تونس – رؤساء الجمهورية الخمسة – قصتي معهم

– قصتي معهم –



لتحميل المقال أو قراءته في صيغة و-ن-م pdf إضغط على العنوان أو الرابط أسفل النص



أشرع في الكلام على تجربتي مع الرؤساء الخمسة.
لكن لا ينبغي أن يفهم من ذلك أني أستمد من الكلام عليها أدنى مجد
فكلها مهازل ليس فيها رائحة من المجد.

أبدأ بالتجربة مع الرئيس الأول بورقيبه رحمه الله.
سنة 1957 أول انقلاب على النظام بتحويل وجهة المجلس الـتاسيسي الذي انتخب لوضع دستور المملكة.
كنت حينها في الثالثة ابتدائي.
وكان يعيش معنا في الأسرة عم أمي.
وهو رجل أمي لكنه حكيم.
يوم أعلن عن عزل الباي قال قولة تذكرتها يوم عزل بورقيبة.
كان اليوم غائما بشدة اظلمت معها السماء بتلبد السحب
فقال لنا عم الوالدة:
الله غير راض عما يجري. وهذه علامة على أن الفاعل سينتهي نفس النهاية.

طبعا لا أصدق مثل هذا التوقع رغم أنه قد وقع كما تم توقعه
.ومثله عزل الذي عزله.
طبعا ليس لذلك دلالة علمية ولا فلسفية.
لكنها مؤثرة في العقد الشعبي.
لذلك فقد سمعت الكثير من الشيوخ يقولون يوم عزل بورقيبة:
كما تدين تدان

والآن أبدا الكلام على تجربتي مع بورقيبة.
أول مرة رأيته عن قرب كان سنة 63 يوم الاحتفال بالتحرير
وكان معه عبدالناصر وابن بلة قرب ميناء بنزرت.
كنت حينها في الثالثة ثانوي.
ما بقي عالقا في ذهني أمران:
استئذان عبد الناصر بورقيبة للكلام في عروبة تونس
وتأكيد ابن بلة على عروبة المغرب إذ ردد ثلاث مرات:
نحن عرب.

بعدها بثلاث سنوات لقيت بورقيبة في ساحة كلية 9 افريل الحمراء بوصفي أول الخريجين في باكالوريا الآداب الحديثة ولم يكلمني إلا حول نقصان الكرافات في هندامي.

وبين هذا اللقاء واللقاء الاخير حدثت حادثتان واحدة كانت كتابية والثانية شفوية.
فأما الكتابية فكانت حول ما قاله في العربية
واما الشفوية فكانت حول ما قاله في هزيمة 67.

ولأذكر بلقائي الأخير معه في قصر قرطاح بوصفي أول الخريجين من قسم الفلسفة في كلية الآداب من جامعة تونس الأولى ومن دار المعلمين العليا سنة 69.
وكان التعليق مرة أخرى حول الكرافات.
لم يكن هذه المرة حول غيابها ولا بالكلام بل هو مد يده لتعديل ميلها فشكرته على ذلك
وكان ذلك بحضور المرحوم الباهي الأدغم (الوزير الأول)
والسيد أحمد بن صالح (وزير التربية).

لم أذكر حادثتي الكرافات تحكما
بل القصد هو الدلالة على مفهوم بورقيبة للحضارة ما هي
فالأمر ليس تافها
بل هو عميق الدلالة:
لم يهتم بغيرها رغم أنه لا يمكن أن يكون قد لاحظ أني أقرب إلى الأصالة مني إلى الحداثة بالمعنى الذي يريد فرضه على تونس.

أما الحادثتان

فأولاهما الكتابية تعلقت برد نشره أستاذي وصديقي فرحات الدشراوي الذي كان مدير جريدة الحزب الحاكم رغم جرأتها:
احتججت عن تدخله (بورقيبة) في ما لا يعنيه لما قال في العربية ما اعتبرته احتقارا للآداب واللسان.

