لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
تنبيه مدير الصفحة:
أحيل القارئ إلى العرض السابق في عشر مسائل، الذي نضيف إليه هذه المسألة الأساسية للرد على الكثير من السفهاء الذين يتطاولون على ابن تيمية وهم لا يزالون عائشين في العصور الخوالي التي تجاوزها بفكره حتى كاد يكون معاصرا لأهم ثورات العقل الإنساني الحالية.
النص:
كلما حاولت فهم المتحاملين على ابن تيمية وخاصة المغرقين منهم في اتهامه وجدت لسوء فهمهم عذرا في طرافة فكر الرجل وثوريته. وليس هنا محل بيان هذه الطرافة والثورية بل نكتفي ببعض الأفكار نلخص فيها قضية ما بعد المنطق. ونحن نعلم أن تخلفهم بالقياس إلى ثورته يجعلهم مواصلين إلى الآن مجادلته من منطلقات فنون خمسة جميعها أتت عليها ثورته فتجاوزها فكره ولم يعد بالإمكان فهم إبداعه بالانطلاق من إشكالياتها:
فهو أنهى بلا رجعة معركة الديكة بين المتكلمين والفلاسفة أيهما أدرى بالحقيقة النظرية عامة والحقيقة العقدية خاصة وذلك من خلال نظريته فيما بعد المنطق التي أدركت حقيقة القصور المنطقي الذي كان سائدا قبل ثورته (صريح المعقول الصوري الذي غاية التصوير فيه النمذجة للمضمون المفترض). فالعلم قبل ذلك لا يمكن الحسم فيما هو من مجاله وليس من مجاله. وقد كانوا يتكلمون فيما لا يقبل العلم بالمعنى العلمي الذي يمكن التأكد من علميته.
وهو أنهى بلا رجعة كذلك معركة خدم السلطان بين الفقهاء والمتصوفة أيهما أدرى بالحقيقة العملية عامة والحقيقة الشرعية خاصة وذلك من خلال نظرية ما بعد العمل التي أدركت حقيقة القصور التاريخي الذي كان سائدا قبل ثورته (صحيح المنقول أو علم ما بعد التاريخ كما حاول وضعه ابن خلدون لنقد الأخبار والتمييز بين ما يعلم وما لا يعلم من التاريخ).
وفي الجملة فهو تجاوز علل التردي الذي عرفته هذه الفنون الأربعة وما تستند إليه من فن مؤسس تأسيس تبرير لا تأسيس تعليل أعني تفسير القرآن الكريم الذي يدعي أصحاب هذه الفنون الانطلاق منه في الظاهر وهم في الحقيقة ينطلقون من تبرير مواقفهم به تبريرا هو في الغاية نفيا لأهم ما جاء فيه أعني ما يجعل هذه المعارك بصنفيها دليلا على خروجهم عن أهم قيمه المعرفية والخلقية.
وقد تحقق ذلك كله بفضل الثورة المنطقية التي ما كانت لتكون ممكنة من دون وضع علم جديد يمكن أن نسميه ما بعد المنطق التيمي. وفيه يعالج مسالتين مضاعفتين:
الأولى تتعلق بطبيعة تصوير العناصر التي تتألف منها البنية المنطقية من حيث وصلها أو فصلها عن إطلاق بنية معينة مستقرأة من مضمون ما. والهدف هو تحرير التصوير المنطقي من ميتافيزيقا هوية الحدود لجعله مجرد جهاز تحديد محدده الوحيد هو الغاية من التصوير والاقتصاد في العبارة: صرف الوجود.
والثانية تتعلق بطبيعة قواعد الاستنباط من حيث وصله بفرضية التطابق إيجابا وسلبا مع موضوع يعتبر بنية وجودية لكل موضوع معلوم. والهدف هو تحرير الاستنباط المنطقي من ميتافيزيقا التواليف بين الحدود بالأعراض الذاتية لجعله مجرد لوجاريتم استدلال ينقل من المقدمات إلى النتائج ومحدده الوحيد هو الغاية والاقتصاد: نحو الوجود.
ويعني ذلك أن ابن تيمية اكتشف أن المنطق لغة صناعية ذريعية ذات تقطيعين مثل اللغة الطبيعية وأن ما يحدد بعديها:
ما يمكن أن نسميه بالمستوى الصرفي (قياسا على اللغة الطبيعية=التقطيع الأول تكوين حدود النظرية التي هي جهاز رمزي للتعامل مع موضوع معين ولا وجود لبنية مطلقة هي بنية الموضوع المطلق)
وما يمكن أن نسيمه بالمستوى النحوي (بنفس القياس=التقطيع الثاني قواعد التأليف بين الحدود لبناء نسق النظرية ذات الوظيفة التي حددنا).
