصاصا لأنها فرض عين. وما عداها حذلقات لتبرير وجود وهم الاختصاص والخطأ لا يؤثر فالنية هي جوهر الديني في أفعال المؤمن. ولنميز بين السؤال العلمي في التعليم والبحث المعرفي والاستفتاء. فالأول يتساوى فيه السائل والمسؤول: وهو إذن شورى معرفية وليس استفتاء. أما الفتوى فليست بين عالمين يبحثان ويتشاوران بل بين “أمي” لا يريد أن يتحمل مسؤولية فعله فيبحث عن فقيه يريح ضميره لحل يشك في شرعيته. فالحلال بين والحرام بين وما بينهما من متشابه نحن مأمورون وبتجنبه. وهذا مبدأ عام يغني عن الفتوى فلا يبقى لها إلا هروب المستفتي من المسؤولية. وكم أمقت فتوى المحلل في الطلاق. ففيه سخرية من الدين واحتقار للمسؤولية وكل مذهب يغلب عليه مثل هذه الفتاوى هو مذهب مغشوش يشكك في تقوى صاحبه. والغريب أن الشعوب ليست غافلة عن ذلك. ففي تونس يوجد قول مشهور لمن يلجا لمثل هذه الفتاوى: يقولون “اتكأ على الحانفي” يعني اختار مذهب فتاوى الحيل. وهي بنحو ما صك براءة يعبث بالتقوى الصادقة فيحولها إلى نفاق لكأن الأحكام مجرد أسماء: حيلة المحلل تلغي حكما بينا وتشكك في تدين صاحبها. وبمثل هؤلاء “العلماء” أصبح الاستبداد والفساد ضرورة بحجة تقديم المصلحة وخوفا من المضرة التي يدعون أنها تنتج عن الثورة على الظلم والفساد. فيصبح فساد التربية أصلا لفساد الحكم لأنه يضفي عليه الشرعية الدينية: حتى صرت اعتقد أن هؤلاء الفقهاء أكثر الناس عدم إيمان واستهزاء بالدين. وحينئذ تفهم لماذا اعتبرت آل عمران التحريف نتيجة لحلف خفي أو صريح بين السلطة الدينية والسلطة السياسية لتحكيم الدنيا في الدين بدل العكس. لكن الإسلام ثورة ليس على هذا التواطؤ فحسب بل على وجود السلطتين المفصولتين على المؤمنين أنفسهم: أساسيات التربية والحكم فرض عين على كل مؤمن. أما ما هو فرض كفاية كاختصاص فني في التربية وفي الحكم فهو وظيفة يكون فيها لإنسان أجيرا للتعليم وللإدارة بمراقبة المتعلمين والمدارين أنفسهم. وأول شروط هذه المراقبة أنها فرض عين على الجميع وفرض كفاية على من لهم نفس الاختصاص في القيام بواجب المراقبة العلمية والفنية بطلب من الجماعة. ومعنى ذلك أن المراقبة لها مستويان: – مستوى الراي العام للجميع – ومستوى دليل الراي العام للمختصين الذين يستثيقهم الرأي العام للمراجعة المختصة ولذلك فالحرز الذي يعوض السلطتين اللتني ألغاهما القرآن هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في التربية والحكم بمستوييهما العام والمختص. وتلك هي العلاقة الأساسية لحرية الرأي الديني شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المعرفة والأخلاق تربويا وفي السلطة والقانون حكميا. ولم أعرج على شرح الآيات التي اشرت إليها في الفصل الأول فهي بينة بذاتها ولا تحتاج لشرح فضلا عن كوني أقول ببحث فلسفي لا تفسيرا لأي القرآن.
الكتيب