أما الثانية فأخطر
لأني دُعيت لاجتماع لجنة التنسيق بمناسبة فشل تجربة التعاضد..
وكنت حينها منتسبا إلى الحزب الحر الدستوري.
فقلت ما جعل الحاضرين يعتبرون جرأتي دليل غباء سياسي
لأن نتيجته إلغائي التام من حياة الحزب.

قلت إن بورقيبة هو نفسه الذي حدد الحكم في الأمر:
فينبغي أن يستقيل كما طالب عبد الناصر بالاستقالة.
وكانت حجتي أن الهزيمة في معركة عسكرية أقل قابلية للتوقع من الهزيمة في معركة اقتصادية من حجم تجربة التعاضد
ومن ثم فالمسؤولية أثقل
فليتحملها
وليستقل.

وأختم بملاحظة أخيرة:

كلنا فرحنا بالتحول لما صدقنا صاحبه.
ولكن بمجرد أن بدات لعبة الميثاق الوطني
بدأت أشك
فكان ردي على سؤال جريدة الصباح رفض الفكرة من الأصل
ذلك أن الشعوب لا النخب هي التي تحدد هوياتها

وذلك خلال التاريخ المديد:
وضع السؤال بمجرده دليل تحول خطير في النهج الجديد.
وقد راينا النتائج فعلا خلال حكمه لمدة 23 سنة.

وبعدها مباشرة بدأت التجربة الثانية مع ابن علي وهو حي وإذن فلا أحتاج لشهود.
أول تجربة كانت من زملاء أرادوا الأيقاع بي لعلاقتي بالمرحوم محمد مزالي.
لم أكن اخفي علاقتي به.
لكني لم أكن من المقربين ولا من ذوي الامتيازات
بل كانت علاقتي به عن بعد وثمرة احترام لزميل (استاذ فلسفة) ولديموقراطي (أول نص نشره كان في الديموقراطية) متصالح مع هوية البلد بصدق (أول داع للتعريب وللمصالحة مع الإسلاميين).

زميلان حاولا الإيقاع بي

أحدهما استفزني في قاعة الأساتذة مدعيا أن مزالي قد لعب بي ولم يعطني شيئا لكأني كنت أنتظر منه شيئا فتفوهت بكلمة كادت تؤدي بي:
قلت لا يهم حتى لو فرضنا ما تقول صحيحا. أنا عملت مع زميل وأستاذ منذ 1951
لا مع “كابورال” مثلك.
التورية كانت واضحة:
أي أني لست مثلك اعمل مع كابورال
والقصد بين يعني ابن علي الذي هو جنرال
ولكن ككل جنرالات العرب مجرد كابورال أو دون ذلك لأنه لم يشارك في أي حرب.
السيسي ماريشال.
وهو أجبن من دجاجة إلا على شعبه

الثاني كان من زميل في التاريخ كان للمرحوم محمد لمزالي عليه من الفضل ما لايقدر.
لكنه بلغ المعنيين عني بأني حاولت في قاعة الأساتذة جمع إمضاءات لدفع الظلم عن مزالي الذي حوكم ظلما وعدوانا.

مرت الأيام وجاءت لحظة احتياج ابن علي لتغيير الدستورحتى يترشح لمدة لم يكن الدستور يسمح بها.وبات الجدال بين الحكم والمعارضة لا مدار له إلا حول هذا الموضوع
كان ذلك في ربيع 2000.
لم يعجبني أن يقتصر هم المعارضة والحكم على المسألة الدستورية مع تغييب الأهم اي المسألة السياسية التي هي أخطر ما في أمر الحكم بعد مآل النظام البورقيبي وفشل محاولة الإنقاذ.