لذلك فهو يعتبر هذه العملية إضافية بمعنيين: إضافية للمخاطب إذ نبني خطابا يناسب ما يدركه من المسألة وما يجيب عن أسئلته وإضافية للموضوع إذ نبني نظرية تناسب ما يحل مشاكل العلم بذلك الموضوع في ذلك المستوى من تقدم المجهود المعرفي في ذلك المجال.
وبذلك فهو قد انتبه إلى أن المنطق الأرسطي حالة خاصة من علم المنطق الذي هو أشبه بالأنساق الرياضية أو النماذج النظرية التي تضع شبكة من التصورات ومن قواعد تأليفها لعلاج موضوع معين حقيقي أو فرضي:
فعندما يكون الموضوع حقيقي فالاحتكام النهائي يكون للتجربة لقيس نجاعة النموذج التفسيري طبعا مع شرط معيار التناسق المنطقي بمقتضى قواعد ذلك النموذح. وهو ما يمكن أن نطلق عليه الرياضيات المطبقة أو المنطق المطبق.
وعندما يكون الموضوع افتراضي فالاحتكام النهائي يكون للمناظرة مع الموضوع الافتراضي كما تصورته الفرضية وطبعا مع شرط التناسق المنطق بمقتضى قواعد ذلك النموذج. وهو ما يمكن أن نطق عليه اسم الرياضيات الكلية أو المنطق الكلي.
وبذلك يكون ابن تيمية قد اكتشف الطريق إلى وضع عدة نماذج منطقية وعدة أنساق رياضية. وهو قد شرع إيجابا في وضع نموذج للتفسير ونموذج للفقه لم يسبق فيهما وقدم منهما نماذج حررت العلمين من المآزق التي آلا إليها. وشرع سلبا في وضع نموذج حجاجي قضى به على علم الكلام والفلسفة اللذين كانا مسيطرين في عصره. واجتماع المشروعين هو تجاوز الميتافيزيقا القديمة كلها كما يتبين من قولته الشهيرة:
وطبعا فكعادته لم يبين ابن تيمية ما وعد به إلا تلميحا وبصور مشتتة في أعماله كما في وصفه لعلاقة المنطق الأرسطي بشروطه الميتافيزيقية التي أهمها أن يكون العقل الإنساني في صورته التي تعينت في ذلك العصر العلمي مقياسا للوجود (المعيار السوفسطائي المتخفي). وما وعد به يعتمد على ما وصفنا في بعدي الثورة أعني:
من مفروضات الميتافيزيقا الأرسطية التي تتصور الحد مطابقا لحقيقة المحدود وليس مجرد وصف بعلامات والتأليف بين الحدود مطابقا لبنية الوجود وليس مجدر الجوريتم لتأليف الرموز الفرضية الدالة على تناظر فرضي بين النموذج النظري وما نتصوره حقيقة الموضوع نريد بيان بينته المجهولة بالقياس إلى بنية النموذج المعلومة.
ومن ثم يستنتج ابن تيمية علة التناقض بين الإسلام والمنطق لأنه يعود في النهاية إلى اعتبار العقل الإنساني في صورته المنطقية الجزئية مقياسا للوجود وهو معنى السفسطة بحيث إن الانتباه إلى هذا التناقض هو الذي كان الخيط الهادي إلى ثورتيه الفلسفتين اللتين أنهتا الميتافيزيقا القديمة ومعها علم الكلام وما يستمده منهما التصوف وخاصة تصوف وحدة الوجود.
فقال:
” (ذلك أي تصور واجب الوجود عند الفلاسفة والمتكلمين من منطلق قسمة ابن سينا الثلاثية للكلي : بشرط وبلا شرط وبشرط لا) وأمثاله هو سبب ما اشتهر بين المسلمين أن المنطق (أي الأرسطي) وحقيقة لوازمه (الميتافيزيقية شروطه وما يترتب عليها) يجر إلى الزندقة. وقد يطعن في هذا من لم يفهم حقيقة المنطق (الأرسطي) وحقيقة لوازمه (الميتافيزيقية) ويظن أنه في نفسه لا يستلزم صحة الإسلام ولا فسادة ولا ثبوت حق ولا انتفائه وإنما هو آلة تعصم مراعاتها عن الخطأ في النظر. وليس الأمر كذلك بل كثير مما ذكروه في المنطق يسلتزم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات” المصدر نفسه.
وكل من له معرفة بالثورة المنطقية والرياضية التي جعلت منطق أرسطو ورياضيات أقليدس مجرد عنصر جزئي من المنطق مشروط بمسلمات ميتافيزيقية تجعله لا فاعلية له إلا عند البقاء في النظرية الوجودية الهيلومورفية القائلة بالمقولات العشر وبالجواهر الثواني وبالأعراض الذاتية إلخ… من الشروط التي من دونها لا معنى للمنطق الأرسطي.
الكتيب