ثورة الاسلام، التربية دون وساطة والحكم دون وصاية – الفصل الثاني

**** ثورة الاسلام التربية دون وساطة والحكم دون وصاية

لم أفهم كلام ابن خلدون عن التربية العنيفة والحكم العنيف ودورهما في “فساد معاني الإنسانية” قبل وصولي إلى هذه النتيجة. كنت أتصور كلامه عن العنف ما كان معهودا عندنا في نظام التعليم القديم الذي كان الولي يقول للمؤدب “حاسبني بالجلد” وكان المتصوف يعتبر التعليم الصوفي “تغسيلا لميت”.

ما فهمته بعد أن قرأت القرآن قراءة فلسفية لما يقدمه حول الحريتين الروحية والسياسية أعني حول ضرورة تحرير الإنسان من الوساطة في التربية (الكنسية) والوصاية في الحكم (الحكم بالحق الإلهي أو بالحق الطبيعي) هو أن العنف المقصود لا يقتصر على العنف المادي بل يشمل الوساطة والوصاية.

فـ{لست عليهم بمصيطر} تشمل التربية والحكم أو بصورة أدق تشمل التربية التي تنتج عن حكم صاحبه مسيطر فهي أذن نهي عن السيطرة في الحكم وفي التربية التي هي تذكير بما لدى الأنسان من دين فطري وليست فرضا لعقيدة آتية من خارج كيان الإنسان الروحي: جوهر الحرية الروحية والحرية السياسية.

لست أدري كم من مرة أوردت نص ابن خلدون لكني سأورده مرة أخرى لأن دلالته أصبحت أعمق بعد تبين أن القصد بالعنف ليس العنف المادي وحده بل كل أنواعه وخاصة الوساطة بين المؤمن وربه والوصاية بين المؤمن وشأنه فردا وجماعة:  وهما علة فساد معاني الإنسانية فيهما فردا وجماعة.

ولكن قبل إيراد النص لا بد من بيان علة رفضي اعتبار نهضة المسلمين بدأت كما يتوهم بعض المفكرين بمجيء نابليون وعهد محمد علي في مصر أو بنشأة الجامعة الامريكية في بيروت إلخ.. من تأسيس النهوض على تفتت جغرافيتها أو دعوات القومية التي أعادت إليها أمراض العرقيات والطائفيات حربا عليها

فنابليون لم يأت لينهض أمة ميتة بل ليسهم في قتلها بخطة معدة منذ القرن السابع عشر (لايبنتز) للتصدي للخلافة العثمانية من خلف وفصل مصر حتى وإن كان في ذلك أيضا نوع من التصدي لإنجلترا باحتلال مصر وخاصة منذ أن نشأت أسرة محمد علي وفتح قناة السويس.

النهوض بدأ منذ أن شرع مفكرو المدرسة النقدية يتحسسون علل الانحطاط فشخصوا الداء تشخيصا يتعلق بالنظر والعقد (ابن تيمية وقبله الغزالي) وبالعمل والشرع (ابن خلدون) ووضع فلسفات جديدة نقدية عند الاول وتجاوزية للفلسفة اليونانية النظرية عند الثاني وللفلسفة العملية اليونانية عند الثالث.

أما ما بدأ مع مجيء نابليون ودولة محمد علي فهو مشروع تفتيت دار الإسلام بصورة تجعل شروط التنمية المادية والعلمية تصبح مستحيلة فتتكون محميات وليس دولا وما يعلل كون الأمة من ذلك الحين إلى الآن لم تحقق أدنى شرط من شروط الدور الكوني الذي يعود إليها بمقتضى منزلتها الحضارية.

فلو كانت النهوض هو استيراد مظاهر الحضارة لكانت دبي أرقى درجاتها. لكنها في الحقيقة غاية ما يمكن أن تصل إليه الأمم من اغتراب وفقدان للسيادة لأن من يعيش على الاستيراد والعجز عن الانتاج المادي والعلمي والروحي لا يسمى محضرا بل يعيش على قشور الحضارة: يكفي مصر باليابان أو كوريا.

ما تحقق بعد هذا الوهم هو تضاعف الظاهرة التي يصفها ابن خلدون ويعتبرها علة فساد معاني الإنسانية: فقد الإنسان المسلم بمثل هذا الفهم للحضارة ما يصفه ابن خلدون بعبارة “الإنسان رئيس بالطبع” إذا فقد رئاسته فقد كل معاني الحياة وصار يفضل العبودية على الحرية فتفسد فيه معاني الإنسانية.