وقبل أن أدلي بدلوي من منطلق علمي القليل في القانون العام استمعت للموقفين الغالبين على المعارضة أي موقف اليسار (حضرت ملتقاهم في مقر الحزب الشيوعي) وموقف حزب الشابي (حضرت عدة لقاءات في مقر حزبه). فأدليت براي لم يعجب الصفين المعارضين.
لاحظت أولا غياب التحليل السياسي:
فالحزب الحاكم يريد التمديد.
والمعارضة ترفض.
لكن علتي الأزمة غابتا
وهما العلتان اللتان لا تزالان موجودتين حاليا في تونس بل هما سبب التعثر الحالي منذ ست سنوات.
ففشل ما سمي بالتحول أو الانقاذ بعد 7 نوفمبر (انقلاب ابن علي على بورقيبة) فيه شيء يمكن نسبته إلى فساد الحزب الحاكم وخاصة مافية الأسرة الحاكمة.
لكن ذلك لا يكفي:
فنخبة الحكم البورقيبي انقرضت
وحكم ابن علي لم يكون نخبة بل مافيات
ولم يتكون بديل سياسي معتبر
فالشرعية التاريخية للحزب الذي تحقق الاستقلال على يده انتهت.
وشرعية الانقاذ تآكلت
ولا يوجد من يستطيع السيطرة على الأجهزة الأمنية والعسكرية وغير الموجود أي المافية الأقوى حينها -مافية ابن علي وأسرته:
إذن كيف نعيد البناء.

افترضت ثلاث فرضيات كلها تبين طبيعة الأزمة:
1-التمسك بنص الدستور
2-وعدم ترشح ابن علي
3-وفوز المعارضة.

وسالت السؤال التالي:
هل تستطيع المعارضة إذا فازت في الانتخابات أن تسيطر على الاجهزة والدولة العميقة؟

طبعا كل الفرضيات كانت وهمية لأن الدستور كان سيحور وبيد معارضيه من اليسار
وابن علي كان سيترشح
والمعارضة لم يكن بوسعها أن تنجح حتى لو لم يترشح ابن علي .
ولا يزال الأمر على ما هو عليه إلى حد الآن:
وتلك هي علة عودة النظام القديم
وعلة استحالة التحكم في المافيات
لأنه لا يعبر إلا عنها مع فقدان المافية المسيطرة التي كان يمثلها ابن علي وجماعته.

لذلك فما حدث بعد الثورة بين ولو بصورة مـتأخرة أني كنت على حق.
وكنت قد اقترحت في نصي أمرين:
ابن علي بحاجة لتغيير الدستور
نعطيه الشرعية ونقبل إذا قبل بشروط خمسة حددتها فيه.
1-أول الشروط أن يخرج ابن علي من الحزب الحاكم ليصبح رئيس كل التونسيين
2-الشرط الثاني أن يسمح بتكوين أربعة أحزاب أخرى:
اسلامي وقومي ويساري وليبرالي مع التجمع.
3-الشرط الثالث أن يعلن العفو التشريعي العام لتنقية المناخ.
4-الشرط الرابع أن يحد من سلطة رئيس الدولة المطلقة
5-والشرط الاخير أن يتكون البرلمان من غرفتين واحدة للتشريع والثانية للتفكير .
وتكون الغرفتان
واحدة بالأسماء للحكم بالأغلبية والمعارضة
والثانية بالنسبية للتفكير حتى يكون الجميع ممثلا فيها حتى نسمع كل تيارات الفكر في البلاد بحرية
وعندئذ نسمح لابن علي أن يواصل الترشح ولو لمدتين.
فلا يهم من يحكم بل المهم كيف يحكم.
ثم إن البلاد بحاجة لمهلة كافية تتكون فيها نخبة سياسية قادرة على تسيير دولة:
وما يزال المشكل هو هو إلى اليوم.
فالنخبة التي نراها تتقافز عابثة ولا تمثل المعنى السليم للنخبة السياسية المدركة لواجبات الحماية والرعاية شرطي السيادة.
وقد طلب مني وزير التعليم العالي -الدكتور الصادق شعبان- أن ألخص النص في ورقة ليعرضه على الرئيس الذي سبق أن وصل إليه النص وعلمت أنه قد سبني غاضبا.
والعهدة على الراوي.
لكنه لسوء الحظ توفي وهو أعلمني أن أحد النواب بلغه جواب الرئيس وهو ناقد أدبي مشهور من رواد قهوة باريس.

والنص نشر في القدس في نهاية الخريف 2000.الأيام الثلاثة الأخيرة من السنة.
وعلمت أن سبب تأخير النشر هو الانتفاضة الثانية التي شغلت هيئة التحرير عن الاعتناء بمسألة محلية في تونس.
ونشر تلخيصا بالفرنسية في جون افريك قبل ذلك سبب لي الكثير من المشاكل لأن القراء يحكمهم منطق “ويل للمصلين”
نسوا الشروط ولم يروا إلا ما اعتبروه قبولا بالتمديد.

وهو نص رغم وضوحه وما فيه من الشروط جعل الأقزام يتهمونني بأني كنت فيه مناشدا لابن علي فكان ردي:
فليكن
ناشدوا مثل هذه المناشدة وسأعتبركم أبطالا:
لكنكم جبناء لا تشترطون
وبلداء لا تفهمون طبيعة الازمة السياسية التي تعاني منها تونس:
جل النخبة من جنسكم مجرد “نبارة”.

بعدها بسنتين هاجرت إلى ماليزيا.
لم أعد اطيق كثرة “القوادة” في الجامعة وخاصة ما كانوا يريدون توريطي فيه بسبب عدم مجاراتهم ضد الطلبة الإسلاميين ورفضي استغلالهم للنفوذ الجامعي ليعيثوا فسادا واستبدادا:
النخبة الجامعية أفسد من النخبة السياسية لأنها في الحقيقة من توابعها وتعمل قوادة لديها

وهكذا نبدأ الكلام في تجربة الرئيس الثالث -المبزع- قبل أن يصبح رئيسا أي بعد عودتي من ماليزيا وقبل الثورة.
حضرت اجتماعا في الصادقية حول إصلاح التعليم.
كان المبزع رئيس الجلسة باعتباره رئيس جمعية قدماء الصادقية وممثلا للحزب إذ كان رئيس مجلس النواب في آن.
وأنا حضرت رغم أني لست صادقيا لأن ابنيّ الاثنين درسا في الصادقية
والبكر كان الأول في دفعة الخرجين منها في امتحان الباكالوريا وهو ما مكنه من الدراسة في باريس بالأقسام التحضيرية.

كان موضوع اللقاء مدرسة الغد.
وكان القصد في الحقيقة كيف نحاكي ما يجري في المدرسة الفرنسية أي إن كل إصلاحاتنا المزعومة هي نقل قردي لما يجري هناك دون اعتبار الفارق.
طلبت الكلمة.
ولما جاء دوري تكلمت بالعربية لبيان الفرق بين السياقين.
لست ادري ما الذي أصاب الرجل فرد علي بصلف وعنجهية استغربتها.
وافترضت أن العلة هي أني تكلمت بعربية سليمة.
ظنني زيتونيا.
ومن هم من جنسه يحتقرون الزيتونيين.
ولأني فهمت ذلك رددت عليه بنفس الصلف والعنجهية
لكن هذه المرة تكلمت بالفرنسية.
ذلك أن ما جاء في رده هو المباهاة بأنه درس في فرنسا ويدعي أنه لم ير الفارق. بين فرنسا وبيننا.
فكان ردي لست وحدك من درس فيها.
وكل من يفهم في شروط التربية السياقية يراه إن كان ذا بصيرة.
عزمت على الخروج لكن الاستاذ محمد الصياح كان بجواري فأمسك بي
وقال لي “لا تأخذ عليه” فنحن نعرفه جيدا
وفهمت ولست أشك في سلطانه المعنوي على هذا النوع من شهود الزور فقد كان سيدهم في الحزب.

“برا يا زمان وايجا يا زمان” (وتعني بالتونسي مضت مدة)
قامت الثورة
واصبح الرجل رئيس دولة وقد كان لعدة مرات رئيس مجلس النواب الصوري
وهو ما جعلني أعرفه بكونه “شاهد زور” من بني وي وي.
أظن أن هذا كاف.

لكنه هو الذي بأمر من الدولة العميقة عين الباجي وزيرا أولا بعد سقوط وزارتي الغنوشي
ومعه المعارضة التي هاجمت نصي المشار اليه.

يوم أعلن السبسي قبوله التسمية وزيرا أولا كنت نازلا من اعتصام القصبة الثاني
ودخلت الاسواق في بداية المدينة العربية.
فسمعته يحكي قصة التارزي الشهيرة فجلست في أول مقهى لأسمع حكايته.
وقد كتبت في تأويلها مرات
ذلك أن الرجل ما يزال يخيط للشعب التونسي كل الحبائل الممكنة لانه يعتبره مثل خروتشاف “قعر” (بدوي) وهو البلدي (مدني) سيلعب به تحيلا.
وآخرة حيله كذبة حكومة الوحدة الوطنية.

لذلك فأول لقاء به كان غير مباشر .
كان بهذا النص التأويلي لقصته عن التارزي أصيل رومانيا الذي خاط كسوة خروتشاف
ونجح في ما فشل في أجود الخياطين الروس لقطعة قماش دورموي أهدتها إياه ملكة بريطانيا.

لكن أول لقاء معه وجها لوجه كان بعد أن نجحنا في الانتخابات
وجاء إلى المجلس في تنصيب الحكومة الشرعية الأولى في تاريخ تونس
والتي كنت أحد مستشاري رئيسها فحرصت على أن أبلغه رسالة.

قلت له آمل أن تكون قد خرجت من الباب الكبير بعد أن أوصلت البلاد إلى انتخابات نزيهة.
وكان قصدي أني أدرك أنه ينوي العودة إلى الحكم بما خاطه لخروتشاف أي للشعب التونسي.

وذلك ما حدث وقد ذكرته بما قلت له يوم دعاني إلى قرطاج في ربيع هذه السنة للكلام في رسالتي المفتوحة التي وجهتها له بعد موقفه الذي شكرته عليه بسبب رفضه ما اقترحه عليه ممولو الثورة المضادة من تقليد السيسي.
وحادثني مدة ساعة ونصف
فبلغته رسالة ثانية أظنه لم يفهمها أو فهمها ولم يعرها اهتماما:
تكلمت معه على شرط المنزلة في التاريخ وكيف يمكن تحقيقها
خاصة إذا كانت في محاولة لمحاكاة بورقيبة.
وأظنه لم يفهم الرسالة بدليل ما يجري حاليا:
لن تضاهي بورقيبة باعادة تمثاله.

والآن لماذا ذكرت بكل ما سلف؟
ليس من للفذلكة ولا للتنكيب
بل لبيان أن الازمة متأصلة في تونس منذ أمد طويل ككل بلاد العرب:
القشر حضارة واللب بداوة.
الاسم رئيس جمهورية والمسمى رئيس قبيلة.

ولعل أكبر علامة على كون تونس لا ندري من يحكمها أن رئيسا عاصر من ملوك تونس ورؤسائها عددا كبيرا يكوّن ديوانا وحزبا من جنس ما فعل لا يمكن أن يكون صالحا للحكم
فضلا عن ان يكون صالحا للحكم بعد ثورة.

وأعلم أن الكثير يعتبر معارضتي للمرزوقي مساهمة في نجاحه.
ولا أخفي ذلك.
فتصوري كان ينطلق من أن كل ثورة تليها راستوراسيون بمعنى “عودة المانيفال”
وأن هذه العودة من الأفضل التعجيل بها وجعلها تقع في أقل حظوظ النجاح بالنسبة إليها.
لذلك فترشح شيخ في التسعين بحزب مهلهل يعني أن كل أعوار النظام القديم ستفضح بسرعة
ومن ثم فالثورة ستعود على اساس يأس تام من النظام القديم.
أما لو نجح المرزوقي فإن الفشل المحقق سيقلب الآية
وتصبح عودة النظام القديم بشباب جديد نهاية الثورة لقرون.

ذلك هو تحليلي واجتهادي.
وأظن أن الأحداث تؤيد ما ذهبت إليه:
فالنظام القديم الذي عاد يحتضر الآن
ولعل بقاءه بات مرهونا بأخطاء النهضة خاصة والمعارضة عامة.
لكن هذا مشكل آخر ليس هنا محل الكلام عليه.

وهكذا فقد وفيت بوعدي
ذلك أن ما يجري يمكن أن يفهمه الشباب أكثر انطلاقا من تجربة معيشة حقا
ولي شهود بخصوص من مات
والاحياء فلن يمكنهم التكذيب.
وإذا نازعوا مع ذلك فالأحداث نفسها تبين أن ما وصفت هو عين ما يجري الآن.
فالتاريخ لا يخلد من يقتصر إنجازه على إعادة تمثال والتساهل مع الزطلة ومحاولة جمع كل السلطات بين يديه رغم أن يديه مكتوفتين لأن المافيات التي فرخت وتعددت لم يعد أحد يستطيع السيطرة عليها إلا بشرعية عميقة هو فاقدها بحزب لا اساس له اجتماعيا وعقديا.

ورغم أن المجالس بالأمانات فلا بأس من أتكلم في أمر ما أظنه بالسر
لأني اعتقد أن الرئيس لا بد قد حكاه لكل من التقاهم:
وهو قصة حياته الريفية.

ففي قصها وإن بصورة غير واعية تبرؤ من اتهامه بأنه ذو نزعة بلدية تحتقر من يسميهم “المارك” أو من اعتبرهم قد “وسخوا” القصبة لما نصب أول مرة.
وما كنت لأذكر هذا لو لم يكن له صلة بأمر عشته في سبعينات القرن الماضي لما كنا نقاوم مع المرحوم حسيب بن عمار الدكتاتورية
وأسسنا أول خلية لحقوق الإنسان في تونس.
وهي الخلية التي استقبلت رمساي كلارك وزير العدل الامريكي الذي تحمس للدفاع عن حقوق الإنسان لما يحيا الضمير في المسؤول الغربي بعد الحكم.
وقد حاصرنا البوليس في المطار لمنعنا من لقائه

رأيت الأستاذ الباجي مرة أو مرتين يزور المرحوم حسيب
فكان يمر دون أن يحيينا
ولعله لم يكن يعتبرنا حتى موجودين نحن الشباب
بل كان في عبارته الجسدية صلف وعنجهية رغم ما في بدنه من قزمية.
وما أظن ذلك من لوازم من له صلة بالدولة بل هو موقف ممن ليس من الأسر النافذة أو ممن يعدون “تفش” وهي عقلية ما تزال سارية:
ما وراء البلاكات رغم أني من مدينة أصيلة هي مدينة بنزرت التي تمثل جاليتها الأندلسية رمز الأصالة.
فهل تكون قصة التربية الريفية اليوم تكفيرا عن هذه العنجهية التي كنت أعجب لها ومنها من رجل ينتمي إلى حزب بورقيبة المعروف بالانغماس في الشعب؟

هذه الذكرى هي مسك الختام في كلامي على رؤساء تونس الذين لا أعتبرهم قد وفقوا في تحقيق ما يحلم به الشعب الذي فتح فجرا جديدا في تاريخ الامة.

كيف أتكلم على مسك الختام وقد قفزت على الرئيس الرابع المرزوقي فلم أقل عنه شيء؟
كنت انتظر هذه الخاتمة لأعود إليه.
موقفي منه معلوم
ولا حاجة لشرحه:
فمنذ الانتخابات الأولى عارضت تعيينه رئيسا
ولي على ذلك شهود كثر.
ولا داعي لبيان العلل لأني لم اره قبل الانتخابات إلى مرة واحدة في لقاء حصل في مركز حزب الشابي.
يومها علمت أن الرجل لا يصلح للسياسية لا في المعارضة ولا في الحكم.
وعندي من الفراسة ما يكفي لفهم ذلك.

أما كيف أدخله في قصتي فذلك ذو صلة بالرئيس الخامس أي السبسي.
فعندي أن المرزوقي هو المسؤول على إعطائه فرصة الظهور بمظهر المنقذ من الترويكا.
كيف ذلك؟

تذكرون قصة التارزي الروماني.
أولتها حينها بأن السبسي كان منذ تعيينه وزيرا أولا في عهد المبزع ينوي الانتقام من بورقيبة وليس استكمال مهمته.
والتفسير اجتماعي نفسي رغم ما يبدو عليه من تفاهة:
فبورقيبة ليس بلديا
وهو من أذل أذل البلدية.
حكم بالشعب وليس بالنخب.
وتزوج منهم.
كان اغلب وزرائه من أبناء الشعب فقضى على عنجهية البلدية وكبريائهم.

والثورة كانت مناسبة للمبزع والسبسي للثأر .
لكن الانتخابات حسمت
فأعادت أبناء الشعب للحكم بشرعية لا جدال فيها.
وكان ينبغي للحكم الجديد أن يتجاوز هذا المنطق فيئد نزعة الثأر .
كان ينبغي أن يكون الشعب صاحب العفو عند المقدرة
فيعتبر السبسي من الطلقاء
ويكلفه برئاسة الدولة لسنة تحت سلطان الشعب والمجلس.
فتكون نهاية النظام القديم بنهايته
لأن البقية انفرط عقدهم.

ذلك كان مقترحي.
لكن المرزوقي اصر على الرئاسة
فخضعت النهضة للشعبوية المرزوقية التي أعادت المقابلة:
“بلدية – افاقية” بشطحاته الهندامية
وشعبويته المقيتة
فأصبح السبسي المنقذ من الحكم “القعر”
والشعبوية التي لا يحبها حتى اهل الريف.

وكان يمكن أن تقف قصتي معه عند هذا الحد
لأني فشلت في منع اختياره للرئاسة في المرة الأولى.
لكنه أعاد الكرة
وترشح للمرة الثانية
وهو أمر خطير عزمت على محاربته بكل قواي.
ذلك أنه لو نجح لكنا في وضع مصر الآن
ولأمد جبهة الانقاذ السبسية بفرصة القضاء على الحركة الإسلامية في تونس
بسبب تهور من لا يقرأ العواقب.

لكن بعض صبيانه تصوروا رغم علمهم بموقفي منذ الانتخابات الأولى أن موقفي منه ناتج عن رفضه -بعد استقالتي من الحكومة والمجلس واعتزالي السياسية نهائيا- تعيييني سفيرا في اليونسكو.
وهم واهمون أولا لأن رفضي له متقدم على المقترح في حكومة العريض دون علمي:
فيكون رفضه هو الناتج عن موقفي وليس العكس.

وهم يعلمون أني لو عينت لكنت خاسرا ماديا ورمزيا.
فماديا عملي يدر علي اضعاف أجر الوزير فضلا عن أجر السفير
ورمزيا لست بحاجة للسياسة حتى اعرف.

ومعنى ذلك أني لو قبلت في فرض عدم اعتراضه
لكنت مضحيا من أجل الثقافة العربية وليس طامعا في شيء احتاج إليه.

أما لو ارادوا معرفة سبب موقفي فهو صلته بخطة السبسي
فبنحو ما أستطيع القول أني أكثر بورقيبية من السبسي
بمعنى أني احتفظ بصورته لما كان قائدا
وهو يحتفظ بصورته لما صار مقادا من بطانة فاسدة معلومة.
ونفس هذه البطانة هي التي أوصلت ابن علي
وهي التي قضت على ابن علي
وهي التي يمكن ان تقضي على السبسي لأنها تمثل أرذل عمر الدولة المريضة:
والمعلوم أن ابن خلدون سبق له أن قال إن الدولة إذا مرضت فلا أمل في شفائها إلا بثورة.

ومن علامات الدولة المريضة ظاهرة السبسي والمرزوقي:
التنافس بين البلدي الجامد والبدوي الجامد.
وهذا الكسر في ثقافة تونس هو مرضها الحالي.
ما العمل للخروج منه؟

الدولة فقدت مهابتها بسبب هذا الكسر:
عودة شكليات المقابلة بين البلدي والبدوي التي قضى عليها بورقيبة الذي كان من الشعب وارضخ البلدية.
لكن الصراع الذي أعاده المرزوقي جعل تونس تعود إلى ما قبل الاستقلال.

سأكتفي بمثال من سذاجة المرزوقي وبداوته:
رئيس دولة بعد ثورة عينته رغم كونه لم يحصل على ثقة الشعب إلا بقدر هزيل (دون فخر عشر ما حصلت عليه من الأصوات)
يسأله شخص عن سمي له باللقب (يعني أنا) فيجيبه:
ليس كل المرازيق رجال.
يعني أنه هو الرجل وأنا مشكوك في رجولتي. لا لشيء إلا لأني لم أرضه رئيسا لتونس.
ماذا يفهم السائل؟
لن يصدقه بل يتهمه في أهليته لأن يكون رئيسا لأنه لا يحترم المخالف.

وسأكتفي بمثال من صفاقة السبسي:
رئيس دولة يعيد ثانية نفس الخطأ السياسي ليقضي على المؤسسات الدستورية
فيكون أول من يشتري النواب قبل الانتخابات
ثم الآن بعد انفراط حزبه لا يليق بها.

صحيح أن مشاركتي في إفشال المرزوقي قد تكون ساهمت في إنجاح السبسي بقدر مهما كان ضئيلا.
لكن ذلك مقصود:
فنجاح السبسي يعني تسريع الراستوراسيون.
وهو المطلوب في الاسترايتجيا الثورية.
حصولها مع شيخ قد لا ينهي المدة ومع جيل هو مضطر للعمل معه يعني فضح الستين سنة المتقدمة على الثورة
ومحو ما تتهم به الثورة في تعليل الوضع.

أما لو نجح المرزوقي فالنكبة كانت ستكون من جنس ما حصل في مصر أو أكثر
لأنه سيمكن شابا من جيل المافيات الجديدة من تكرار 7 نوفمبر بسبب لهفته الدالة على السذاجة و”خفة العقل”.

تلك هي علل موقفي
ولست أقولها الان فتبدو وكأنها تفسير بعدي
بل ذلك ما ذكرته لما أعلنت عن وقوفي ضده
وحذرت النهضة بنصوص منشورة لمنعها من تأييده.


– قصتي معهم –


يرجى تثبيت الخطوط
عمر HSN Omar والجماح ياقوت AL-Gemah-Yaqwt أندلس Andalus و أحد SC_OUHOUD
ومتقن الرافدين فن Motken AL-Rafidain Art وأميري Amiri
ونوال MO_Nawel ودبي SC_DUBAI
واليرموك SC_ALYERMOOK وشرجح SC_SHARJAH
وصقال مجلة Sakkal Majalla وعربي تقليدي Traditional Arabic بالإمكان التوجه إلى موقع تحميل الخطوط العربية
http://www.arfonts.net/


نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي