ه
لما أسمع الكلام على ما جرى في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية أعجب من كثرة التركيز على أنها ثورة نتجت عن غضبة شباب الثورة الذي لم ينل شيئا من ثمراتها. فقائدا هذه الثورة العلنيان ليسا من الشباب لأن سنهما يراوح بين الخمسة والستة عقود. ولا شيء يثبت أن المصوتين من الشباب أو من الشيوخ لهم الدوافع التي تعبر عنها أقوالهما.
فأقوالهما تأويل لاحق لفعل الانتخاب إذا لم يثبتا ان المصوتين عبروا عن تعليل للتصويب بما يطابق هذا التأويل ما يعني أنهما صاحبا حزب أو مكينة ذات إيديولوجية محركة لجماعة منضوية تحت تنظيم ما كالحال في الأحزاب العلنية أو التنظيمات السرية: وهو ما ذهبت إليه في تفسيري للنتيجة بفعل حركة سرية تقودها دولة الباطنية الجديدة وقد قلت في ذلك ما يكفي ولا حاجة للعودة إليه في هذه المحاولة.
لكنهما ينفيان ذلك ويعتبران ما يحدث عملا عفويا وليس وراءه ماكينة علنية ولا سرية عملا عفويا من شباب غاضب رفض السيستام. وطبعا فشتان بين رفض السيستام الذي يمكن أن يكون له مليون تفسير وحصر التفسير في رؤية هذين الزعيمين المنتسبين إلى سلفية علمانية (الفهم المتخلف للماركسية) وسلفية إسلامية (الفهم المتخلف للإسلام). وهما فعلا عينتان مما وصفته بالكاريكاتور التأصيلي (قيس) ومن الكاريكاتور التحديثي (لينين).
وقد كتبت في الكاريكاتورين الكثير. ولا حاجة للعودة إلى مسألة الفكرين الديني والفلسفي اللذين لهما القدرة على فهم مجريات الأحداث في التاريخين الروحي والسياسي للأمم والحضارات: فهذه أمور ليست في متناول الكاريكاتورين الماضغين لقشور الأصالة ولقشور الحداثة كالحال فيهما لأن تصديق الظاهر في هذه الحالة لا يليق بمن يريد أن يفهم الأحداث السياسية في لحظة مفصلية من تاريخنا الحديث.
والمهم أنه ليس للرجلين علاقة بالأحداث الجارية حاليا إلا بالأقوال الناتجة عن التأويل لتصدرهما المشهد كما لم يكن لهما في الأولى دور يتجاوز الأقوال – وقد شاركت أنا نفسي عديد المرات في الحوار مع تحركات الشباب وخاصة في شارع محمد الخامس قبل أن أقرر المشاركة في العمل السياسي المباشر لأنـي لم أكن ممن يقبل على عمل لم يتقدم عليه لديه التعرف على مسرح أحداثه ومحل جريانه. ذلك أن السياسة حرب باردة ومن يجهل أرض المعركة ليس أهلا لدخولها:
• وقد وكان لي كلام كثير ولقاءات مع سعيد وبعض من ساعدت الصدف على الجمع بيننا في لقاءات تحصل دون سابق تخطيط أو قصد. فرأيت منذئذ ان الرجل لا يمثل إلا عينة من كاريكاتور التأصيل بمعنى الثقافة الشعبية والتعبدية من فلسفة الإسلام. وهو فكر لم ينتج عن تجاوز للثقافة العامية بمعنى أنه ليس على بينة من تطور فكر الإسلام في مدارس التأصيل التي صار سنها أكثر من قرنين فضلا عما حصل في العصور الزاهية من تاريخ تطوره.
• أما الثاني فإنـي لا أعرفه لكنـي أعتقد أنه قد درس عندي لأن الحدث الذي يقال إنه من منظميه في منوبة يطابق مرحلة شروعي في تدريس الفلسفة بالجامعة التونسية حيث كانت المرحلة الأولى من الإجازة تقع في كلية منوبة. ولست متأكدا من ذلك وعادة ما لا أنسى من كان من المتفوقين سواء من المستويات التي أدرسها او من غيرها في قسم الفلسفة. ما يعني أنه لم يكن منهم. لكني سمعت تصريحاته الأخيرة فتأكدت أنه من كاريكاتور التحديث إذ هو يزعم التجاوز إلى ما بعد الحداثة وتجاوز أزمة الديموقراطية الغربية أي إنه يريد أن يتجاوز ما يحاول الغرب تجاوزه مما ليس له مثيل بعد عندنا أي تجاوز المعدوم: تجاوز الديموقراطية التقليدية من دون المرور بها مثل تجاوز الرأسمالية من دون وجودها فكانت نكبات البلاد الزراعية والمتخلفة هي الوحيدة التي ادعت الاشتراكية ورأينا ما حل بها أي إن الماركسيين عاندوا أول مبدأ في الماركسية فلم يصبح أي بلد رأسمالي ماركسيا ولم يدعها إلا من كان متخلفا ولم يصل حتى إلى بداية الرأسمالية.
وما يحصل الآن لا يمكن الحكم عليه أو له إلا من حيث هو أقوال ما لم يثبت لنا هذان الزعيمان المزعومان أن ما حصل في الانتخابات ثمرة أفعال محددة يمكن أن تنسب إليهما خلال الحملة أو قبلها في تنظيم مؤثر علني أو سري لا يهم.
وكل التحليلات التي رايتها وخاصة تلك التي يزعم أصحابها الاختصاص في الاجتماع تبني على عدم التمييز بين فاعلية الأقوال وفاعلية الأفعال فضلا عن كونها تتصور أن من يتزعمون القول هم عينهم من يتزعمون الفعل وأن التأويل البعدي للأحداث بالانطلاق من تصدر الأقوال يطابق حتما من يتصدر الأفعال أو أن الأقوال وحدها تغير الأحداث فيصبح لهما فاعلية “كن” فيكون.
لذلك فسأحاول بيان الفرق بين الأمرين لأبين ضرورة عدم الاكتفاء بالأقوال.
وقد سبق فقدمت فرضيات ليس هنا محل اثباتها لكن الأحداث ستثبتها.
وقصدي بقيادة الأفعال أصحاب المكينة الخفية -لأنها ليست علنية على الأقل إلى حد الآن إذ لا وجود لحزب أو منظمة ما يترأسانها- المكينة التي حققت ما بدا للجميع وكأنه من معجزات قادة الأقوال. ومن دون بيان ذلك فلا عجب إذا اعتبرنا ما يحصل من المعجزات أو من المفعول السحري لأقوال هي من أغبى ما سمعت في السياسة لأنها دون الكتاب الأخضر للقذافي.
فلا يوجد من يمكن أن يصدق -مهما كان أميا ومن المدافعين عن المعجزات في الحالة- أن تنظيم الشباب المزعوم حصل بمجرد الأقوال التي ظلت صامتة ما يقرب من عقد ثم تفجرت دفعة واحدة في الانتخابات الرئاسية دون أن يتوسط بينها وبين تفجرها ما وصل القول بالفعل.
عندي إذن خمس قضايا:
• اثنتان للأفعال.
• واثنتان للأقوال.
• والأخيرة تجمع بين الأقوال والأفعال أو ما يجعل الأفعال بينة النتاج عن الأفعال أو عدميته ما يعني أن وراء الاكمة ما وراءها.
فلنفحصها بسرعة وقد نعود إليها:
- أقوال سعيد:
كما وصفت صاحبها أقواله كلها من جنس كاريكاتور التأصيل أعني السلفية الدينية الحمقاء. وليس فيها من مشروع تطبيقي إلى ما لا يتجاوز تخريف معمر القذافي من دون ما لديه من إمكانيات مادية يمكن أن تسمح له بالتجريب لأن شعبه قليل العدد وثروته الكبيرة تمكنه من اللعب بالمرتاح. لكن سعيد لو جرب -وهو لن يستطيع لأن أبناء تونس حتى لو تحامقوا لن يستطيعوا أن يعيشوا دون دولة شرطا في العمل الذي يعوض ما ليس لهم من ثروة مثل ليبيا أو الجزائر أو الخليج. - أقوال فيلسوفه:
كما وصفت أقوال صاحبها بكونها من جنس كاريكاتور التحديث أعني السلفية الماركسية الحمقاء التي ليس فيها ما يتجاوز بعض أوهام ما بعد الحداثة وتجاوز الديموقراطية التقليدية. فهو يريد أن يتجاوز ما يعيش أزمة في الغرب من دون أن يكون قد حصل عندنا لا هو ولا ما ترتب عليه من أزمة بدعوى ما بعد الدولة وبفكر يزعم ما بعد حداثي من دون حداثة. ولو تدبر ما حدث في أغنى بلد من أمريكا اللاتينية -فنزويلا-وما أدى إليها هذا الحمق من حال لانتحر. - أفعال سعيد:
الجلوس في المقاهي مع العاطلين دليل عطالة لا دليل تواضع. ليته خصص وقته للبحث العلمي الذي يمثل مقابله في أجره أكثر من ثلثيه فكان يحصل عليه دون أن ينتج في البحث العلمي ما يعني أن الرجل لص ولا يدري أو يدري ويقبل فيكون بذلك أفسد من صاحب المقرونة الذي كان يتصدق بأموال غيره من المتصدقين ليس ترحما على أبنه بل تمويلا لحملته. - أفعال فيلسوفه:
لعله تدرب في البحرين على فنيات الباطنية هناك. فالبحرين كما هو معلوم هي رأس الحربة الإيرانية التي هي بكل المعاني لبنان ثانية. لكني لم أسمع بشيء قدمه للشباب فكريا أو علميا وما يقال عن دوره النقدي لفكر حزب الصبابة لا يستثنيه مما تقدم على هذا النقد بعد الثورة. واعتقد أنه من جنس من عرفت من طلبة اليسار زعماء بالأقوال وصبابة بالأفعال. والطلبة المتياسرون كانوا صبابة الصبابة. فهم لم يكونوا ممن يدرس حقا بل كانوا ممن يستعملهم قادة الإيديولوجيا الماركسية في الجامعة من “الأساتذة” الذين يعارضون في وضح النهار حتى يشتهروا بالتقدمية ويعملون صبابين بالليل أو مدرسين عند النظام حتى يكون لهم ما يترتب على القرب من تكليف بـ”تجفيف المنابع” وتحمل المسؤوليات في إفساد التعليم باسم الإصلاح. - أصل ذلك كله علاقة الأقوال بالأفعال.
وأصل إلى الغاية من محاولة الفهم بالاعتماد على ما نعلمه عن السلوك الفعلي وليس على الأقوال.
• فلا أحد يجهل أنه لا يمكن في تونس أن ينتدب مساعد في اختصاص خاصة مثل تدريس القانون لمن عرف عنه المعارضة الصادقة. واترك للقارئ الاستنتاج مع معلومة لا بد منها وهي أن كاريكاتور التأصيل هذا لم يعلم عنه أنه عارض شيئا يوما بل هو كان من المفضلين في خدمة النظام ونوابه في مجلس شهود الزور.
• ولا أحد يجهل أن الماركسي في تونس ينتسب إلى أكبر “حزب” في تونس وخاصة في عهد ابن علي. فهو حزب كل اليساريين وكل القوميين وكل الذين كانوا يعادون بورقيبة الذي كان يرفض أن تكون تونس لائكية ويعتبرها إسلامية تقدمية بمعنى أنه كان عدو كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث لأنه كان متمكنا من الثقافتين مثله مثل الأستاذ مورو. هم كانوا ماعون صنعة ابن علي في ضرب الإسلاميين وتجفيف المنابع وإعطائه شرعية من نسب زائف مع اليوسفية والتقدمية.
وختاما فإن الشباب من حقه أن يغضب وأن يثور. ومن حق الشعب أن يعتبر النهضة قد تخلت على الكثير مما كان يميزها لأن الفساد طال المقربين من قيادتها وما كان استراتيجية لتجاوز الزوبعة في الإقليم ركبه الكثير ليجعله مشاركة في الغنيمة مع النظام الفاسد الذي أعاده هذا اليسار الذي خدم به ابن علي ومعه الاتحاد. فصارت النهضة تعاني من عامل التفجير الخلقي الذي يجانس ما عانى منه حزب نداء تونس من التفجير السياسي: ما عانى منه السبسي بسبب ابنه يعاني منه الغنوشي بسبب من يماثلون ابن السبسي لديه. وعليه أن يحددهم وأن يبعدهم قبل أن تصبح رأسه هو ذاته مطلوبة من قاعدة النهضة. وحينها لن يلومني إذا كنت أول المنادين بابعاده عن النهضة لئلا يحصل لها ما حصل للنداء.
ومع ذلك فإني أستطيع أن أقول إن نتيجة الانتخابات تفيد أمرين: - الأول والثاني كلاهما مقدوح الشرعية. الأول لأن انتسابه إلى المافية بين للجميع. والثاني لأن دليل عدم الانتساب إلى الباطنية ليس بعد متوفرا لأني لا أعتقد أن حجة غضب الشباب كافية لتفسير ما لا يفهم من دون جهاز فاعل يترجم الغضب إلى فعل.
- وإذن فالشرعية الفعلية ليست إلا من حق الأستاذ مورو الذي نعلم من هو ونعلم من رشحه ونعلم من عمل في حملته ونعلم ما الامكانيات المادية والرمزية التي استعملها. وإذن فما أسفرت عنه الانتخابات بين أن النهضة على ما فيها وما بها ما تزال “سفينة” نوح لإنقاذ تونس من أمراضها مع حاجتها لهذا الإصلاح الضروري والعاجل. ومن دون ذلك فقد تخسر الانتخابات النيابية فتصبح اقلية عديمة التأثير في الأحداث.
اللهم إني بلغت.