ذلك أن “الرئيس بالطبع” لا يمكن أن يبقى لحياته معنى إذا فقد شروط الرئاسة وهي نوعان: القدرة على رعاية نفسه والقدرة على حمايتها. ولا يوجد بلد عربي أو مسلم اليوم يمكن أن يدعي أنه قادر على أي منهما ومن ثم فهو فما يسميه دولة محمية فاقدة للسيادة وأهلها عبيد مرتين للمستبد بهم وللمستبد به.

أورد الآن نص ابن خلدون وفيه قسمان:

  1. فساد معاني الإنسانية بسبب التربية العنيفة

  2. فساد معاني الإنسانية بسبب الحكم العنيف.

ولم يفصل ابن خلدون بينهما لأنهما بعدا السياسة التي ينقدها والتي يعتبر أصحابها يجهلون أن الإنسان “رئيس بالطبع” وهذا مفهوم ثوري لأنه يعني أنه حر بالجوهر.

والواضح أن هذا التعريف الخلدوني للإنسان بما هو رئيس بالطبع يعتمد على حجتين:

  1. قرآنية بدليل قوله بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له ولا يمكن لمن جعله الله خليفة في الارض أن يكون ذليلا وتابعا لغير الله

  2. من التاريخ الطبيعي للحيوانات المفترسة التي تتوقف عن المسافدة بمجرد فقدان حريتها.

وقد يتوهم الكثير أن كلام ابن خلدون غير صحيح لأن الأمم المغلوبة تتكاثر أكثر من الأمم الغالبة حاليا ولأن الحيوانات المفترسة تتوالد في أقفاص حدائق الحيوانات. ولهذه العلة لا بد من إيراد النص الثاني المتعلق بفساد معاني الإنسانية ويمكن القول إن معاني الافتراس يفسد مثل معاني الإنسانية.

فالأمم المغلوبة التي تتوالد فقدت الرئاسة بالطبع بسبب عنف التربية والحكم ففسدت فيها معاني الإنسانية وابن خلدون يتكلم على التي لم تفسد فيها معاني الإنسانية والحيوانات المفترسة التي تتكاثر في أقفاص حدائق الحيوانات ربيت من الصغر فيها ففقدت معاني الافتراس. ويبقى قول ابن خلدون صحيحا.

نختم الفصل الثاني بنص ابن خلدون: “ومن كان مرباه بالعسف والقهر من   المتعلمين أو المماليك أو الخدم

  1. سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها

  2. وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل

  3. وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا

  4. وفسدت فيه معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره

  5. بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل سافلين.

ونأتي الآن إلى القسم الثاني المتعلق بالحكم وليس بالتربية: “وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف واعتبره في كل من يملك أمره عليه ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به. وتجده فيهم استقراء” (المقدمة – المصدر نفسه). والنتيجة التي تهمنا هي أن الإنسان رئيس بالطبع قد تفسد إنسانيته.

وكما بينا الرئاسة بالطبع مستمدة من مصدرين أولهما قرآني وهو منزلة الإنسان الوجودية كخليفة والثاني علمي وهو سلوك الحيوانات المفترسة عندما تفقد حريتها. فيكون الإنسان معرضا لفقدان حريته بأصليها الديني والعضوي لعلل في النظام الحضاري الذي ينتسب إليه أي بنوع التربية والحكم.

ونوع التربية والحكم العنيفين يجمعان بين العنف المادي والعنف المعنوي وهما يفسدان معاني الإنسانية التي أحصيناها والتي هي نفسية وخلقية واجتماعية ومدنية ووجودية لأن الإنسان عندما تفسد فيه معاني الإنسانية تفسد نفسه وأخلاقه ووظائفه الاجتماعية والمدنية وينحط وجوديا فيرد أسفل سافلين.

وهذا هو المآل الذي يراد للإمة الإسلامية والذي لم ينجح أحد فيه لأن مقاومتها-رغم غلبة هذه الصفات التي ذكرها ابن خلدون على الكثير من النخب الخمس (السياسية والعلمية والاقتصادية والفنية والرؤيوية) -لم تتوقف أبدا وظلت تقاوم بالاجتهاد والجهاد إلى أن بزغ فجر الاستئناف: ثورة الشباب بجنسيه.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي